تثير الإدارة الذاتية، الذراع المدنية لقوات سوريا الديموقراطية “قسد”، بين الفينة والأخرى مخاوف الأهالي في منطقة الجزيرة السورية، أقصى شمال وشرق سوريا، جرّاء اتخاذها قرارات وقوانين تعسفية تنطوي تحتها العديد من الأهداف والأبعاد التي تخدم مشروعها بالدرجة الأولى، ما يجعل السكان الأصليون أمام تغيرات وقوانين فرضت عليهم أمرًا واقعًا لا مفرّ منه.
حيث قبل أيام قليلة، بدأ مكتب التنمية والإحصاء في إقليم الجزيرة السورية الواقع تحت سيطرة ميليشيا “قسد”، بتنفيذ مشروع إحصاء سكاني جديد، بدءًا من منطقة المالكية (ديريك) بريف محافظة الحسكة الشمالي، على أن يمتدَّ إلى مختلف المحافظات السورية الواقعة تحت سيطرتها، ما أثار قلق السكان.
مشروع إحصاء السكان
أعلنَ مكتب التخطيط والتنمية والإحصاء لإقليم الجزيرة وهيئة التربية والتعليم مباشرتهما في مشروع الإحصاء السكاني، في 7 مايو/ أيار الجاري، ضمن الحدود الإدارية لمنطقة المالكية ونواحيها الأربعة الواقعة على مثلث الحدود السورية – العراقية – التركية، أقصى شمال شرقي سوريا.
وفي وقت سابق، أي في 6 مايو/ أيار، أعلن المجلس التنفيذي لإقليم الجزيرة، التابع للإدارة الذاتية، يومَي السبت والأحد، 7 و8 مايو/ أيار، عطلة رسمية لكافة المؤسسات الرسمية، بغية تسهيل عمل فريق الإحصاء، كما دعا الأهالي إلى التعاون في سبيل نجاح المشروع.
وشكّل مكتب التخطيط والتنمية والإحصاء لجانًا من الموظفين العاملين ضمن المكتب والعاملين في هيئة التربية والتعليم، حيث تجولت اللجان بين منازل قاطني منطقة المالكية، وأجرت لقاءات مع سكان المناطق سواء كانوا من السكان الأصليين والنازحين والمهجَّرين إلى المنطقة.
ويشمل مشروع الإحصاء جمع بيانات عن عدد أفراد الأسر المقيمين والمسافرين، والأسر الوافدة والنازحة إلى مناطق سيطرة ميليشيا “قسد”، حيث تعمل اللجان القائمة على عملية الإحصاء على تسجيل معلومات وتفاصيل تتعلق بطبيعة عمل كل فرد في الأسرة والظروف المعيشية له، مع الاسم وعنوان السكن والحالة الاجتماعية من خلال دفتر العائلة أو الهوية الشخصية.
صرّحت الرئيسة المشتركة لمكتب التخطيط والتنمية والإحصاء في الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم الجزيرة، بشرى شيخي، لموقع الإدارة الذاتية الرسمي: “إن مشروع إحصاء التعداد السكاني يشمل كافة المدن والنواحي والبلدات والقرى في الجزيرة، ويأتي ذلك ضمن مراحل بدأت اليوم من مدينة القامشلي، تحديدًا نواحي وبلدات ديريك، وأن المدرِّسين والمدرِّسات في هيئة التربية والتعليم وأعضاء الكومينات سيتولون مهمة الإحصاء”.
ويهدف مشروع الإحصاء السكاني، بحسب رواية الرئيسة المشتركة، إلى إنشاء قاعدة بيانات أساسية عن السكان والمساكن، التي تساعد بدورها في تنفيذ خطط التنمية، إلى جانب جمع ونشر المعلومات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والمهنية والصحية والخدمية للسكان، لتوفير متطلباتهم وتأمين احتياجاتهم.
ما الهدف من مشروع الإحصاء؟
دفع مشروع الإحصاء الأهالي في شمال شرق سوريا إلى طرح العديد من التساؤلات، عن الأهداف الأخرى غير المعلنة التي تسعى ميليشيا “قسد” إلى تحقيقها، تحت ذريعة التنمية في مختلف المجالات الاقتصادية والمهنية والصحية والخدمية بحسب تعبيرها، لأنها دائمًا ما تستخدم أساليب ترويجية تطوي خلفها مخططات تخدم مشروعها القائم في سوريا.
فعليًّا، لو عملت “قسد” على تلك الأهداف لأشركت جميع المكونات السياسية في المنطقة، لتحقيق التنمية في مختلف المجالات، حيث ما زالت على خلافات متصاعدة مع الأحزاب والتكتلات العشائرية، إلا أنها تسعى إلى ترسيخ واستدامة حكمها في الجزيرة السورية، عبر فرض سياستها ورؤيتها وتطبيقهما على أرض الواقع، مستفيدة من كل الإجراءات التي تصبّ في إخضاع السكان لسياساتها الاستبدادية في المنطقة، بحسب الصحفي سامر الأحمد.
ويُعتبر مشروع الإحصاء أحد الضوابط المهمة لاستدامة حكمها، ويعدّ استباقًا لأي ضغط أمريكي عليها بغية تحسين صورة الإدارة الذاتية وسلوكها، من خلال مشاركة الأحزاب المعارضة لسياستها، وإجبارها على تحقيق تشاركية في الحكم.
وقال الأحمد في حديث مع “نون بوست”: “تقصد “قسد” من خلال مشروع الإحصاء التلاعب بالسجلّات الإحصائية لصالح حاضنتها الشعبية، ولا يُقصد هنا المكون الكردي فقط، وإنما مختلف المكونات التي تواليها، في محاولة ترسيخ أمر واقع يضمن وجود مجتمع متجانس موالٍ وساكت عن سلوكياتها، والذي يُعتبر خطوة استباقية أمام أي محاولة أمريكية لإصلاح الإدارة الذاتية”.
وأضاف: “ستحقق “قسد” من مشروع الإحصاء فائدة كبيرة في انتخابات الإدارة المحلية القادمة، حيث يمكّنها الإحصاء من خلق مجتمع محلي موالٍ لها، يحقق لها الاستفادة من أنصارها وترسيخ وجودها وضمان موالاتها من العائلات التي تمَّ إحصاؤها”.
ورغم ذلك لا تستجيب “قسد” للضغوط الأمريكية لإصلاح الإدارة الذاتية، وإشراك أحزاب المعارضة بسياستها كالحزب الوطني الكردي، والعشائر العربية في دير الزور والرقة والحسكة، والتي تطالب بإشراك سياسي وإداري واقتصادي في منطقة الجزيرة السورية.
اعتبر الأحمد أنه لا يمكن منح الثقة لمشروع الإحصاء الذي تقوم به “قسد”، لأنه لا يقع تحت إشراف دولي، ولا حتى لجان منتخَبة تمثّل كافة المكونات العرقية والسياسية في المنطقة، لأن “قسد” تستأثر بالأدلجة وترسيخ حكمها بأفكار حزب العمال الكردستاني، ما يحقّق لها استمرارها في السلطة الاستبدادية على حساب المكونات السورية المناهضة لها.
مخاوف من إحداث تغيير ديموغرافي
يتخوف أهالي الجزيرة السورية من إحداث تغيير ديموغرافي في المجتمعات السورية التي تقيم في مناطق الإدارة الذاتية، لأنها كانت في الغالب عنصرية في جميع تعاملاتها مع السكان، واتبعت سياسة التمييز بين العرب والكرد، لا سيما إصدارها “بطاقة الوافد” والتدقيق على السكان المهجرين إلى المنطقة، وإصدار قانون حماية أملاك الغائب وغيرها من القرارات التعسفية.
يقول الناشط أبو مايا الرقاوي، الذي يقيم في محافظة الرقة، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يتخوف الأهالي في محافظة الرقة من عملية تغيير ديموغرافي، لا سيما أن “قسد” قامت بدعم بعض الشخصيات الكردية ماليًّا لشراء العقارات من المنازل والأراضي، مستغلةً الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها نسبة كبيرة من سكان الرقة، الذين اضطروا إلى بيع عقاراتهم”.
وأضاف: “ذلك كون أغلب مهجّري مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية، والعديد من القرى الكردية، هاجروا نحو محافظة الرقة، حيث عملت “قسد” في وقت سابق على فتح مراكز لتوطينهم، ومنحتهم امتيازات مختلفة عن المكونات الأخرى، ومن خلال ذلك تسعى إلى تحقيق توازن سكاني بين العرب والكرد في الجزيرة السورية، عبر إغراء بعض شيوخ العشائر لتملُّك العقارات في المحافظة، رغم رفض السكان المحليين لعمليات البيع التي تُقام في المحافظة”.
بينما يرى الصحفي سامر الأحمد أن المشروع لا يستهدف إحداث تغيير ديموغرافي لصالح الكرد على العرب، وإنما الهدف منه إقصاء المعارضين لـ”قسد” من أحزاب سياسية وتكتلات عشائرية، لأنها تسعى إلى تحقيق مجتمع متجانس موالٍ لها، مع استبعاد المجتمع المعارض من مناطقها من مختلف المكونات، ولذلك ستقوم بتوطين نازحي عفرين وبعض المناطق في مناطق الجزيرة السورية”.
وأشار إلى “أن عملية الإحصاء ستنعكس أيضًا على أملاك الغائب، وبالتالي مصادرة المزيد من الأملاك للعائلات التي أُجبرت على الهجرة من الجزيرة وعلى وجه الخصوص العائلات الكردية، وناشطي المعارضة السورية الذين يعيشون في تركيا، إذ يعدّ الإحصاء تمهيدًا وأرضية إدارية وقانونية تحقّق لها ريع أملاك الغائب، واستثمارها دون التدقيق في عملية استغلالها من قبل القائمين عليها من اللجان المشكّلة”.
وفي أغسطس/ آب 2020، أصدرت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا قانون “حماية وإدارة أملاك الغائب”، لإدارة أملاك الأشخاص المقيمين خارج سوريا في مناطق سيطرتها، ويشمل مصطلح الغائب حَمَلة الجنسية السورية ممّن غادر الأراضي السورية مدة سنة أو أكثر بقصد الإقامة الدائمة.
ووفقًا للقانون، فإن اللجنة المشكّلة مخوّلة في تأجير واستثمار الأملاك ووضعها في خدمة “تنمية المجتمع” دون تغيير أوصافها، حيث يفقد الغائب حقه في ريع أملاكه دون المساس في أصل الحق من قبل اللجان المتصرّفة، وإذا لم يحضر هو أو أحد أقاربه من الدرجة الأولى والثانية، خلال مدة أقصاها سنة متواصلة، لا تُسلَّم الأموال إلا بعد أخذ موافقة رئاسة المجلس التنفيذي الموجودة بدائرة أملاك الغائب.
ختامًا، يشكّل مشروع الإحصاء، إلى جانب العديد من القوانين التعسفية التي تتخذها “قسد” في مناطق الجزيرة السورية، تهديدًا للسكان المهجَّرين من منطقة الجزيرة، سواء المغيّبين قسريًّا من المنطقة لمعارضتهم سياستها وحتى اللاجئين في تركيا ودول اللجوء، في حين تبقى الشريحة المقيمة هناك تحت أمر واقع لا مفرّ منه في ظل سلطة استبدادية تتبعها “قسد” لتحقيق مشروعها، الذي يخدم استدامة وجودها.