بعد قرابة عامَين من التقاضي، تؤكد محكمة الاستئناف حكمًا بالسجن لمدة 4 سنوات و11 شهرًا بحقّ رئيسة حزب الشعب الجمهوري في مدينة إسطنبول، جانان كافتانجي أوغلو. أثار القرار عاصفة من ردود الأفعال، دعا على أثرها رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، كوادر الحزب ونوّابه إلى الاحتشاد أمام مقرّ الحزب في إسطنبول، حيث قام برفقة كل من جانان كافتناجي أوغلو ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام اوغلو ونواب من الحزب بتنظيم مؤتمرٍ صحفي أمام المقرّ، كما أدان أغلب زعماء المعارضة الحكم القضائي الصادر بحقّ جانان.
تعدّ جانان كافتانجي أوغلو من الوجوه السياسية التي ازداد حضورها قوة في السنوات الماضية، خاصة بعد فوزها في رئاسة حزب الشعب الجمهوري في مدينة إسطنبول عام 2018، ولاحقًا فوز الحزب في الانتخابات المحلية لبلدية إسطنبول عام 2019، حيث ترافق هذا النجاح مع تصريحات ومواقف سياسية وإعلامية أثارت الكثير من اللغط حول السياسية الشابة، ما أوصلها إلى السجون التركية.
من هي جانان كافتانجي أوغلو؟
ولدت جانان شاهين عام 1972 في قرية مسعودية في مدينة أوردو على البحر الأسود لأب معلم وأمّ ربة منزل، أنهت دراستها الأساسية والثانوية قبل أن تنتقل إلى إسطنبول، لتلتحق بكلية الطب في جامعة إسطنبول التي تخرجت منها عام 1995.
وبعد عامَين أنهت درجة الماجستير في الطب الشرعي، وخلال نشاطها في عدد من المؤسسات الحقوقية أنهت درجة الدكتوراه، وفي عام 2001 تزوجت جانان بنجل الصحفي التركي اليساري أوميت كافتانجي أوغلو، الطبيب علي كافتانجي أوغلو.
منذ مراحل مبكِّرة أظهرت جانان ميلًا إلى النشاط العام، وأخذت منحًا يساريًّا، ففي عام 2009 أسّست برفقة عدة نشطاء منصة “الذاكرة الاجتماعية لتخليد ذكرى ضحايا الجرائم غير معروفة الجناة” (Faili meçhul).
ومع قدوم كمال كليتشدار أوغلو إلى رئاسة حزب الشعب الجمهوري عام 2010، وتزايُد الثقل اليساري فيه، بدأت جانان بالنشاط سياسيًّا في أروقة الحزب، وتولّت منصب مساعد رئيس الحزب في إسطنبول لشؤون الإعلام، ولاحقًا ترقّت إلى منصب نائب رئيس الحزب إلى جوار مسؤوليتها عن الإعلام في فرع إسطنبول.
وفي عام 2014 حاولت جانان الترشُّح لرئاسة بلدية مالتبه في القسم الآسيوي من إسطنبول، لكن معارضة كوادر حزب الشعب وتحديدًا القوميين منهم، دفعت مجلس الحزب إلى التراجع عن ترشيحها.
وبحلول عام 2018، وخلال المؤتمر الـ 36 لحزب الشعب الجمهوري، خاضت جانان أهم معاركها الحزبية، بدخولها المنافسة على منصب رئيس فرع إسطنبول في حزب الشعب الجمهوري في مواجهة جمال جان بولات.
وخلال فعاليات المؤتمر تعرّضت جانان لهجوم التيار القومي، الذي هاجم مواقفها السياسية من عدد من القضايا، وتحديدًا انتقادها لشعار “نحن عساكر أتاتورك” واستبداله بشعار “نحن رفاق أتاتورك”، لتُحدث جلبة وانتقادًا لها ولشعارها الجديد في أوساط حزبها.
فازت جانان بانتخابات فرع حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول بفارق 7 أصوات فقط عن منافسها جمال جان بولات، الذي حصدَ 318 من أصوات المؤتمر فيما نالت هي 325 صوتًا، لتبدأ بعد ذلك رحلة إعادة بناء وتأهيل تشكيلات الحزب، وبموازتها استمرَّ صراع كافتانجي أوغلو مع منافسيها، ليدفعها لاستقالة لم تدُم أكثر من يوم واحد، لتعود من جديد لخوض جولة الانتخابات المحلية في مارس/ آذار 2019.
شكّلت جولتا الانتخابات المحلية في مارس/ آذار وحزيران/ يونيو 2019 الحدث الأهم في مسيرة كافتانجي أوغلو، حيث لعبت دورًا هامًّا في فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري لرئاسة البلدية أكرم إمام أوغلو في الانتخابات، الأمر الذي ساهم في ارتفاع رصيدها وتعزيز مكانة خطها السياسي.
وتمتلك كافتانجي أوغلو علاقات قوية مع التيار اليساري التركي والكردي، فكثير من الاتهامات الموجَّهة إليها جاءت على خلفية تصريحات أو تغريدات تمَّ تصنيفها على أنها مساندة لحزب العمال الكردستاني، أو رأى فيها البعض هجومًا على الدولة التركية وسياستها في عدد من الملفات.
محاكمة جانان
بدأت رحلة محاكمة جانان كفاتانجي أوغلو في شهر مايو/ أيار 2019، أي بعد ما يقارب الشهر من جولة الانتخابات المحلية الأولى في نهاية مارس/ آذار من العام ذاته، حيث تركّزت تُهم الادّعاء العام على تغريدات نشرتها جانان في أوقات مختلفة فترة 2012-2017، مطالبًا بمدة سجن تصل إلى 17 عامًا.
تركّزت التُّهم المقدمة من الادّعاء على توجيه إهانة لرئيس الجمهورية، وإهانة موظف عام، والتحقير العلني بالدولة التركية، وإثارة العداء ما بين الشعب، وأخيرًا الترويج لبروباغندا تنظيم إرهابي.
بدأت الجلسة الأولى من المحكمة في 28 حزيران/ يونيو، بعد 5 أيام من الجولة الثانية من الانتخابات المحلية، وعُقدت الجلسة الثانية في 18 يوليو/ تموز من العام ذاته، وفي 6 سبتمبر/ أيلول 2019 عُقدت جلسة النطق بالحكم، لتنال كافتانجي أوغلو حكمًا بالسجن لـ 9 سنوات و8 أشهر.
ويأتي هذا الحكم عن التُّهم التالية: سنة و6 أشهر عن الترويج لبروباغاندا حزب إرهابي مسلح، سنة و6 أشهر لإهانة موظف حكومي، سنتان و4 أشهر لإهانة رئيس الجمهورية، سنة و8 أشهر لتحقير الدولة التركية بشكل علني، سنتان و8 أشهر لإثارة التفرقة والفتنة بين الشعب.
Canan Kaftancıoğlu için “fikirlerinden ötürü aldığı ceza” diyen bazı aklıevveller yaranmak adına ne kadar düşebileceklerini de göstermiştir.
Fikir dedikleriniz bu aşağıdakiler ise fikriniz de siz de çöpsünüz.
(Diğer aşağılık “fikirlerini” paylaşmaya ahlakım müsade etmiyor) pic.twitter.com/XmOYSpUiPV
— Ömer Arvas (@omerarvas) May 12, 2022
لم يتمَّ اعتقال جانان وجرى استئناف الحكم، لكن محكمة الاستئناف عادت لتثبت الحكم مع إسقاط بعض التُّهم، لتنخفض مدة السجن من 9 سنوات و8 أشهر إلى 4 سنوات و11 شهرًا، بعد أن جرى إسقاط تهمتَي الترويج لبروباغندا منظمة إرهابية وإثارة التفرقة والفتنة بين الشعب.
يترتّب على الحكم القضائي مسٌّ ببعض الحقوق السياسية لجانان، وفقًا لبعض الخبراء القانونيين، وعلى خلاف ما تمَّ نشره أن جانان سوف تُحرم من كامل حقوقها السياسية، حيث أُدخلت تعديلات على المادة 53 من قانون العقوبات التركي، حصرت الحرمان في عدم قدرة جانان على الترشُّح لعضوية البرلمان.
وبهذا ما زال بإمكانها الحضور سياسيًّا في الحياة السياسية التركية، وفيما يتعلق بدخولها إلى السجن فما زالت المسألة غير واضحة، مع توقعات بعدم تحقُّقها وإمكانية الاستعاضة عنها بالإفراج المشروط، وذلك لاعتبارات مرتبطة بطبيعة الحكم.
ما بين السياسة والقانون
أثار الحكم الذي تلقّته جانان كافتانجي أوغلو عاصفة من ردود الأفعال داخل تركيا، حيث وصفَت المعارضة التركية القرار بالمسيَّس، فيما رأى معسكر الحكومة أن القرار صادر عن القضاء، وأن جانان ارتكبت التُّهم الموجَّهة إليها.
وتستند المعارضة في سرديتها على مجموعة من الاعتبارات أهمها التوقيت، فوفقًا لها بدأت المحاكمة بعد فوز حزب الشعب الجمهوري في بلدية إسطنبول في مايو/ أيار 2019 الذي لعبت كافتانجي دورًا هامًّا في تحقيقه، كما أن المحتوى الذي جرى محاسبتها عليه يعود إلى فترة تصل إلى عام 2012، وترى المعارضة في استحضاره وإعادة نشره الآن مؤامرة تستهدف معاقبة كافتانجي أوغلو.
ودافعت شخصيات محسوبة على المعارضة عن جانان، بالقول إن الرجوع إلى محتوى عدد من الشخصيات المقرَّبة من الحكومة سيظهر أيضًا، وهو “محتوى منافٍ للقانون”، في إشارة إلى تحالفات حزب العدالة والتنمية في ذلك الوقت.
على الجانب الآخر، ترى جهات معيّنة أن كافتانجي أوغلو مذنبة -وهذا ما أقرّه القضاء التركي- في التُّهم الموجَّهة إليها، ويستشهد هؤلاء بتغريدات سابقة لها، احتوت على مخالفات للقانون، كتوجيه الإهانة للرئيس التركي أو الدولة التركية.
وبغضّ النظر عن الجانب القانوني والقضائي، فالحُكم الأخير يساهم في زيادة تكتُّل بعض قوى المعارضة التي تشعر بتهديد السلطة ومظلومية بطشها، لكنه في جانب آخر يساهم في تعزيز الدعاية الموجَّهة إلى حزب الشعب الجمهوري، كحزب حليف لحزب الشعوب الديمقراطية، المتّهم بتعاونه مع حزب العمال الكردستاني.
فخلال السنوات الماضية، لعبت كافتانجي أوغلو دورًا هامًّا في تعزيز العلاقة ما بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطية، وتحديدًا في مدينة إسطنبول، خاصة بعد أن نجحت في تأمين دعم حزب الشعوب الديمقراطية لأكرم إمام أوغلو، كما يساهم إبراز كافتانجي أوغلو، المشهورة بمواقفها المثيرة للجدل، في تعزيز هذه الدعاية وتحديدًا في الأوساط القومية.