ترجمة حفصة جودة
لمدة أسبوع بعد غرق السفينة، أبحر رابح جمال في قارب مؤجر عبر ألسنة البحر المتقاطعة في مياه طرابلس ممشطًا الشواطئ الشمالية وجزر النخيل بحثًا عن أي آثار لوالدته وأخته وزوجته وابنته وابنه، لكن دون جدوى.
فقد جمال كل أفراد أسرته في البحر يوم 23 أبريل/نيسان بعد أن انقلب قارب التهريب بحمولته الزائدة، على بعد 5.5 كيلومتر من ساحل لبنان، بالإضافة إلى العديد من أصدقائه وأقاربه الذين ما زال مصيرهم مجهولًا.
في ذلك اليوم المشؤوم، وضع جمال طفليه (ريماس – 6 أعوام – ويوسف – 4 أعوام -) على ظهر القارب بينما كانت الشمس تغيب في الأفق، مضيئة البحر الذي سيبتلع صغاره عما قريب.
كجندي يخدم في الجيش اللبناني، لم يتمكن جمال من مرافقتهم، لذا ودعهم على مضض متمنيًا لهم سفرًا آمنًا، خرج هؤلاء هربًا من مشاكل لبنان المتزايدة وطلبًا للجوء في أوروبا، كانت نقطة المغادرة الساحل الفقير لبلدة قلمون جنوب طرابلس، بينما كانت وجهتهم إيطاليا التي تبعد عنهم 3 آلاف كيلومتر، لكنهم لم يصلوا إليها للأسف.
موقف سخيف
وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “UNHCR” فقد حمل المركب نحو 84 مسافرًا من أصول لبنانية وسورية وفلسطينية، وقالت القوات المسلحة اللبنانية إنهم أنقذوا 48 شخصًا وانتشلوا 6 جثث منذ الحادث، ما يترك 30 شخصًا مجهولي المصير.
رغم المأساة، ما زال العشرات يحاولون عبور البحر في تلك الرحلة غير الشرعية نظرًا للأزمات السياسية والاقتصادية الحادة التي تزيد الشعور باليأس فقط
ما زالت ظروف الغرق غير واضحة تمامًا، فقد تحدث بعض الناجين لمحطات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، متهمين الجيش بإهانة المسافرين على سطح السفينة وتعمد صدمها وإصابة هيكلها.
لكن المسؤولين أكدوا أن المهربين ناوروا للهرب بالسفينة بكل تهور، أشعلت تلك الحادثة غضبًا عامًا واسعًا قبل أسبوعين فقط من الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها يوم 15 مايو/أيار.
أوكلت الحكومة اللبنانية في جلسة طارئة، قائد الجيش بمهمة إجراء تحقيق شفاف في ظروف الحادث تحت إشراف السلطة القضائية المختصة، وفقًا لما قاله وزير الإعلام زياد مكاري، أشار البعض لسخافة تحقيق الجيش في الحادث، نظرًا لاتهام البحرية بدورها في غرق السفينة.
ورغم المأساة، ما زال العشرات يحاولون عبور البحر في تلك الرحلة غير الشرعية نظرًا للأزمات السياسية والاقتصادية الحادة التي تزيد الشعور باليأس فقط.
في يوم 29 أبريل/نيسان، منعت دورية استخبارات لبنانية قاربًا يحمل 85 شخصًا من مغادرة ساحل طرابلس، واعتقلت الدورية 5 أشخاص يُشتبه في اتجارهم بالبشر، وقالت إن المهربين حصلوا على 450 ألف دولار من هؤلاء المهاجرين المحتملين لشراء وتجهيز القارب للرحلة.
في اليوم نفسه، قالت قوات الأمن الداخلي إنها اعتقلت رجلين – أحدهما لبناني والآخر سوري – اعترفا بعزمهما تهريب 23 سوريًا على سطح قارب متوجه إلى قبرص، وقد دفع كل مهاجر 3 آلاف دولار للمهربين مقابل ذلك.
فقدت العملة اللبنانية جراء التضخم، أكثر من 90% من قيمتها منذ بداية انهيار البلاد اقتصاديًا وماليًا بشكل غير مسبوق قبل 3 سنوات
في الوقت نفسه، شكلت عائلات ضحايا حادث طرابلس لجنة للتواصل مع قائد الجيش ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي، تخطط اللجنة كذلك للاحتجاج ضد ما وصفته تكاسل الحكومة بتعطيل العملية الانتخابية في طرابس يوم 15 مايو/أيار وإغلاق مراكز الاقتراع في منطقة الضنية شرق طرابلس.
آخر مكالمة هاتفية
يقول جمال والكلمات عالقة في حلقه: “لم أكن قلقًا عليهم، كنت أشعر بالسلام عندما غادروا، لقد أرسلتهم لأن ضروريات الحياة لم تعد متاحة في البلاد، لم نعد نملك حتى بيت، كنت أود أن يحصلوا على تعليم جيد ولم أعد قادرًا على تغطية مصاريف تعليمهم، فالمدارس تطلب المزيد من المال مع تواصل ارتفاع سعر الدولار الأمريكي”.
فقدت العملة اللبنانية جراء التضخم، أكثر من 90% من قيمتها منذ بداية انهيار البلاد اقتصاديًا وماليًا بشكل غير مسبوق قبل 3 سنوات، التي تعد واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم وفقًا للبنك الدولي.
دفعت الأزمة المالية بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية الاجتماعية والسياسية المستمرة في لبنان ما يقارب 80% من السكان نحو خط الفقر ودفعت الآلاف لمغادرة البلاد، لكن لا يملك الجميع ميزة السفر بطريقة شرعية.
كان جمال يتحدث هاتفيًا مع زوجته بعد إبحار القارب بسلاسة وسط البحر بعيدًا عن ساحل لبنان، وكانت تؤكد له أنهم جميعًا بأمان، كان جمال يود الاطمئنان على والده – يوسف – أيضًا الذي يعاني من أمراض قلبية وكان معهم على متن القارب.
يقول جمال: “كان يحمل معه 10 أدوية لا أستطيع أن أوفرها له الآن، عندما سألت عنه أخبروني أنه أشعل سيجارة ويستمتع بالرحلة”.
نجا يوسف الأب وأحد أبنائه من الغرق، لكنه فقد كل نساء العائلة وأطفالها هذا المساء: هند والدة جمال وليليان شقيقته وحنان زوجته وطفليه ريماس ويوسف، بالإضافة إلى شقيقة حنان الحبلى التي كانت معهم في هذه الرحلة وما زالت مفقودة في البحر.
إنهم في كنف الله الآن
تلّحف أحمد سبسبي – من حلب، سوريا – بإيمانه بعد أن فقد زوجته وأطفاله الثلاث في نفس الحادث، يقول أحمد: “إنهم في كنف الله الآن وسوف يمنحهم الله كل ما أردت أنه أقدمه لهم بمجرد ذهابنا إلى أوروبا”.
“لقد سافرت من أجل أطفالي، ليعيشوا حياة كريمة، لأقدم لهم كل ما يطلبونه متى أرادوا، كنت أريد أن أوفر لهم تعليمًا ومستقبلًا جيدًا”.
كان الأطفال الثلاث (ماسة – 8 سنوات – وحمودي – 6 سنوات – وجاد – 4 سنوات -) بجوار والدتهم ريهام دواليبي داخل مقصورة القارب مع بقية النساء والأطفال حيث اعتقدوا أنها أكثر أمانًا من سطح السفينة، يقول سبسبي: “كنا نعتقد أن الرجال أكثر شجاعة ويمكنهم البقاء على سطح السفينة”.
لكنه كان تفكيرًا خاطئًا للأسف، فقبل انقلاب السفينة، بدأ الماء في التسرب إلى المقصورة وحاصر النساء والأطفال في الداخل، ولم يكن الكثير منهم يرتدون سترات النجاة.
يقول سبسبي: “كل من كانوا داخل القارب مفقودون، معظمهم من النساء والأطفال، كانت جميع النساء يصحبن عدة أطفال معهن، كانت زوجتي ترافق أطفالي الثلاث وهناك امرأة كانت ترافق طفلين، كما ضم المكان عدة رضع أيضًا”.
وقعت المأساة في رمضان، لذا كان معظم الناس صائمين، وقد أفطروا بعد رحيل القارب الذي غادر مع غروب الشمس، حيث شربوا المياه وأكلوا التمر مع بعض المناقيش (طعام شامي يتكون من عجينة مغطاة بالزعتر والجبن).
يقول جمال: “لكي أعيش حياة فقيرة بأقل ضروريات الحياة فقط، أحتاج إلى 5 أضعاف راتبي، إننا لا نعيش حتى حياة فقيرة، إننا نعيش في أدنى من ذلك”
كان الجميع يحملون طعامًا وملابس من أجل الرحلة، وكان سبسبي يتحدث طوال الرحلة مع شقيقه ووالدة زوجته لإطلاعهم على المستجدات، وأخبرهم ألا يقلقوا إذا فقدوا التواصل معهم لأن الإرسال سينقطع بمجرد الخروج من المياه اللبنانية.
دموعي لن تجف
راودت سبسبي أفكارًا انتحارية بعد فقدانه لأسرته، كان سبسبي قد فر إلى لبنان هربًا من الحرب في سوريا ولم يتمكن من العودة إليها حتى الآن، يقول: “وُلد كل أطفالي في لبنان، لا أستطيع العودة إلى سوريا لأنني مطلوب هناك، سوف أُقتل في الحال إذا دخلتها، الوضع خطير جدًا بالنسبة لي في سوريا”.
عند حديثه عن تلك اللحظات القاتلة، يقول سبسبي: “كنت آخر من يغادر القارب قبل غرقه، لم يستغرق الأمر إلا 3 أو 4 ثوان حتى يغيب القارب في قاع البحر، كانت عملية سريعة جدًا وكانوا جميعًا بالداخل، وقد رحلوا جميعهم”.
“لن تجف دموعي، فأنا أرى أسرتي في كل خطوة، أراهم عندما أنظر إلى السماء أو إلى الأرض، لقد ذهبوا لله، كنت عطوفًا وحنونًا مع أسرتي، لكن الله أحن عليهم، وسيمنحهم كل ما لم أقدمه لهم”.
يجلس سبسبي مع أصهاره ينعون أحبابهم، وقال إنهم لم تصلهم أي معلومات حتى الآن عن زوجته وأطفاله.
رغم المأساة، ما زال جمال يخطط للرحيل من لبنان أيًا كانت وسيلة الرحلة، ويأمل في أن يعثر على أجساد أفراد أسرته حتى يدفنهم قبل رحيله، يقول جمال: “لكي أعيش حياة فقيرة بأقل ضروريات الحياة فقط، أحتاج إلى 5 أضعاف راتبي، إننا لا نعيش حتى حياة فقيرة، إننا نعيش في أدنى من ذلك”.
المصدر: ميدل إيست آي