ترجمة وتحرير: نون بوست
ترتبط بعض أكثر الشهادات المروعة للحرب بالاستهداف الجماعي للمدنيين داخل منازلهم. ووفقا للناجين، تُخاض حرب مختلفة تحت أنقاض المباني المدمرة.
في الذكرى الأولى للحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة التي وقعت في أيار/ مايو 2021، تحدث موقع “ميدل إيست آي” مع الناجين الذين أمضوا ساعات تحت أنقاض منازلهم قبل وصول فرق الإنقاذ إليهم.
كان عمر أبو العوف الناجي الوحيد من عائلته الممتدة التي قُتل جميع أفرادها البالغ عددهم 17 فردا بعد استهداف منزلهم الواقع في شارع الوحدة وسط مدينة غزة في 16 أيار/ مايو. قال الشاب البالغ من العمر 17 سنة لموقع “ميدل إيست آي”: “كنت جالسًا مع والديّ وإخوتي وجداي عندما اشتد القصف عند منتصف الليل. ركضنا إلى الممر معتقدين أنه المكان الأكثر أمانا في المنزل، وكان والدي يركض خلفنا مباشرة، لكن القصف كان سريعًا للغاية وضربت غارة جوية المنزل قبل أن يتمكن من الوصول إلينا”
وأضاف “في طرفة عين، وجدت نفسي مستلقيًا على بطني وعمود خرساني على ارتفاع خمسة سنتيمترات فوق ظهري. لم أستطع التحرك أو رؤية أي شيء، لكنني كنت أحاول التنفس من خلال ثقب صغير في الأرض”. لقد أمضى أبو العوف 12 ساعة تحت الأنقاض وكان عليه أن يستمع لأصوات احتضار أفراد عائلته بينما كان محاصرًا تحت جدران منزله.
استحضر ما حدث قائلًا “في البداية، ماتت أختي تالا البالغة من العمر 12 سنة بعد مرور 10 أو 15 دقيقة تقريبا من القصف لأنها كانت صغيرة جدًا ونحيفة. كانت مستلقية تحت ذراعي، ولم أستطع رؤيتها لكني أعتقد أنها كانت خائفة لأنني سمعتها تتنفس بسرعة كبيرة قبل أن تتوقف عن الحركة تمامًا”. وتابع “قبل لحظات قليلة من وفاتها، حاولت مواساتها. كنت أعلم أنها لن تنجو فطلبت منها أن تنطق الشهادتين. وبعد ذلك لم أعد أستطيع سماع صوت تنفسها. حينها علمت أنها ماتت”.
قبل مقتلها، كانت تالا واحدة من ضمن 11 طفلا تتراوح أعمارهم بين خمسة و15 سنة يتلقون العلاج من الصدمات النفسية من قبل المجلس النرويجي للاجئين. وقد أسفر الهجوم الذي استمر 11 يومًا عن مقتل 66 طفلا من بين 256 فلسطينيًا. وتابع أبو العوف “بعد وفاة تالا، سمعت أمي تئن، لم أفهم ما كانت تقوله، لكنني أعتقد أنها كانت تنطق الشهادتين أيضًا”.
طلب مني أن أسامحه
حوصر شقيق أبو العوف توفيق البالغ من العمر 17 سنة أيضًا. أورد عمر “لقد كان أخي الوحيد الذي ظل معي 12 ساعة تحت الأنقاض. كان ينادي باسمي كل خمسة دقائق ويسأل “عمر هل مازلت على قيد الحياة؟ وفي لحظاته الأخيرة، طلب مني أن أسامحه ونطق الشهادتين. كان يعلم أنه لن ينجو”.
عندما تم انتشال جثة توفيق أخبر الأطباء الشرعيون عمر “أنه توفي منذ فترة طويلة، لكن هذا ليس صحيحًا، كان يتحدث معي طوال الوقت وتوفي قبل لحظات قليلة من قيام الدفاع المدني بسحبه”. قال أبو العوف إنه بسبب القصف المكثف ونقص المعدات، استغرق الدفاع المدني ساعات لمعرفة مكانه وسحبه من تحت الأنقاض.
وأضاف “كنت أحاول الصراخ لمساعدتهم في العثور علي، لكن صدى صوتي كان يقودهم في الاتجاه الخاطئ. وعندما تمكّنوا أخيرًا من إخراجي، نُقلت إلى وحدة العناية المركزة، حيث أخذ الأطباء عينة بول مني كانت سوداء تماما بسبب كمية الغبار والرمال الهائلة التي استنشقتها وابتلعتها من خلال الفتحة الوحيدة التي وجدتها تحت الأنقاض”.
عمر أبو العوف هو ابن الدكتور أيمن أبو العوف الذي قُتل مع زوجته وبقية أطفاله خلال الهجوم. وقد كافح جيرانه زينب وأسامة القولاق ووالدهما شكري للبقاء على قيد الحياة لمدة 12 ساعة قبل أن يتمكن المسعفون من إخراجهم. فقدت زينب البالغة من العمر 23 سنة 22 فردا من عائلتها، بما في ذلك والدتها وشقيقتها الوحيدة واثنين من أشقائها، بالإضافة إلى أبناء عمومتها وأعمامها وأجدادها.
قالت زينب لموقع ميدل إيست آي: “لا يمكنني أبدًا وصف المشاعر والأفكار التي سيطرت على تفكيري طوال الـ 12 ساعة التي قضيتها تحت الأنقاض. لم أتحدث أبدا مع أي شخص حول هذا الموضوع، ولا أحد يعرف ما كان يدور في ذهني في تلك اللحظة. وبعد أن تم إنقاذي، اعتقدت أنني سأملأ الكتب بالذكريات والتجربة التي مررت بها، لكن اتضح أنه لا يمكنني قول جملة واحدة عنها”.
بعد انهيار منزلها، علقت زينب تحت جدار ثقيل لكنها تمكنت من الاتصال بسيارة إسعاف والتحدث إلى مسعف أصبح فيما بعد صديقها، حيث قالت: “كنت مستلقية على بطني؛ ولم أستطع تحريك سوى يدي. اتصلت بسيارة إسعاف، حيث تحدث معي مسعف لبضع لحظات لمعرفة مكاني. وبعد ذلك بثلاث ساعات، نفدت بطارية هاتفي المحمول، وكنت أصرخ حتى فقدت صوتي تمامًا. لقد كان الظلام دامسًا ولم أستطع معرفة ما إذا كان الصباح قد حل. لقد كنت أتنفس وأستنشق الغبار والرمال. وعندما وصل الدفاع المدني، لم أستطع التحدث لأن صوتي اختفى، لكني شعرت باقتراب الجرافة. لقد كانت لحظة مروعة كنت أرتجف فيها بلا حول ولا قوة، وشعرت بأن الجرافة على وشك أن تسحق جسدي. ولكن في اللحظة الأخيرة صرخ المسعف طالبًا منهم التوقف”.
شعور لا يوصف
قبل دقائق قليلة من إنقاذ زينب، قام مسعف آخر بسحب والدها شكري الذي قال: “عندما وصل المسعفون، كانوا ينادون بأسمائنا لمعرفة ما إذا كان أحدنا لا يزال على قيد الحياة، حينها، صرخت باسم ابنتي، وقلت لهم إنني زينب حتى يصدقوا أنها لا تزال على قيد الحياة ويستمروا في البحث عنها”.
تابع الأب الفلسطيني: “لا يمكن وصف شعور أن تكون تحت الأنقاض تكافح من أجل أن تُرى وأن تُسمع. إنه مزيج من الرعب مُقترن برائحة الموت وضجيج القصف الذي لا يزال يهز الأنقاض فوق رأسك. عندما تكون عالقًا هناك، لا يمكنك التركيز على فكرة واحدة، بل تكون محاصرًا بموجات من الأفكار حول الجميع وكل شيء في الحياة والموت، فقد كنت أسأل نفسي في الغالب عن مكان وجودي، وماذا حدث، وما إذا كنا أحياء أم أمواتًا. ولكنك لا تملك إجابة على هذه الأسئلة البسيطة عندما تكون بين الحطام”.
قال شكري إن أكثر اللحظات رعبا لم تكن مجرد البقاء تحت الأنقاض، بل التفكير في قدوم الأسوأ من ذلك، “كان الشعور الأكثر فظاعة هو سماع أصوات القصف الهائلة بينما كنت تحت الأنقاض، وإدراك أن الأمر ربما لم ينته بعد، وأنني قد أواجه نوعًا مختلفًا من المعاناة لاسيما أن جسدي عالق تحت الجدران”.
وتابع: “لم أكن أتخيل أبدًا أنني سأعيش بعد تلك اللحظة، كنت أعد نفسي للموت عندما تمكن المُسعف من الوصول إليّ. عندما أخرجوني، شعرت بقدمي تضرب جسد أحد أفراد عائلتي. لا أعرف من كان ولكن جسده كان خلفي مباشرة”. بعد أن تمكّن من إنقاذ شكري، فقد المسعف وعيه بسبب نقص الأكسجين تحت الأنقاض.
ثم توقفت أصواتهم
يقع منزل عائلة القولاق في الحي السكني بشارع الوحدة الذي تعرض للقصف في 16 أيار/ مايو. وقد لقي 42 فلسطينيا حتفهم في ليلة واحدة، من بينهم 11 طفلا. في الحي ذاته، كان رياض أشكنتنا وابنته سوزي الناجين الوحيدين من عائلة مكونة من سبعة أفراد لقيت حتفها جراء القنابل الإسرائيلية.
قضى رياض ما يصل إلى 10 ساعات تحت الأنقاض حيث سمع زوجته وأطفاله ينادون اسمه طلبا للمساعدة قبل وفاتهم. أوضح أشكنتنا لموقع ميدل إيست آي: “كنت أشاهد التلفاز في غرفة المعيشة وكانت زوجتي وأولادي نائمين في الغرفة المجاورة لي. لقد رأيت ضوءًا أحمر قبل أن يسقط التلفزيون وبدأت الجدران تتهاوى. لقد كان مشهدًا مروعًا”.
وأردف قائلا: “انهارت الشقة وسقطت معها. بعد لحظات قليلة، سمعت صوت ابنتي دانا البالغة من العمر ثماني سنوات تنادي “بابا”، أجبتها “نعم بابا”، ثم بدأت ابنتي الأخرى زينة البالغة من العمر سنتين ونصف بمناداتي باسمي. كنت أحاول مواساتهما من خلال الرد عليهما، ولكن بعد ذلك توقفت أصواتهما حينها أدركت أنهما توفيتا”.
كان أشكنتانا مستلقيًا على جنبه وذراعه اليمنى ورجله تحت الأنقاض. تابع أشكنتانا “ظللت تحت الأنقاض لمدة 10 ساعات، اعتقدت أن ساقي وذراعي بُترتا لأني شعرت بخدران ولم أكن أشعر بهما. ظننت أنها مسألة وقت فقط قبل وفاتي لأنني اعتقدت أنني كنت أنزف كثيرا، لاسيما وأن رأسي كان ينزف والدم ينزل على جبيني وعيني.
وأضاف: “كان الألم في جسدي لا يُطاق. حاولت أن أنام قليلاً لأنسى ذلك، لكنني لم أستطع. كانت رقبتي ورأسي مُتدليتين بينما كنت مستلقية على جانبي، وكان هناك ثقب كبير في الأرض تحت رأسي ولم أستطع أن أريحه على أي شيء. لمدة 10 ساعات، كنت أعاني من أجل الاستمرار في رفع رأسي بينما كنت أعتقد أنني أنزف حتى الموت”.
“حاولت السيطرة على أنفاسي”
قبل ثلاثة أيام من قصف شارع الوحدة، عشية عيد الفطر، انتهجت الطائرات الإسرائيلية الاستراتيجية ذاتها، حيث قامت بتسوية مبنى سكني بالكامل بالأرض شمال قطاع غزة المحاصر.
كان طاهر المدهون، الطبيب البالغ من العمر 28 سنة، مع والده وعمته عندما استُهدف منزلهم بعدة غارات جوية. أوضح طاهر لموقع ميدل إيست آي: “عندما بدأ القصف، لم أستطع البقاء في مكان واحد، ولم أستطع التحكم في ثبات جسدي لأنه كان يطير من مكان إلى آخر، ويرتطم بالجدران لينتهي بي الأمر مرميا على الأرض”.
ركضتُ إلى إحدى الغرف التي بها نافذة تطل على الشارع لأرى ما يجري، وبمجرد أن فتحتُ باب الغرفة، رأيتُ الشارع تحت قدمي تمامًا، وكان جانب المبنى مُسوّى بالأرض، أغلقتُ الباب وعرفتُ أنها النهاية، وكان الذعر يُسيطر علي. ما إن شعرتُ بأن المنزل يوشك على الانهيار، وقد بدأ بالانهيار فعلًا، لم أستطع أن أشعر بالأرض تحت قدميّ، أمسكتُ بيدي والدي وعمتي بقوة وهوى بنا المنزل”.
يتذكر طاهر المدهون المشهد قائلًا: “بمجرد أن انهار المنزل، حاولتُ فحص جسدي ومعرفة ما إذا كان والدي وعمتي لا يزالان على قيد الحياة. كنت نصف مستلقي على ظهري وكان كل من ساقيّ وذراعيّ عالقين تحت الأنقاض، مددتُ يدي التي لم تقع تحت الأنقاض بحثًا عن جيبي للحصول على هاتفي المحمول وأضأتُ المصباح فيه، نظرتُ إلى والدي لأرى ما إذا كان لا يزال يتنفس، لكنه لم يكن يتحرك، ثمّ نظرتُ إلى عمتي التي تمكنّت رغم حالتها الحرجة من إخباري أن والدي قد استشهد، ثم بدأ الهاتف المحمول في الرنين لكنني كنت أتجنب التحدث في محاولة لضبط أنفاسي ونبضات قلبي لتجنب فقدان الوعي”.
بعد حوالي نصف ساعة وصل الدفاع المدني وحاول المدهون كل ما في وسعه لطلب المساعدة: “أخذتُ عصا خشبية كانت بجانبي وبدأتُ أضرب بها الأرض لإحداث صوت. وعندما رنّ جرس الهاتف، لم ألتقطه حتى تقودهم نغمة الرنين إلى مكاننا”. عندما تمكّن المسعفون من انتشالهم بعد أربع ساعات، كانت عمته قد توفيت إلى جانب والده.
“كان المكان مظلمًا تمامًا”
بالقرب من منزل المدهون، كان خالد المقيّد (26 عامًا) عالقًا مع والدته وشقيقه وأخته وأطفالها تحت أنقاض منزلهم. كافحت أخته، التي فرت مع أسرتها بعد قصف شقتها، لإبقاء أطفالها على قيد الحياة تحت الأنقاض؛ يقول: “بمجرد أن انهار المنزل، كان الظلام دامسًا، ولم أر شيئاً سوى أخي أحمد الذي كان بجانبي، بينما كانت أمي وأختي وأطفالها جميعًا تحت الطابق الأرضي، استغرقت والدتي ثماني دقائق لتستفيق بعد أن بدأنا جميعًا في المناداة باسمها حتى أجابت أخيرًا، وكانت أختي في الأثناء تحاول مواساة أطفالها بينما كنا ننتظر بفارغ الصبر أن يدرك أحدهم أننا ما زلنا على قيد الحياة. ومن خلال حفرة ضيقة للغاية في الأنقاض، تمكنتُ من رؤية الدفاع المدني، فبدأتُ أصرخ وأُحدِث صوتًا حتى يستدلوا على موقعنا، واستغرق إخراجنا حوالي 90 دقيقة”.
منذ أن تم انتشالهما من تحت الأنقاض، فقدت ابنة أخت خالد البالغة من العمر ستة أعوام وابن أخيه البالغ من العمر خمسة أعوام قدرتهما على الكلام تمامًا، “تم عرضهما على العديد من معالجي النطق، وقالوا جميعًا إنها نتيجة الصدمة الشديدة التي تعرضا لها”. ويستذكر مقيد قائلًا: “ما زلنا نتحدث عن هذه التجربة كل يوم وفي كل تجمع عائلي، ورغم محاولتنا تجنب التفكير في الأمر، ينتهي بنا الأمر إلى تذكُّر أدق التفاصيل”، مضيفًا: “بعد أن تعيش هذا الكابوس، لن تعود كما كنت”.
المصدر: ميدل إيست آي