لا ينسى السوريون أن تركيا فتحت أبوابها مشرعة لاستقبالهم وأمّنت لهم الحماية من حرب الأسد اللئيمة، قدّم هذا البلد الكثير من الترحاب والبشاشة عند استقبال اللاجئين السوريين في البداية، على أن طول فترة اللجوء لسنوات وعدم سقوط النظام في سوريا عقّد الموقف وبات اللاجئون يواجهون اليوم خطابًا شعبويًا وتحديدات عديدة على أكثر من صعيد.
خطاب معاد للاجئين من هنا وتشديد في الإجراءات الحكومية من هناك، تغيّر الحال وتبدلت الأمور، ومضت سنوات عصيبة على السوريين ويتوقع أن مستقبًلا أشد صعوبة ينتظرهم تزامنًا مع موسم الانتخابات في البلاد ووضع اللاجئين ورقة أولى في البرامج الانتخابية للأحزاب (حكومة ومعارضة)، وبالفعل أثر هذا الأمر على حياة السوري بشكل كبير، فمن جهة بدأت ظاهرة الترحيل تحت عنوان العودة الطوعية ومن جهة أخرى أوقفت الكثير من ملفات الإقامات والتجنيس، وكل ذلك في ظل تصاعد حملة عنصرية كبيرة ضد اللاجئين في البلاد يقودها سياسيون أمثال أوميت أوزداع رئيس حزب النصر المعارض.
ما سبق يضاف إليه حالة اقتصادية صعبة تواجه اللاجئين كما المواطنين في بلد سجلت الأرقام الرسمية أن نسبة التضخم وصلت فيه إلى 61% في أبريل/نيسان الماضي، وطبعًا الحالة الاقتصادية الصعبة تتمثل بتدني أجر العامل السوري وعدم تأمينه وإعطائه حقوقه القانونية بشكل يحفظ له كرامته من أصحاب الأعمال، إضافة إلى غلاء الأسعار الفاحش وارتفاع أسعار إيجار البيوت بشكل لم يعد يتوازن مع الرواتب الممنوحة أبدًا، هذه الأمور دفعت بكثير من السوريين للتفكير بخيارات بديلة أو وجهات أخرى سنتحدث عنها في هذا التقرير.
هجرة جديدة
الشاب فؤاد أبو موفق، وصل إلى تركيا عام 2014، عمل في عدة معامل خياطة ألبسة، أتقن فؤاد اللغة التركية حتى بات المواطن التركي لا يميزه ولا يعرف أنه سوري، كما زادت صلة فؤاد بمحيطه من الشباب الأتراك وشبّك علاقات لا بأس بها بحسب ما قاله لـ”نون بوست”، يقول فؤاد: “أنا متعلق بتركيا وعشت فيها ما يقرب من 7 سنوات وتعلمت لغتها وشعبها طيب كما أنني في الفترة الأولى استطعت أن أكوّن بعض العلاقات هنا”.
رغم ذلك، فإن فؤادًا لم يشعر في يوم من الأيام بالأريحية المالية في تركيا بسبب صعوبات العمل ووقته الطويل وقلة الأجور، وفي هذا الصدد يقول: “لم يكن معاشي في تركيا بيوم من الأيام كافيًا خاصة أنني أرسل بعضًا منه إلى أهلي في سوريا، ولم أستطع أن أوفر خلال سبع سنوات قرشًا واحدًا”. صعوبة الأوضاع الاقتصادية وضغوط المجتمع على السوريين دفعت فؤاد أن يبحث عن وجهة جديدة ويسافر إليها قاصدًا الرزق وبعضًا من الاستقرار كما يقول.
في ذات السياق يتحدث الشاب السوري مجد أبو ماجد لـ”نون بوست” عن أن قدومه إلى تركيا كان في عام 2015 بسبب الحرب في سوريا، في بداية هجرته إلى تركيا حاول مجد العمل من أجل توفير قسم من المال وإرساله إلى أهله في سوريا، وبدأ يطور نفسه في اللغة والمهارات التي تساعده في الدخول إلى سوق العمل وإيجاد مكان يحفظ له استقراره وحقوقه كعامل في هذه البلاد وفقًا لما تحدث به، ومع بحثه عن العمل يقول مجد: “كنت أحاول الخروج إلى أوروبا عبر طرق التهريب رغم أنني لم أكن مقتنعًا بهذا الأمر، ولكنني لم أوفق وبقيت في تركيا”.
“في البداية وجدت عملًا في إحدى المنظمات الإنسانية في مدينة غازي عنتاب بقيت فيه شهرين فقط ومن بعدها عدت إلى إسطنبول”، يقول مجد، مضيفًا: “بدأت العمل في إسطنبول بمجال الإعلام في جريدة عنب بلدي السورية، وبدأت تتحسن أموري نسبيًا، وظننت أن أموري ستستقر وتتحسن”، بعد ذلك استطاع مجد أن يكمل دراسته في جامعة إسطنبول في قسم هندسة الاتصالات.
بقي مجد موظفًا لمدة 3 سنوات، لكنه بدأ بالتفكير بالعمل الحر وأن يبني لنفسه ولأهله “شيئًا مستقلًا خارج إطار الوظائف وكان هذا الأمر بحاجة لرأس مال، بالإضافة إلى صعوبة مثل هذا الأمر في تركيا”، لكن مجد بقي يبحث عن الأفضل وهو ما لم يكن “متاحًا في تركيا” بحسب ما يقول.
فبعد انقطاع العمل والإغلاق الذي حصل في وقت جائحة كورونا بدأت الأمور الاقتصادية تسوء في هذا البلد، بالإضافة إلى الحالة المجتمعية التي تغيرت عما كانت عليه من قبل وحملات الكراهية والعنصرية، كل هذا دفع بمجد أن يجد وجهة جديدة للعمل والخروج من هذه البلاد.
حالة فؤاد ومجد تشبه الكثير من الشباب والعوائل السورية التي حاولت الاستقرار في تركيا كبلد مضيف والعمل فيه، لكن الظروف القاهرة تجبر الناس يومًا بعد يوم على الهجرة، هجرة ليست الأولى في قاموس السوري ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، لكن هل من السهل أن تخرج إلى بلد آخر بعد أن قضيت السنوات تحاول جاهدًا الاستقرار؟
حتمًا لا، فالسوري اليوم في تركيا ارتبط بهذه البلاد بشكل أو بآخر رغم الصعوبات، إضافة إلى ذلك فإن هذا المهاجر في تركيا بات مجردًا من حق السفر وتعتريه صعوبات التأشيرة لكل مكان يبغي الذهاب إليه خاصة إذا كان من حاملي بطاقة الحماية المؤقتة، وكذا فإن الهجرة تهريبًا إلى دول معينة مثل الدول الأوروبية بات مستحيلًا إلا بدفع مبالغ كبيرة قد تصل إلى 10000 يورو، وهو ما يشكل ثروة للنسبة الأكبر من الشعب السوري اليوم.
أسباب الخروج من تركيا
رغم الصعوبات التي تواجه من يريد الخروج من تركيا إلى بلدان أخرى، فإن الوضع الذي يزداد سوءًا على السوريين يدفعهم إلى المحاولة ما أمكن لإيجاد المكان الذي يضمن لهم مدخولًا جيدًا يستطيعون من خلاله إكمال حياتهم، ومما سبق من مداخلات للشباب السوريين، نستطيع تحديد الأسباب التي تدفع نسبة من السوريين الموجودين في تركيا للخروج منها وتتمثل بـ:
أسباب اقتصادية: تعتبر الحالة الاقتصادية سيئة نسبيًا لأكثرية السوريين في تركيا، وقد ازدادت هذه الحالة في العامين الأخيرين، خصوصًا مع ازدياد التضخم وتدهور العملة التركية أمام الدولار، ويرتبط بهذا الأمر أيضًا الحالة القانونية للعامل السوري في مجالات العمل المختلفة في تركيا، يذكر أن الإحصاءات الحكومية التركية تذكر أن العمالة السورية تشكل 2.9% من إجمالي حجم العمالة في سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي.
وتذكر دراسة صدرت مؤخرًا عن “مركز الحوار السوري” أن “العمالة السورية تعرضت لحالة من الاستغلال في مجال العمل، سواء من أرباب العمل السوريين أم الأتراك”، وتشير نتائج الدراسة إلى أن “92% من العمال السوريين يعملون أكثر من 8 ساعات عمل يوميًا (45 ساعة عمل أسبوعيًا)، بينهم 59% يعملون لما يزيد على 65 ساعة أسبوعيًا، دون الحصول على تعويض مالي يتناسب مع العمل الإضافي أو الحصول على حد مقبول من الإجازات أو الحقوق القانونية”.
أسباب قانونية: بات السوريون هذه الأيام في تركيا يعانون من عدم الاستقرار بخصوص الأمور القانونية في تركيا من بطاقات حماية مؤقتة وإقامات وأذونات عمل، فقد شهدت المرحلة الماضية تشديدًا في إجراءات الإقامة، إذ جمدت دائرة الهجرة التركية الكثير من بطاقات الحماية المؤقتة لأسباب أرجعتها إلى عدم تحديث عناوين السكن، ولا يستطيع السوري أن يثبت نفوسه أو عنوان منزله بالعديد من المناطق، حيث أعلنت وزارة الداخلية التركية منع الأجانب الحاملين لكل أنواع الإقامات، والسوريين المسجلين في البلاد تحت الحماية المؤقتة، من تقييد نفوسهم في 16 ولاية تركية و800 حي في 52 ولاية.
إضافة إلى ما سبق، فإن عددًا من السوريين خرجوا من تركيا بعد أن أزيلت ملفاتهم من قائمة منح الجنسية التركية الاستثنائية، حيث كانوا ينتظرون أن يصبحوا مواطنين أتراك لكن ملفاتهم أزيلت دون معرفة الأسباب والدوافع، ما جعلهم يبحثون عن وجهة أخرى لإكمال حياتهم في بلاد تعقيداتها القانونية أقل، وكنا في “نون بوست” قد أفردنا تقريرًا خاصًا عن هذا الموضوع وشرحنا من خلاله كيف تؤرق الجنسية الاستثنائية التركية السوريين هذه الأيام.
تصاعد الخطاب العنصري: لا شك أن التعميم في مثل هذه الأمور غير منطقي، مثل أن نقول إن أغلب الجمهور التركي يتحدث بعنصرية أو إن كل الأحزاب تطالب بطرد السوريين، بالأخص أنه غير صحيح بالمرة، لكن علو أصوات الرافضين للوجود السوري في تركيا في وسائل الإعلام وخطاب الكراهية الذي يبثوه على وسائل التواصل الاجتماعي يمثل ضغطًا كبيرًا على السوريين، ما يخيف الكثيرين من إمكانية حصول هجمات عليهم يغذيها خطاب العنصرية والكراهية الصادر عن بعض السياسيين والإعلاميين وغيرهم.
وخلال الفترة الأخيرة، تصاعد الخطاب العنصري، ويلعب من يصدرون هذه العنصرية على وتر أن السوريين أخذوا مكان الأتراك بالعمل وأن التركيبة الديمغرافية التركية باتت تتغير بفعل الوجود السوري، وهذا الأمر تم عرضه بفيلم قصير تحت عنوان “الغزو الصامت“، صحيح أن السلطات التركية تروج أنها تحارب مثل هذه الأفكار ورفعت قضية على القائمين على العمل، إلا أن خطاب العنصرية بات قويًا ويأخذ مكانه لدى شريحة لا بأس بها وبات يساهم حتمًا في زيادة غليان الشارع التركي وتحريضه ضد السوريين.
يضاف إلى ما سبق أن كثيرًا من السوريين لا يريدون العودة إلى سوريا ضمن أي مشروع كان خاصة أن سوريا لم تذق طعم الاستقرار والأمان منذ 10 سنوات في كل مناطقها، وهو ما يدفعهم للخروج من تركيا خشية أن يرحلوا إلى سوريا ضمن ما بات يعرف بمشروع “العودة الطوعية” الذي أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويأمل من خلاله إعادة مليون سوري إلى المناطق التي توصف بأنها “آمنة”.
وجهــــات
مصر
تعدّ جمهورية مصر العربية من أفضل الوجهات للسوريين في تركيا، بسبب ترحيب الشعب المصري بالسوريين رغم طول مدة اللجوء التي تخطت 10 سنوات، وتوافر فرص العمل لبعض المهن، إضافة إلى الثقافة المتقاربة بين الشعبين خصوصًا اللغة، وتتباين أعداد السوريين في مصر بين 242 ألف شخص بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وقرابة نصف مليون وفق ما تقوله السلطات المصرية، لكن لا ينفي هذا وجود بعض التعقيدات القانونية بالنسبة للسوريين في مصر في مجال استخراج الإقامات وغيرها.
يمكن للسوريين في مصر الحصول على بطاقة إقامة تُسمى “إقامة الأمم المتحدة” أو استصدار إقامة عمل بعد الحصول على عقد عمل رسمي في إحدى الشركات أو المنشآت التجارية، إضافة لإقامة “العلاج” أو إقامة “مؤقتة” للأطفال المسجلين في المدارس المصرية وعائلاتهم.
عملت بعض مكاتب السفريات مؤخرًا، على استصدار موافقات لدخول الأراضي المصرية دون وسيط أو قريب داخل مصر، بتكلفة تتراوح بين 1500 إلى 1800 دولار أمريكي شاملة الفيزا وتذكرة السفر، وتصدر خلال مدة تصل إلى 20 يومًا.
أوروبا
ما زالت أوروبا الوجهة المفضلة لعدد كبير من السوريين الموجودين في تركيا، لكن الإجراءات المشددة التي اتخذتها دول الاتحاد الأوروبي على الحدود التركية تجعل عملية ذهاب السوريين إلى هناك صعبة وخطيرة، لكن ما زال السوريون يجدون الطرق ويصلون إلى دول الاتحاد بشتى السبل وإن كان بعدد أقل بكثير من سنوات الهجرة الكبيرة في الأعوام ما بين 2014 و2016.
ما يميز بعض الدول الأوروبية عن تركيا، منح اللاجئين إعانة مالية شهرية ريثما يتم دمجهم في المجتمعات وإشراكهم في أسواق العمل المختلفة، وهذا ضمن قانون اللجوء المعتمد في كثير من الدول الأوروبية، وهو قانون لا يوجد له نظير في تركيا، إذ كل اللاجئين السوريين في الأخيرة يقعون تحت قانون الحماية المؤقتة وليس قانون اللاجئين.
علاوة على ذلك تعتبر الأمور القانونية في أوروبا سلسة إذا ما قارناها بتركيا، حيث يحصل اللاجئ السوري هناك في مرحلة من المراحل على جواز سفر مؤقت يستطيع السفر به إلى دول كثيرة، أما بالنسبة للاجئ السوري في تركيا فهو مقيّد ولا يستطيع الخروج من تركيا والعودة إليها لأنه لا يملك إلا بطاقة الحماية المؤقتة، حتى إنه مقيّد بسفره بين الولايات التركية ويحتاج إلى إذن للسفر من إدارة الهجرة حال أراد ذلك.
الإمارات
تعتبر الإمارات وجهة لبعض السوريين في تركيا، خاصة أن منح الفيزا الإماراتية للسوريين ميسرة نسبيًا، لكن السفر للإمارات مقتصر على فئات مثل رجال الأعمال الذين يستطيعون العمل فور وصولهم أو أنهم يستطيعون عبر علاقاتهم افتتاح أعمال، كما يستطيع حملة الشهادات والخبرات الذين يحصلون على عقود عمل في الإمارات السفر إليها واستخراج إقامة عمل والاستقرار هناك.
لكن لا يستطيع الإنسان السوري الذي لا يملك عملًا أو لم يؤمن سفره إلى هناك أن يعيش دون عمل لمدة طويلة، حيث ترتفع تكاليف المعيشة وتكاليف إصدار بطاقة الإقامة، من أجل ذلك لا تعدّ الإمارات وجهة مناسبة إلا للقليل من فئات الشعب السوري.
وقد أعطت الإمارات تسهيلات للسوريين للدخول إليها عبر منح التأشيرات وذلك مع انطلاق فعاليات معرض “أكسبو دبي”، أيضًا يمكن القول إن إعادة تطبيع العلاقات بين الإمارات والنظام السوري دفعت حكومة أبو ظبي إلى السماح باستقبال السوريين، الأمر الذي أدى إلى أن تكون هذه البلد وجهة جديدة لأصحاب الأعمال والخبرات والشهادات.
باتت كل الخيارات متاحة أمام اللاجئ السوري في تركيا، والدول التي كان يرفضها سابقًا لم تعد كذلك، فعلى سبيل المثال لم تكن ليبيا خيارًا مناسبًا فيما قبل بسبب تعامل بعض الميليشيات بطريقة سيئة وإجرامية مع السوريين الذين اتخذوا من ليبيا طريقًا للعبور إلى أوروبا، لكن اليوم باتت وجهة لفئة من الباحثين عن العمل والتجار بعد تحسن الأوضاع هناك وهدوء المعارك العسكرية والاتفاقيات الحاصلة بين الفرقاء الليبيين في المدن الكبرى.
بالمحصلة، يكافح السوريون في تركيا اليوم من أجل الحصول على حياة كريمة بعيدًا عن ضجيج خطابات التحريض والكراهية التي يصدرها البعض، لكن يبدو أن القدرة على التحمل باتت تنفد يومًا بعد يوم وأصبح الخروج من تركيا في طريق هجرة جديد يشغل بال الكثيرين لتأمين مستقبلهم والعثور على بلاد توفر لهم الاستقرار المادي والقانوني والاجتماعي أكثر.