في الوقت الذي خرج فيه مئات آلاف العرب من المحيط إلى الخليج – ومنهم تونسيون – إلى الشوارع والساحات في مظاهرات ووقفات احتجاجية تنديدًا باغتيال الاحتلال الإسرائيلي شهيد الكلمة الحرة الصحافية شيرين أبو عاقلة، وتأكيدًا على التزامهم بدعم القضية الفلسطينية، كانت هناك طائرة تحط في مطار تونس قرطاج قادمة مباشرة من كيان الاحتلال.
يحدث هذا في زمن الرئيس قيس سعيد الذي قال يومًا إن “التطبيع خيانة”، وألهبت مقولته الجماهير العربية التي احتفت به فور فوزه بالانتخابات ونظمت على شرفه حفلات لتلقي التهاني، لكن ليس كل ما يُقال من الحكام العرب يمكن تصديقه.
رحلات منظمة إلى تونس
هذه الطائرة التي حطت بمطار تونس قرطاج صباح أمس الجمعة، كانت مليئة بالإسرائيليين القادمين إلى تونس في رحلة مباشرة من مطار بن غريون في تل أبيب، وقد شُوهد العشرات من الإسرائيليين في المطار يتكلمون العبرية، ما شكل صدمةً للعديد من التونسيين الموجودين هناك.
تأتي هذه الرحلة بعد نحو سنة ونصف من منع السلطات التونسية رحلة قادمة من تل أبيب إلى مدينة الرباط المغربية، من المرور عبر أجوائها، ما أجبرها على اتخاذ مسار شمالي يمر بالبحر الأبيض المتوسط عبر المجال الجوي اليوناني، ثم الإيطالي ومنه إلى الإسباني، وأخيرًا إلى العاصمة المغربية.
لن تكون هذه الرحلة الأخيرة، فقد أعلنت وكالة أسفار إسرائيلية تنظيم رحلات من دولة الاحتلال إلى تونس لمواكبة احتفالات الحج بمعبد الغريبة في جزيرة جربة جنوب البلاد بعد انقطاع الاحتفالات لمدة سنتين بسبب كورونا.
أثبت سعيد أن ما قبل الجلوس على كرسي الحكم ليس كما بعده، فقبله كان له أن يتكلم ويُلهب مشاعر التونسيين ويُدغدغ أحلامهم الضائعة
جاء في إعلان وكالة الأسفار الإسرائيلية عزمها تنظيم أربع رحلات للإسرائيليين انطلاقًا من مطار بن غوريون إلى مطار قرطاج الدولي مرورًا بمطار ثالث لم تذكره وحُدّدت الرحلات لأيام 12 و13 و14 و19 مايو/أيار الحاليّ.
ويضم برنامج الرحلات زيارة عدة معالم تاريخية وسياحية، من ذلك زيارة المدينة العتيقة وضاحية سيدي بوسعيد ومتحف باردو بولاية تونس وطبرقة وعين دراهم من ولاية جندوبة ودقة من ولاية باجة وسبيطلة من ولاية القصرين، فضلًا عن زيارة ولايات نابل وسوسة والمنستير والمهدية والقيروان وقابس وتوزر وتطاوين، مشيرة إلى قضاء ثلاثة أيام بجزيرة جربة قبل العودة إلى مدينة تل أبيب الإسرائيلية في اليوم العاشر من الرحلة.
تحتضن تونس هذه الأيام “حج الغريبة”، حيث يحج اليهود إلى كنيس الغريبة مرة كل سنة، في ذكرى وفاة أحد الأحبار اليهود قبل 100 عام، في الكنيس الذي سمي على اسم طفلة يهودية نبذها أهلها، فاتخذت مقرًا لها خارج حارة اليهود، وظلت هناك حتى ماتت، ويقع الكنيس في قرية صغيرة بجزيرة جربة كانت ذات غالبية يهودية في الماضي وتسمي “الحارة الصغيرة”، يطلق عليها حاليًا “الرياض”.
يعد كنيس الغريبة أقدم كنيس في إفريقيا وأحد أقدم المعابد اليهودية في العالم، وترقد فيه – بحسب الأسطورة – واحدة من أقدم نسخ التوراة في العالم، وتقول لافتة معلقة داخل الكنيس ومكتوبة بأربع لغات (العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية): “يرجع عهد هذا المقام العتيق والمقدس المعروف بالغريبة إلى عام 586 قبل الحساب الأفرنجي، أي منذ خراب الهيكل الأول لسليمان تحت سلطة نبوخذ نصر ملك بابل وقد وقع ترميمه عبر العصور”.
صمت سعيد وجماعة التطبيع خيانة
نتذكر جميعًا تلك الكلمات الساحرة التي ألقاها على مسامعنا المترشح للرئاسية قيس سعيد خلال المناظرة التليفزيونية التي جمعته مع المترشح الثاني نبيل القروي سهرة 11 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قبل 48 ساعة من الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية “التطبيع خيانة عظمى.. ما يحدث في فلسطين هو مظلمة القرن.. الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم ومن يكن له علاقة مع الكيان الصهيوني هو خائن”.
كلمات قليلة قيلت في ثوانٍ معدودات، لكنها حُفرت في أذهاننا وسحرت الرأي العام التونسي والعربي ومهدت لفوز سعيد برئاسة تونس بأغلبية فاقت 73% من أصوات الناخبين رغم أنه وافد جديد على السياسة.
أثبت سعيد أن ما قبل الجلوس على كرسي الحكم ليس كما بعده، فقبله كان له أن يتكلم ويُلهب مشاعر التونسيين ويُدغدغ أحلامهم الضائعة، لكن بعد تذوق حلاوة الحكم يكون الصمت أجدى وأنفع له حتى يواصل حكمه، وإن كان الثمن التخلي عن المبادئ إن كانت موجودة أصلًا.
سكوت النظام الرسمي والمنظمات التي كانت تدعي الدفاع عن القضية الفلسطينية تجاه عمليات التطبيع الممنهجة الهدف منه تهيئة الرأي العام التونسي لتطبيع شامل
يصمت قيس سعيد تجاه عمليات التطبيع الممنهج الممارسة في بلد يحكمه بنفسه بعد أن حل البرلمان وأقال الحكومة وحل معها المؤسسات الدستورية بما في ذلك مجلس القضاء الأعلى وهيئة الانتخابات وهيئة مراقبة دستورية القوانين وغيرها الكثير.
في زمن سعيد جلس وزير الدفاع التونسي في نفس الطاولة مع نظيره الإسرائيلي، واستقبلت تونس رحلات مباشرة من تل أبيب وفتحت أبوابها للاعبين إسرائيليين للعب فوق أراضيها وسمحت لذهاب سياح تونسيين نحو كيان الاحتلال وتفهمت تطبيع الدول العربية وقالت إن ذلك وجهة نظر وشأن داخلي وقبلها كان خيانة.
في زمنه أيضًا، وصل حجم التطبيع الاقتصادي بين تونس و”إسرائيل” إلى ذروته، فبلغت قيمة البضائع التي صدرتها تونس إلى كيان الاحتلال 18.248 مليون دولار، ما يقارب 49.5 مليون دينار تونسي لسنة 2020 وحدها، بحسب الإحصاءات التي حصلنا عليها من قاعدة بيانات منظمة الأمم المتحدة.
المعلومة يا شباب: رسمي فيه سياح إسرائيليين في تونسhttps://t.co/a9SjyAS11d pic.twitter.com/MTNzIApQBf
— طارق (@AyariTarek13) May 13, 2022
صمت سعيد تجاه عمليات التطبيع الممنهجة رغم أن بلاده كانت ضحية لجرائم عديدة نفذها كيان الاحتلال الإسرائيلي، مثل اغتيال مهندس الطيران التونسي محمد الزواري بصفاقس في 15 ديسمبر/كانون الأول 2016، وقصف مدية حمام الشط بالعاصمة سنة 1985، واغتيال القياديين الفلسطينيين بتونس أبو جهاد وأبو إياد سنتي 1988 و1991.
صمت سعيد كما صمتت الأحزاب القومية على غرار حركة الشعب والمنظمات الوطنية على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل التي تدعي دعم القضية الفلسطينية ورفض التطبيع مع كيان الاحتلال مهما كانت الأسباب.
حتى نكون صادقين أكثر، في ظل صمت اتحاد الشغل ارتأى الأمين العام المساعد للاتحاد سامي الطاهري تسجيل “موقف تاريخي”، إذ كتب تعليقًا في صفحة وكالة الأسفار الإسرائيلية التي تنظم رحلات إلى تونس جاء فيه “عاشت فلسطين” مع وابل من الأعلام.
تهيئة لتطبيع شامل
سكوت النظام الرسمي والمنظمات التي كانت تدعي الدفاع عن القضية الفلسطينية تجاه عمليات التطبيع الممنهجة الهدف منه تهيئة الرأي العام التونسي لتطبيع شامل، والتحاق بلادهم بركب الدول العربية التي طبعت علاقاتها مع كيان الاحتلال رغم عدم تسوية الصراع العربي الإسرائيلي وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس المحتلة.
سبق لتونس أن أعلنت أنها غير معنية بالتطبيع مع دولة الاحتلال، وأن موقفها لا تؤثر فيه التغيرات الدولية، لكن العديد من المعطيات والمؤشرات تؤكد أن التطبيع قادم لا محال، خاصة أن الرئيس لم يسارع بسن قانون يجرم التطبيع رغم أن جميع السلطات بيده.
انقلاب قيس سعيد ..
هدفه تطبيع اكبر بين تونس واسرائيل
والامارات ستكون الممول الاقتصادي لتونس
في حال تقارب قيس سعيد مع اسرائيل اكثر
والانقلاب لمسك زمام اللعبه بيد قيس سعيد ..— بوغانم (@bughanim73_q) July 31, 2021
عدم سن قيس سعيد قانون يجرم أو يعاقب تطبيع العلاقات السياسية أو الاقتصادية مع تل أبيب، الهدف منه ترك الباب مفتوحًا أمام كل التطورات التي يمكن أن تحصل في البلاد، وحتى لا يكون في حرج أكبر إن قبل التطبيع.
لا يُستبعد أن يعلن نظام سعيد قريبًا تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، ويمكن أن يتعلل سعيد والمحيطون به بصعوبة الوضع الاقتصادي والعزلة الدولية المفروضة على النظام، لتبرير التطبيع، خاصة أنه يُريد الحفاظ على كرسي الحكم مهما كلفه الأمر.
في أقل من سنتين تغيرت تصريحات سعيد فيما يتعلق بالتطبيع من الكلام الذي خاطب به مشاعر التونسيين، إلى ساحة الفعل السياسي الواقعي، ما يجعل تونس أقرب من أي وقت مضى للتطبيع مع كيان اغتصب الأرض وشرد الفلسطينيين ونكل بهم على مرأى ومسمع الجميع.