تحظى شخصية باتمان بشعبية هائلة، سواء في الأوساط الفنية أو على المستوى الجماهيري، فهي على المستوى الفردي تتجاوز مساحة البطل الخارق التقليدي، الذي يكتسب قيمته من خواصّه الفوقية والماورائية، فيما يتحرك باتمان من العادي ولكنه ينطلق نحو الاستثنائي، ما يخلق أرضية مشتركة بين البطل -لأنه يتجسّد كإنسان عادي في المقام الأول- والمشاهِد.
بالإضافة إلى ذلك، يكتسب باتمان قيمة مضاعفة كونه جزءًا من الثقافة الشعبية للجيل الحالي، وتمنحه هذه النقطة قبولًا مجانيًّا للجماهير، بيد أنه حال كل الشخصيات السينمائية، في حاجة إلى التطور والتعزيز من حين إلى آخر، فهو على عكس الكثير من الشخصيات يخضع للعديد من المعالجات، ما يشكّل خطرًا على علاقة الشخصية بالجمهور في المقام الأول.
ويمكن رصد هذا في بداية الألفية، حيث لم تخاطر شركة وارنر براذرز بشخصية باتمان، لأنها كانت قد خرجت لتوّها من عدد كبير من الإخفاقات، خصوصًا مع المنافسة الشرسة لشركة مارفل، بيد أنها في نقطة ما كان عليها إعادة الشخصية الأسطورية إلى الشاشة، فشركة DC تستند بشكل عام إلى شخصيتَي باتمان وسوبرمان كنموذجَين ثريَّين، لذا قررت المغامرة بإعادة إنتاج الشخصية، ووضع الثقة في مشروع المخرج كريستوفر نولان، ليخرج لنا بمعالجة درامية عصرية لشخصية باتمان.
تصوُّر منفصل عن قصص الكوميك، نتجَ عنه ثلاثية من أفضل إنتاجات أفلام الأبطال الخارقين على الإطلاق، لتنتعش شخصية باتمان مرة أخرى بإعادة خلق (Reboot) مميزة ومهمة في تاريخ نوعية الأبطال الخارقين السينمائي، وتنتقل الشعلة من يد إلى أخرى، ليتناول كل مخرج شخصية باتمان بمنهجية مختلفة ورؤية فردية ومشروع خاص، حتى تصل الشعلة إلى يد المخرج المميَّز مات ريفز، الذي أصدر نسخته الخاصة من باتمان هذا العام، لتصبح واحدة من أفضل الأفلمات لشخصية باتمان على الإطلاق.
النسخة الأكثر قتامة
إذا انتبهنا لمشاريع ريفز السابقة، سنلاحظ أنها تتحرك في المساحة نفسها التي يتحرك خلالها فيلم The Batman الآن، فالجوّ الأبوكاليبسي الظلامي واللغة البصرية القاتمة كانا حاضرَين بقوة في جزئي “كوكب القردة” اللذين أخرجهما، بيد أن الأمر هنا مختلف قليلًا، فشخصية باتمان تحتاج إلى تأسيس قوي، والفارق أن هذه الأجواء جزء من شخصية باتمان ذاتها، لأنه -في ذلك الفيلم على وجه الخصوص- لا ينفصل بشخصه عن المكان.
فإذا تلاشى المكان أو افتقد جزءًا من تكوينه، سيختفي باتمان الذي عهدناه، لهذا التأسيس المكاني جزء ضروري من تكوين الشخصية ذاتها، ومن هذا المنطلق حرص مات ريفز على الاعتناء بتفاصيل مدينة غوثام، ومنحها خواصَّ معيّنة بحيث تتجسّد كخليط من الأنماط المرئية، وتبرز كتصور فريد يعكس قلب المدينة الفاسد وروحها المظلمة.
إنها نظرة مختلفة تمامًا عن تصوُّر نولان للمدينة، حيث تظهر كنموذج يكتسب خصوصيته من التلف المستشري في أركانها، ويتجلّى هذا بوضوح في شخصية باتمان المشحونة بعنفوان الانتقام، الحاضنة لقانون العقاب كوسيلة للتغيير في بداية الفيلم.
كل شيء في الفيلم يتحرك من المكاني، تقع المدينة موقعًا جوهريًّا في الحكي، بدايةً من الاستهلال البصري للجرائم والوقائع التي تتبدّى كحوادث اعتيادية، السطو وممارسة العنف كمنفس للتسلية،حيث تظهر المدينة كبؤرة للانحطاط، تسيّج بوجودها الفيزيائي هذه الجنايات، وتنغلق على المجرم والجلاد في محبس يؤسِّس لعلاقة احتجاز.
لا مكان للفرار من جحيم غوثام، وفي الوقت نفسه لا حياة خارج إطارها المكاني، هذا الانكفاء على المحلي كإشكالية غير قابلة للضبط ينجم عنه صوت ولون هوياتيّان يطبعان الحكاية من البداية حتى النهاية، يرصدان شخصية المواطن داخل غوثام، ويمنحنان انطباعًا أوّليًّا عن المدينة.
اللقطات التأسيسية لبروس واين فيما يراقب المدينة بالهالوين، أو على دراجته النارية، تعرض شخصية باتمان كمطهِّر وليس كبطل خارق أو مخلِّص لغوثام، والمصطلحان يختلفان في معنَيهما، فالمطهِّر له حدود معيّنة لا يمكن تخطّيها، له منهجية فردية، لا يمكنه تخليص المدينة ولا حتى أن يكون أملًا للنجاة في هذه المرحلة من حياته، أي أنه لا يصنع مستقبلًا أو يستأصل ورمًا كامنًا في المنظومة، لأن المنظومة ذاتها عبارة عن ورم جسيم في حاجة إلى الاختراق، فينكشف السقم والبلاء الكليّان.
ويوثّقُ هذا صوتُ باتمان في الخلفية بمحاذاة الصورة، فالصراع الليلي للجريمة لا يضمن إصلاحًا نفسيًّا أو ارتقاءً اجتماعيًّا، حيث محاولة بروس واين لتغيير الأمور محاولة سطحية، فالمعضلة غائرة في طبقات المجتمع لا يمكن اجتثاثها إلا بمحو المدينة معها إلى الأبد.
لهذا مواظبة باتمان على مهامه الليلية لا تحمل غوثام نحو مستقبل أفضل، بل ربما تزيد الأمر سوءًا على المستوى السيكولوجي حينما نتحدث عن بروس واين، لأنه يرى نفسه مسؤولًا بشكل أو بآخر عن محاربة الجرائم، مكلفًا بدفع الوباء عن غوثام.
هكذا يقدّمه لنا مات ريفز، كرجل يحمل عباءة المخلِّص، يسير وفق منظومة أخلاقية صارمة، ولكنه يغرق في تلك العباءة فلا ينفكّ يخلعها ويواجه حقيقة كونه لا شيء في مواجهة الوجود الذي يشمله كفرد، في مواجهة مدينة زاخرة بالمشاكل.
اللغة السينمائية
تأثر مات ريفز بعدة أفلام خلال صنع فيلم The Batman، تنكشف بعض من هذه الأفلام في لغته البصرية واستيعابه للتفاصيل وتحويل النص الأدبي إلى منتج بصري، أفلام مثل Seven لديفيد فينشر، وChinatown لرومان بولانسكي، لمحات كثيرة يمكن إرجاعها لأصول فنية وأعمال سينمائية مهمة كانت جزءًا من اللغة البصرية لريفز، ليخلق ما يشبه نوعية “النيو نوار” (Neo-Noir)، وهي مساحة جديدة بالنسبة إلى شخصية باتمان ذات الأجواء القاتمة التي أثقلت الفيلم أكثر.
من الجيد أن نعيد اكتشاف الشخصية داخل نوعية مختلفة، أحدث هذا الأمر تداخلًا هائلًا بين الأنواع، ليتحول الفيلم إلى هجين بين نوعية القتلة المتسلسلين (Serial Killer Genre) ونوعية أفلام الأبطال الخارقين ذاتها، ليردَّ الفيلمُ الشخصيةَ إلى أصولها في البدايات، حيث كان باتمان محققًا في الجرائم، يستخدم ذكاءه الفذّ في إيجاد القتلة، وهذا يفتح لنا منفذًا بصريًّا جديدًا لرؤية الشخصية.
ساعد على هذا المزيج حضور شخصية ريدلر (Riddler) كعدو لباتمان، واختلاف ريدلر كشرير (Villain) ينبع من أسلوبه في إثارة البطل، فيما يبعث بطاقات ورقية يكتب داخلها ألغازًا وأحاجي يستوجب حلّها، ليتقصّى البطل أماكن وطرق الجرائم القادمة.
المنهجية ذاتها ليست غريبة عن أفلام الجرائم، خصوصًا أفلام المخرج ديفيد لينش، بيد أنها تدفع باتمان إلى مساحة مختلفة يتمكّن خلالها المشاهد من التوحُّد مع شخصية البطل، وهذا يحيلنا إلى إشكالية تواجه معظم أفلام هذه النوعية، وهي إشكالية الخطر في عوالم الأبطال الخارقين.
فأغلب الأفلام توفر سردية محفوفة بالتهديدات واسعة المدى، تتحول بالتفاقم إلى مخاطر كونية، وعلى البطل أن يرتقي لمجابهة هذا النوع من المجازفات، وهذا ما يخلق عائقًا بين البطل والمشاهد، حيث من العصيّ على المشاهد أن يتجاوز هذا الحاجز فيشعر بخطر كوني مثل الكائنات الفضائية أو الوحوش الهائلة التي تدمِّر المدينة.
القياس نفسه مختلّ، ولكنه ممتع على أي حال، بيد أن شخصية باتمان بشكل عام تتجاوز هذه السردية، وتخلق شيئًا يمكن للمشاهد الخوض فيه بما يسمح للاتصال الذهني بالحدوث، نحن نواجه المشاكل والآثار ذاتها في حاضرنا، لذا يمكننا أن نرتبط ونتوحّد مع التجربة الفنية.
يتفرّد فيلم المخرج ريفز عن أقرانه بنزعة جمالية مكثَّفة، ما تفتقده عوالم الأبطال الخارقين بشكل عام، مضيفًا إلى الفيلم قيمة من خلال تناول القصة بأسلوبية بصرية تختلف تمامًا عن الأفلام الأخرى، حيث اختيار المخرج لـ”النوار” بشكل أساسي جعله يتعرض للسمات الفنية التي تميّز نوعية الأبطال الخارقين، لكن بنمط أقرب إلى أفلام الـ Art House.
تظهر هذه المنهجية في مجمل السياق البصري خلال معالجة وتنفيذ العديد من المشاهد، وإنجاز القتالات والمعارك بأشكال مختلفة ومسارات بصرية أشدّ خصوصية وأكثر تجرُّدًا من الحركي التقليدي، بل تعوّل في تصميمها على الجمالي (Aesthetic) أكثر من الحركي والإيقاعي، ما يمنحها تفردًا لقدرتها على توظيف العنف في إطاره الجمالي.
يراعي المخرج ملامح بصرية معيّنة ترتبط بالظلام، يمكن رصدها في أغلب مشاهد الفيلم، خصوصًا القتالات المصمَّمة في أماكن مغلقة وإضاءة خافتة وملونة، والتي يمكن إدراج جزء كبير منها في مساحة فنّ الظلال (Silhouette)، ويمكن الاستشهاد بمشهد معيّن مثل مشهد اقتحام باتمان الملهى الليلي ومواجهته لعدة رجال بمدافع رشاشة.
يستخدم ريفز وميض طلقات المدافع الرشاشة في إنارة المشهد، الذي يمكن توصيفه كدلالة على اللغة البصرية للفيلم كله، لغة بصرية تنتمي إلى الظلام، وتستخدم عددًا أقل من تقنيات الغرافيك (CGI)، وبدلًا من ذلك تطوِّع حِيَل “النوار” والإضاءة الخافتة لنحت معالم العالم أمام المشاهد.
نجده يعزِّز جوهر اللقطة ويحرِّرها أكثر من المادي والفيزيائي الموجودَين في المشهد، كمحاولة لتجريد البصري والتركيز على الرمزي، كل مشهد في هذا الفيلم يبرز جزءًا غائرًا في شخصية باتمان، كحارس حديث العهد بحلّته السوداء، لم يتجاوز العامَين في مهمته المقدسة، لهذا كان من الجيد إظهار باتمان في شخصية اللابطل المتخبِّط.
كل شيء انعكاس لغوثام
يرصد ريفز غوثام بوجهها المشوَّه، كخطيئة تتفاقم مع مرور الوقت، بؤرة للفساد والتلف، ولا يحاول من خلال التصور القصصي أن يخفِّفَ من وطأة الفساد، فيأبى خلق المعادلة التقليدية للخير والشر، ويؤثر استبقاء شخصياته في المنطقة الرمادية.
يتعرض ريفز لإشكالية الفساد من منظور أكثر شمولية، فلا يشتبك مع شخص أو اثنين، ولكنه يشتبك مع المدينة في كُلّيتها، فالمدينة داخل المجتمع الرأسمالي تتمثّل في مؤسساتها، حين تخفق هذه المؤسسات أو تصيبها لوثة الفساد تنهار المؤسسة الاجتماعية في معناها الشمولي، أي أنها تنحلُّ كونها مختلّة.
ينجم عن هذا التفكُّك سقوط للمواطن الفرد، بيد أن ريفز يتجاوز منطق الجرائم الفردية، ويتّجه بفيلمه نحو طبقات أعمق في المجتمع، يتّجه نحو المؤسسات ذاتها، وهنا يخرج عن التصور المثالي للسلطة داخل أفلام الأبطال الخارقين، فهُم دائمًا ذراع لحماية البطل أو التعاون معه، حتى محاولة رصد الفساد داخل السلطة يكون فرديًّا وليس جماعيًّا وشائعًا.
بيد أن سردية ريفز تُظهر النقيض، فالمؤسسة الشرطية المكلَّفة بالحفاظ على الأمن وحماية الأفراد من الفساد هي أول من يرتكب هذه الفظاعات، يُعتبر هذا التصور تساؤلًا صريحًا عن مفهوم العدالة ومدى تحقيقه في المجتمع؛ فإلى أي مدى يمكن لسلطة العنف التي ترتكبها المؤسسة الشرطية وباتمان على حدّ سواء تحقيق العدالة؟ وهل دائرة العنف تقتصر على حماية القانون ذاته، القانون المصمَّم لحماية أفراد بعينهم، أفراد مكسوّين بحِلَل زرقاء يركبون سيارات فارهة ويسهرون في نوادٍ ليلية خاصة؟
الخروج من دائرة الشرير السيكوباتي غير المبرر يمنح الفيلم ثقلًا معرفيًّا، لأنه يشتبك مع الواقع، ويعطي دوافع للقتل والعنف، بحيث يخرج العنف عن دائرة حماية القانون نفسه كما يقول والتر بنيامين، لهذا السبب من المرجّح أن يلوح الشرير كضحية للفساد، لأنه يتبع المنهج نفسه الذي يتبعه باتمان، منهج التطهير من رؤوس الفساد، مع اختلاف المدى الذي يعيّنه باتمان لنفسه، فريدلر لا يعيّن حدًّا لعملية التطهير، ولا يخلق حاجزًا بينه وبين ما يراه عدلًا مطلقًا، بيد أن شخصية ريدلر على أي حال ليست شخصية أحادية، وهذه نقطة إيجابية.
حين نتحدث عن النمط البصري لحياة بروس واين، يدمج ريفز أجواء النوار بالعمارة القوطية، كأن قصر باتمان هو انعكاس لدخيلته، فالعمارة القوطية تنطوي على مزج بين عدة تقنيات معمارية، الزجاج المعشّق، الأشكال المعقَّدة، الأقواس المدبَّبة، العواميد الضخمة الداعمة والطول الشاهق نسبةً للعرض.
قلّصت العمارة القوطية من حجم الجدران وخفّفت من أثرها المانع، ووظفت النوافذ الهائلة لتشغل المساحة الأكبر من التصميم، ليستحيل المبنى المعتم إلى بنية شفافة، حيث تحمل العمارة القوطية دلالة وإسقاطًا على نَفْس باتمان المروّعة، لأنها تجمع بين الهيبة والجمال، الخشية والجاذبية، الانفتاح في المدى والامتلاء بالتفاصيل.
يُذكر أن ثقافتنا الشعبية تربط العمارة القوطية بأفلام الرعب والسحر والأرواح الماورائية، وفي الوقت نفسه تربطها بالهيبة الكنسية ذات النزعة النورانية والارتقاء الروحي، أي أنها تحمل في باطنها نقيضَين، وهذا يضيف إلى القصة بُعدًا مختلفًا، فيمدّ السردية أكثر نحو مساحة أفلام الرعب، ويشدّ البساط أكثر من تحت نوعية أفلام الأبطال الخارقين المعتادة.
منهج العنف في غوثام
منذ بدايتها، تزامن صعود الولايات المتحدة الأمريكية مع وجود العنف بشكل أساسي، فالعنف جزء متأصّل في الثقافة الأمريكية -ليست الأمريكية وحدها بل العالم كله-، وحجر الأساس الذي قامت عليه سلفًا، وتستمرّ في إحلاله كجزء من الكيان، ابتداءً من نهوض الدولة نفسها كمستعمَرة إمبريالية إنجليزية فوق أطنان من جثث السكان الأصليين، مرورًا بالحرب الأهلية وتجارة العبيد، وصولًا إلى النزعة الكولونولية الجديدة في العراق ومساندة المستعمر الصهيوني، والحرب العرقية الجارية الآن ولكن بشكل أخفّ وبأدوات مختلفة، أضف إلى ذلك وجود أمريكا كحاضن أساسي للرأسمالية.
كل هذه الأمور تتوفر في مجتمع غوثام، إخفاق المؤسسات الاجتماعية في احتواء المواطن وتوفير حياة جيدة في خضمّ نظام رأسمالي، جعل جزءًا كبيرًا من ممارسة العنف يتحرك من شعور الفرد بالنقص، في محاولة لإثبات الذات، فتجريد المواطن من مكانته الاجتماعية تؤسِّس لخطر الانهيار الداخلي، خصوصًا مع الانكشاف الواضح لمؤامرات المؤسسات وفساد الشرطة.
وفي مجتمع قائم على المؤسسات يسلب المرء شعور تحقيق الذات، يفقد الشخص كيانه كإنسان، فيسعى إلى بلوغه عن طريق إرساء مبادئ أناركية لحياته، تتمركز حول العنف كأداة للوصول إلى الحدّ الأدنى من الحقوق.
ومع مرور الوقت يتحول هذا القانون الموازي إلى واقع لا يمكن تغييره، أي أن جزءًا كبيرًا من نقم المواطن ينبع من حقيقة أنه مواطن مسلوب المكانة الاجتماعية، مواطن مراقَب وملاحَظ، لا فاعل ولا محقِّق، يشاهد رجالًا يرتدون معاطف ثمينة ويركبون سيارات فارهة، يتفوّهون بأباطيل ويقذفون بالشعارات، يأخذون مساحة المواطن العادي، ويجرّدونه من كل شيء.
لهذا يظهر باتمان شخصية مشوَّهة، شخصية اللابطل، الذي يتخبّط بين سمعة والده كمليونير ووجوده كابن يحاول معرفة الحقائق، يتحرك ريفز هنا في مناطق شديدة الحساسية، مناطق تتعلق بوالدَي باتمان، بحيث لا يصوّرهما كملاكَين يحرسان المدينة، بل يرصد الخُطُوب والأخطاء في الماضي، ويحمل بروس واين وصمة عار على جبينه.
ومن هذا المنطلق لا يتبدّى باتمان كأغلب النسخ السابقة، متزنًا ورزينًا، بل يلوح في الظلام كمنتقم، كمريض، ومسألة الانتقام أصبحت شخصية، رغم أنه رسمَ حدودًا لهذا الانتقام، بحيث لا يصل الأمر إلى القتل، وهذا غريب حقًّا.
فباتمان يتبع نهجًا فلسفيًّا يُسمّى الأخلاق الواجبة (Deontological Ethics)، أي أنه لا يهتم بالعواقب، يهتم بالفعل فقط، لهذا لا يقتل أي من أشرار عالمه، رغم يقينه الثابت بقدرتهم على الفرار بعد ذلك وقتل العديد من الناس، بيد أنه لا يستطيع مخالفة قوانينه الأخلاقية خوفًا من تحوله إلى قاتل هو الآخر، وهذه معضلة فلسفية شديدة التعقيد، يظلّ عالقًا داخلها إلى الأبد.
الفيلم هو الجزء الأول من سلسلة جديدة لباتمان، من إخراج مات ريفز ومن بطولة صاحب الأداء الرائع وأفضل أداء لباتمان على الإطلاق روبرت باتينسون، وبول دانو في شخصية ريدلر، والجدير بالذكر أن مجلة “كراسات السينما” أشادت بالفيلم ووضعت صورته كغلاف للمجلة في أحد أعدادها.
كما حظيَ الفيلم بآراء نقدية متنوعة أغلبها إيجابي، إلا أنه واجهَ بعض المشاكل لطوله الذي يقارب الـ 3 ساعات، وظلاميته المفرطة، ولكن يظل تجربة ممتازة وعودة عظيمة لشركة DC داخل السوق، سواء تجاريًّا أو فنيًّا.