لن تكون الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، مراسلة “الجزيرة”، شهيدة الحقيقة الأخيرة التي تغتالها قناصة الاحتلال الإسرائيلي، حيث سبقها العشرات من زملائها إلى الشهادة خلال تغطياتهم الإعلامية في الأحداث الجارية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، ولا يزال المجرم طليقًا، دون محاسبة أو عقاب.
منذ عام 1972 أعلن الاحتلال صراحة استفزازه من الصحفيين الفلسطينيين ووضعهم في دائرة الملاحقة والاستهداف، فكان أول شهداء الحركة الصحفية غسان كنفاني، الروائي ورئيس تحرير مجلة “الهدف”، حيث اغتاله الموساد الإسرائيلي بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت، لما كان لكلمته ونقله للحقيقة تأثير في حشد وتوعية الشعب الفلسطيني ومن يناصر قضيته.
واليوم حين يكون الحدث في أي مدينة أو قرية فلسطينية، يستفرد جنود الاحتلال، بتغطية من المستوى السياسي الإسرائيلي، بالصحفيين الفلسطينيين، عبر وضع القيود والعراقيل التي تعيق وصولهم إلى الحقيقة، ومنعهم من التغطية في مكان اشتعال الأحداث.
وبشكل معلن، يدعو إيتمار بن غفير، عضو الكنيست الإسرائيلي، إلى إطلاق النار على كل صحفي يعيق عمل الجيش في الشيخ جراح والقدس والضفة المحتلة، وكان ذلك واضحًا خلال الأحداث الأخيرة التي جرت في المسجد الأقصى وجنين ونابلس.
وخلال معركة سيف القدس على قطاع غزة في مايو/ أيار العام الماضي، استهدفت الطائرات الحربية المقرات الإعلامية، ودمّرت أكثر من 30 مؤسسة محلية ودولية منها مكتب قناة “الجزيرة”، وذلك لإرهاب الصحفيين وثنيهم عن نقل الحقيقة، لكن ما يجري على أرض الواقع كان مختلفًا، حين انتفضَ الصحفيون من تحت الركام وسابقوا سيارات الإسعاف والدفاع المدني إلى مكان الحدث لتغطيته ونقله عبر الأقمار الصناعية.
يُذكر أن عدد شهداء الحركة الصحفية منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، ومع ارتقاء أبو عاقلة، وصل إلى 55 صحفيًّا فلسطينيًّا خلال قيامهم بعملهم الصحفي.
أبرز الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون
لا تحمي الأدوات التعريفية للصحفي، الدرع المطبوع عليه كلمة “PRESS” أو الخوذة التي يضعها فوق رأسه، من استهدافه، حيث تضرب “إسرائيل” عرض الحائط بالمواثيق الدولية، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر الاعتداء على الصحفيين ووسائل الإعلام أثناء العمليات العسكرية، بالإضافة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اللذين يؤكدان على حرية الرأي والتعبير.
بداية، سُجِّل خلال العام الماضي 384 انتهاكًا ضد الصحفيين، بينهم شهيد واحد هو الصحفي يوسف أبو حسين، الذي استشهدَ إثر قصف منزله بصاروخَين من الطائرات الحربية في بناية في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، وعُثر عليه بين الركام في الشارع أمام المبنى، حيث قذفته قوة القصف من الطابق الخامس. وتشمل الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون التالي:
القتل العمد: يصوِّب الجنود بنادقهم بالرصاص الحي والمعدني تجاه الصحفيين خلال تغطيتهم المواجهات الميدانية، لقنصهم إما في الرأس وإما القدمَين وإما الظهر، فدومًا يكون الاستهداف في المكان ذاته، ما يدلل على أن قتلهم مقصود، لثنيهم عن فضح ممارساته العنصرية وإيصالها للرأي العام العالمي.
الملاحقة والاعتقال: وفق نادي الأسير الفلسطيني، يقبع في المعتقلات الإسرائيلية 16 صحفيًّا، منهم محمود عيسى المعتقل منذ عام 1993، والصحفية بشرى الطويل من مدينة البيرة التي اُعتقلت خلال السنوات الماضية 6 مرات، معظمها إداريًّا، وذلك لتقويض دورهم في كشف وفضح الجرائم، وتقييد حرية الرأي والتعبير.
ويجد الاحتلال في اعتقال الصحفيين وتغييبهم داخل سجونه وسيلة ناجعة لردعهم وترهيبهم، لكن في المقابل يواصل الإعلاميون نقل رسالتهم حتى من زنزاناتهم.
إغلاق وتدمير المكاتب الصحفية وتكسير المعدّات: في قطاع غزة حين يُعلن التصعيد العسكري، يكون أول أهداف الطائرات الحربية هو قصف المقارّ الإعلامية، كما حدث في معركة سيف القدس حين دُمِّرت أبراج الشوا حصري والجلاء والجوهرة بالصواريخ، التي ضمّت أبرز الوكالات الدولية والمحلية.
أما على صعيد المعدّات، فلم يتوانَ الجنود عن كسر الكاميرات أو مصادرتها لمسح ما وثّقته من انتهاكات عنصرية، وذلك ضمن سلوك منهجي في الاستراتيجية الإسرائيلية.
كما يُحرَم صحفيو قطاع غزة من إدخال الكاميرات الحديثة عبر تحكّمها بالمعابر، إلا أنهم يدخلونها بطرقهم الخاصة، سواء من خلال زملاء أجانب يدخلون بمعدّاتهم التي يتركونها عند مغادرتهم أو بطرقهم الخاصة، فالحاجة تقتضي ذلك.
تتعمّد سلطات الاحتلال تشويه سمعة الصحفيين والادّعاء بأنهم يعملون في مؤسسات تروِّج للإرهاب، لكن واقعيًّا يزعجها انتقادهم ونقلهم الحقيقة التي تفضح انتهاكاتها ضد المدنيين
تقييد الحركة وحرية التنقل: وفق تقرير أصدره المركز الأورومتوسطي لحقوق الانسان في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، جاء فيه أن السلطات الإسرائيلية تتعمّد “ابتزاز ومساومة صحفيين فلسطينيين على حقهم في حرية التنقل والحركة”.
وبحسب التقرير، فإنه في حالات أخرى وعدَ الضباط الإسرائيليون الصحفيين بمنحهم الحق في التنقل والسفر، إذا ما تخلوا عن عملهم الصحفي أو توقفوا عن العمل لصالح جهات إعلامية وصحفية معيّنة، وفي حال رفضَ الصحفيون العرض، فإنهم يتعرضون لـ”الاعتداءات الجسدية والنفسية، من خلال الضرب والاحتجاز والاقتحامات المنزلية والتهديد بالملاحقة المتواصلة”.
ووفقًا للإفادات، فإن عمليات إصدار قرارات المنع من السفر والتنقل تجري وفقًا لقرارات إدارية تصدرها السلطات الإسرائيلية، دون اتّباع إجراءات قانونية أو قضائية، ودون إعلام الصحفيين بالقرار وقت صدوره أو إعلامهم بالجهة التي أصدرت القرار والأسباب التي دفعتها إلى ذلك، ولا يتمّ إخبار الصحفيين كذلك بكيفية إزالة القرار أو الاعتراض عليه.
تشويه السمعة: تتعمّد سلطات الاحتلال تشويه سمعة الصحفيين والادّعاء بأنهم يعملون في مؤسسات تروِّج للإرهاب، لكن واقعيًّا يزعجها انتقادهم ونقلهم الحقيقة التي تفضح انتهاكاتها ضد المدنيين، ودومًا تتذرّع عند اعتقالهم بأن لديهم ملفات أمنية سرّية لا يمكن الكشف عنها، وذلك لتضع الصحفي في موضع الشبهات.
موقف القانون الدولي
يلزم القانون الدولي الإنساني “إسرائيل” بعدم استهداف الصحفيين، ويؤكّد على تمتُّعهم بالحماية الكاملة كمدنيين، فضلًا عن قرارات مجلس الأمن التي تؤكد ذلك.
وعند استهداف الصحفي الفلسطيني تُثار قضيته عبر منصات التواصل الاجتماعي وبعض الوسائل الإعلامية، وبمرور الوقت تتلاشي بعيدًا عن المحاكم الجنائية الدولية لمحاسبة الجناة.
يقول أستاذ الإعلام في الجامعات الفلسطينية، البروفيسور جواد الدلو، إن كل الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الصحفيين لم تلقَ عقابًا من المجتمع الدولي، لذا تمادى في انتهاكاته.
وأوضح الدلو في حدثيه لـ”نون بوست” أن “إسرائيل” تنفي التهمة عن نفسها وقت الاعتداء على الصحفيين، والتذرُّع بأنهم يقفون في المنطقة الخطأ أثناء تغطية الأحداث، كما فعلت في جريمتها الأخيرة حين ادّعت أن شيرين أبو عاقلة كانت تقف في منطقة الاشتباك، لكن روايتها أُدحضت بواسطة الـ GPS الذي أوضح بُعد المسافة بين مكان استشهادها والمواجهة مع المقاومين في جنين.
وبحسب رؤيته، فإن مقتل الإعلامية أبو عاقلة لن يغير الحقيقة، خاصة أنه سبق وقُتل العشرات من الصحفيين دون محاسبة الجناة، موضّحًا أن المجتمع الدولي لم يتخذ لمرة واحدة موقفًا حازمًا من جرائم الاحتلال، لا سيما أن الدول الأوروبية وأمريكا لا يريان إلا بعين واحدة.
في حال شُكّل لوبي ضاغط لمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه ضد الصحفيين، سيفشل في تبرير جريمته بالمسوغات القديمة نفسها، وكذلك في تسخير آلته الدعائية التي يستخدمها دومًا في الدفاع عن “بشاعته”
ويشير الدلو إلى أن الأمل معقود على مؤسسات الاتحاد الدولي للصحفيين ومنظمة صحفيون بلا حدود، وغيرها من المؤسسات التي يمكنها ملاحقة الاحتلال الإسرائيلي ومحاسبته على جرائمه.
واستضافت مجلة “الصحافة” عبر مساحة تويتر، بعنوان “قتل الصحفيين.. هل يفلت الجناة من العدالة؟”، عددًا من الحقوقيين والإعلاميين للحديث عن اغتيال أبو عاقلة، وكيف يمكن الاستفادة من هذا الملف حال تمَّ توثيقه من قبل المنظمات الحقوقية.
اقترح المتحدثون إمكانية إرفاق ملف أبو عاقلة بتقارير توضِّح ما تعرّضَ له زملاؤها في أحداث سابقة أدّت إلى فقدان حياة بعضهم، ما سيعطي قوة أكبر للملف حال وُجِّه إلى المحكمة الجنائية، في ظلّ وجود لوبي ضاغط على مستوى المنظمات الدولية وليس الإعلامية فقط.
وبحسب خبرة الضيوف العرب المقيمين في الدول الأوروبية، ذكروا أن التأثير يبدأ عبر الإعلام الغربي، من خلال نشر مقالات رأي باللغات الأجنبية وفتح نقاشات مع صحفيين دوليين عبر تطبيقات “الأونلاين”، كل ذلك من شأنه أن يحدث تغييرًا ولو بسيطًا لدى المجتمع الدولي.
وفي حال شُكّل لوبي ضاغط لمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه ضد الصحفيين، سيفشل في تبرير جريمته بالمسوغات القديمة نفسها، وكذلك في تسخير آلته الدعائية التي يستخدمها دومًا في الدفاع عن “بشاعته”.