هبات الفلسطينيين من يوم الأرض إلى سيف القدس

1049001557_0_118_3072_2048_1920x0_80_0_0_e8bfa47a59172fc28a77f0ef4b622783

74 عامًا هي عدد الأعوام التي مرت على نكبة الشعب الفلسطيني وسرقة أرضه من الكيان الإسرائيلي تحت ادعاء إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، إلا أن هذه الأعوام لم تغير حقيقة تمسك الفلسطينيين بأرضهم.

وعند الحديث عن الفلسطينيين لا يجب أن نغفل أولئك الذين بقوا على أراضيهم صامدين في الـ48 رغم كل المحاولات الإسرائيلية لترحيلهم واجتثاثهم من أرضهم عبر الترغيب والترهيب أو محاولة إذابتهم ضمن ما يعرف بـ”الأسرلة”.

وشكل الفلسطينيون في الداخل المحتل عام 1948 صمام أمان للقضية الوطنية في أكثر من مرة وعلى مدار عقود طويلة، كان الاحتلال يظن أن باستطاعته احتوائهم أو فصلهم وسلخهم عن أصلهم الفلسطيني وأنهم جزء من القضية الفلسطينية.

ومع التجربة خلص الاحتلال مؤخرًا إلى أن فلسطينيي 48 وانتفاضتهم أو هبتهم من شأنها أن تلحق الضرر الأكبر في منظومته الأمنية نتيجة للتلاحم الديموغرافي وصعوبة السيطرة على الأوضاع كما حصل في سيف القدس عام 2021.

وشكلت هذه التجربة صدمة كبيرة أذهلت المستويات السياسية والعسكرية والأمنية وجعلت الاحتلال مشلولًا أمام ما أُطلق عليه “هبة الكرامة” كونها تصادفت مع معركة سيف القدس ونتيجة للعجز عن ضبط المشهد أو إيقاف المواجهات التي شلت مناطق شمال فلسطين.

من يوم الأرض إلى سيف القدس.. ما الذي تغير؟!

يعتبر حدث يوم الأرض حدثًا مفصليًا بالنسبة لفلسطينيي 48 في التأكيد على تمسكهم بأرضهم، حيث يحييه الفلسطينيون في 30 مارس/آذار من كل سنة، وتعود أحداثه لآذار 1976 بعد أن صادرت السلطات الاحتلالية آلاف الدونمات من الأراضي ذات الملكية الخاصة أو المشاع في نطاق حدود مناطق ذات أغلبية سكانية فلسطينية.

واصل فلسطينيو 48 نضالهم ضد الاحتلال، وقدموا 13 شهيدًا في “هبة أكتوبر”

وقد عم إضراب عام ومسيرات من الجليل إلى النقب واندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط ستة شهداء فلسطينيين وأُصيب واعتقل المئات، فيما يعد هذا اليوم حدثًا محوريًا في الصراع على الأرض وفي علاقة المواطنين العرب بالجسم السياسي الإسرائيلي كونها المرة الأولى التي يُنظم فيها العرب في فلسطين منذ عام 1948 احتجاجات منظمة ردًا على السياسات الصهيونية بصفة جماعية وطنية فلسطينية.

تبع ذلك “الانتفاضة الأولى” التي اندلعت في 9 ديسمبر/كانون الأول 1987، حين شهدت مدن وبلدات الداخل مواجهات واحتجاجات وإضرابات تجارية وشاملة، تضامنًا مع أبناء شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، واجهتها شرطة الاحتلال بالقمع والاعتقالات.

واختار فلسطينيو 48 مسارًا سلميًا لدعم الانتفاضة وفضح ممارسات الاحتلال، كما سيّروا شاحنات إغاثية إلى مناطق الضفة والقدس وغزة، وقدموا الدعم المالي لعائلات الشهداء والأسرى، ولم يتوقف دورهم النضالي عند ذلك، بل كانوا في طليعة المدافعين عن المسجد الأقصى المبارك والمرابطين فيه، عبر تسيير الحافلات من مدن وقرى الداخل إلى مدينة القدس، ومن المواجهين لمخططاته التهويدية في القدس المحتلة.

ومع هبة النفق في 25 سبتمبر/أيلول 1996، شارك فلسطينيو 48 في الهبة التي تفجرت بعد الإعلان عن افتتاح نفق إسرائيلي أسفل الجدار الغربي للمسجد الأقصى بطول 330 مترًا، فانصهرت جميع فئات الشعب الفلسطيني في بوتقة المواجهة والتصدي لقوات الاحتلال.

وامتدت المواجهات من شمال فلسطين إلى الضفة وغزة، واستمرت لمدة ستة أشهر، واجهتها قوات الاحتلال بإطلاق الرصاص المطاطي والحي بكثافة، كما استخدمت الطائرات المروحية والدبابات، ما أدى لاستشهاد نحو 100 فلسطيني وإصابة 1600 آخرين.

وواصل فلسطينيو 48 نضالهم ضد الاحتلال، وقدموا 13 شهيدًا في “هبة أكتوبر” التي اندلعت مطلع أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، احتجاجًا على اقتحام رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أرئيل شارون المسجد الأقصى رفقة قوات كبيرة من جيش الاحتلال.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ كان لهم دور مهم في معركة “البوابات الإلكترونية” التي وضعتها شرطة الاحتلال على مداخل المسجد الأقصى في 14 يوليو/تموز 2017، بعد تنفيذ ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم في الداخل عملية إطلاق نار أدت إلى مقتل شرطيين إسرائيليين وإصابة آخر، وبعد اعتصام وحراك شعبي شارك به المقدسيون وأهالي الداخل لمدة 14 يومًا عند أسوار البلدة القديمة وأبواب الأقصى، اضطر الاحتلال للتراجع عن القرار وأزال البوابات الإلكترونية.

وفي مطلع مايو/أيار 2021، شهدت مدن وبلدات الداخل مظاهرات احتجاجية غاضبة ضد العدوان الإسرائيلي على حي الشيخ جراح بالقدس والمسجد الأقصى وقطاع غزة، التي عرفت بـ”هبة الكرامة”، حين اندلعت مواجهات عنيفة مع شرطة الاحتلال بسبب إرهاب المستوطنين، ما أسفر عن استشهاد شابين من أم الفحم واللد، وإصابة المئات، واعتقال نحو 2800 فلسطيني من الداخل، وفرض الإقامة الجبرية على العشرات في معركة بقيت دون حسم.

تحولات ديمغرافية.. محاولات التضييق والدمج

أخذ موضوع تعامل “إسرائيل” مع فلسطينيي 48 كـ”خطر ديموغرافي زاحف” مدًّا ملفتًا إثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت قبل عقدين، ويمكن الاستدلال على ذلك، مثلًا، من وثائق “مؤتمر هرتسليا حول ميزان المنعة والأمن القومي في إسرائيل” السنوي الذي تم تأسيسه عام 2000 بمبادرة من “معهد السياسات والاستراتيجيا” في “المركز المتعدد المجالات” في مدينة هرتسليا بالقرب من تل أبيب، بعد فترة وجيزة من انهيار عملية التسوية السياسية.

وأعارت الوثيقة وزنًا كبيرًا لما أسمته “التهديد الديموغرافي على إسرائيل اليهودية”، من جانب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك في الأراضي المحتلة عام 1948، إذ كانت هناك توصيات على غرار سياسة تشجيع أسر مؤلفة من 3- 4 أولاد “من خلال إبطال مخصصات التحويل (دولانية) إلى العائلات كثيرة الأولاد”، وتوزيع السكان اليهود “في مناطق إشكالية من ناحية ديموغرافية، وبالأخص في الجليل ومرج ابن عامر والنقب، وذلك من أجل الحؤول دون نشوء تواصل إقليمي لأكثرية عربية من شأنه أن يقطع أوصال إسرائيل”.

المشكلة الديموغرافية لن تكون قائمة هناك عندما ينتقل هؤلاء السكان إلى السيادة الفلسطينية

ولا بُدّ من التنويه بأن رئيس الحكومة الحاليّ بنيامين نتنياهو خاطب هذا المؤتمر في دورته الثالثة عام 2003، عندما كان وزيرًا للمال في حكومة أريئيل شارون، وتطرق إلى الموضوع الديموغرافي، مؤكدًا أن المشكلة الديموغرافية غير متركزة في عرب فلسطين وإنما فيمن أسماهم “عرب إسرائيل”. 

ومما قاله: “لا توجد لدينا أي نية للسيطرة على السكان الفلسطينيين (في الأراضي المحتلة منذ 1967)، لذا فإن المشكلة الديموغرافية لن تكون قائمة هناك عندما ينتقل هؤلاء السكان إلى السيادة الفلسطينية وقد حددنا في وثيقة الاستقلال أننا نقيم دولة يهودية وديمقراطية”.

ورأى نتنياهو حينها أنه إذا اندمج السكان العرب “فلسطينيي 48” ووصل عددهم إلى 35% أو 40% من مجمل عدد سكان الدولة، عندها ستصبح الدولة اليهودية ملغية وتتحول إلى دولة ثنائية القومية.

وفي سعي الإستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية لـ”ضمان أغلبية يهودية”، يتم التركيز على الجغرافيا، لا سيما على منطقتي الجليل والنقب، وأنشئت لأجلهما وزارة خاصة يتولاها وزير الداخلية، اسمها “وزارة تطوير الأطراف، النقب والجليل”.

تشدّد هذه الوزارة على أن الوجود اليهودي في الجليل والنقب إستراتيجي، غير أنه مُهدّد بـ”خطر ديموغرافي ملموس” يتمثل بنزعة السكان اليهود إلى تفضيل السكن في “متروبولين غوش دان” والهجرة التدريجية من المنطقتين، وفيما تشكل منطقة “متروبولين غوش دان” الممتدة من مدينة نتانيا في الشمال وحتى مدينة رحوفوت في الجنوب، نحو 7% فقط من مساحة فلسطين المحتلة، ويسكن فيها اليوم نحو 40.6% من مجموع السكان.

وتشكل منطقة النقب الممتدة من غور بئر السبع وحتى مدينة إيلات، نحو 60% من مساحة فلسطين المحتلة ويسكن فيها نحو 8% فقط من مجموع السكان في الاحتلال، بينما تشكل منطقة الجليل الممتدة من الحدود المحتلة – اللبنانية حتى مرج بن عامر، نحو 16% من مساحة الأراضي المحتلة ويسكن فيها نحو 15% فقط.

وفي الجليل أخذت نسبة السكان اليهود في الانخفاض الحاد والمتواصل ابتداءً من عام 1991، حتى وصلت إلى 43.1% فقط من مجموع السكان في هذه المنطقة، وهي مرشحة للانخفاض حيال معدلات التكاثر الطبيعي السنوية بين السكان اليهود (1.4%)، مقارنة بمعدلاته بين السكان العرب “الفلسطينيين” (1.7%)، وحيال استمرار هجرة السكان اليهود من الجليل.

وفي النقب، ثمة سيرورة مماثلة أيضًا، إذ أخذت نسبة السكان اليهود في الانخفاض الحاد ابتداءً من عام 1995 (نهاية موجات الهجرة اليهودية من شمال إفريقيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق)، حتى وصلت قبل عامين إلى 59.7% من مجموع السكان في هذه المنطقة.

ومن المرجح استمرار الانخفاض بفعل معدلات التكاثر الطبيعي السنوية بين السكان اليهود في المنطقة (1.6%)، مقابل معدلاته بين السكان العرب هناك (3.7%).

واقع اقتصادي صعب.. الفقر يرتفع

لا ينعزل الواقع الاقتصادي لفلسطينيي 48 عن واقعهم السياسي، إذ تشير البيانات إلى ارتفاع معدل الفقر والبطالة مقارنة بالواقع التعليمي لهم خصوصًا في الأجيال الشابة والناشئة خلال العقود الثلاث الأخيرة وفقًا للبيانات.

تعكس هذه البيانات واقع العنصرية التي يتعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948، في الوقت الذي يزعم فيه الاحتلال أن هؤلاء “عرب إسرائيل” ويحصلون على ذات الحقوق التي يحصل عليها مستوطنوه

إذ يتم تصنيف 67% من العائلات الفلسطينية ضمن العناقيد المنخفضة، بينما 7% فقط ضمن العناقيد العليا، لتصنيف الاحتلال الاقتصادي، وهو ما يعكس واقع الفقر الذي تعيش فيه الأسر الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948.

أما عن متوسط الرواتب للأسر في الداخل المحتل فقد ارتفع من 1540 دولارًا أمريكيًا سنة 2007 إلى 2390 دولارًا أمريكيًا سنة 2018، ورغم هذه الزيادة فإن متوسط دخل الأسر الفلسطينية يشكل نحو ثلثي رواتب الأسر اليهودية الذي يعادل عام 2018، 3956 دولارًا أمريكيًا.

وبحسب بيانات التأمين الوطنية في الاحتلال فإن ما يقارب 60% من العائلات الفلسطينية تعيش إما دون خط الفقر وإما قريبة منه، في حين (44.2% دون خط الفقر أو قريبة منه و14% قريبة من خط الفقر) بصورةٍ كبيرة، في الوقت الذي تعيش فيه نحو 20% من العائلات اليهودية تحت خط الفقر أو قريبة منه، (13.4% تعيش تحت خط الفقر و6.9% قريبة من خط الفقر).

وتعكس هذه البيانات واقع العنصرية التي يتعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948، في الوقت الذي يزعم فيه الاحتلال أن هؤلاء “عرب إسرائيل” ويحصلون على ذات الحقوق التي يحصل عليها مستوطنوه.

الإغراق بالجريمة.. السلاح والقتل برعاية الشاباك

لم يكتف الاحتلال بالحرب الديموغرافية والاقتصادية في محاربته للفلسطينيين بأراضي 48، بل عمل على إغراقها بالسلاح من خلال “الشاباك” إلى جانب عدم ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم أو الوصول إليهم ومحاسبتهم ما رفع من نسب القتل.

90% من هذه الجرائم لم يتم فك لغزها، رغم زعم الاحتلال المتكرر أنه يمتلك منظومة أمنية واستخبارية قادرة على الوصول لأي تفاصيل 

وبحسب آخر البيانات، فقد لقي 27 فلسطينيًا مصرعهم في جرائم وحوادث قتل منذ بداية 2022، دون أن يستدل على أي من الجناة أو مرتكبي هذه الجرائم، في الوقت الذي قتل 127 فلسطينيًا خلال عام 2021 ما يؤشر للواقع.

وأصبحت حوادث إطلاق النار – التي غالبًا ما تكون مرتبطة بالجريمة والعصابات – قضية محورية بالنسبة للأقلية التي تشكل 21% من السكان في الداخل المحتل، وقد خرجت مظاهرات عديدة منددة بإهمال شرطة الاحتلال.

ويتهم كثيرون الشرطة الإسرائيلية بالتقاعس في حل جرائم القتل أو قمع الجريمة المنظمة في مدنهم وبلداتهم، لكنها تقول إنها تحقق في جميع حوادث إطلاق النار وتواصل عملها لجمع الأسلحة التي تقدر بنحو 500 ألف قطعة سلاح غير قانونية، وفقًا لبيانات صادرة عن الشرطة الاحتلال.

وبحسب البيانات فإن 90% من هذه الجرائم لم يتم فك لغزها، رغم زعم الاحتلال المتكرر أنه يمتلك منظومة أمنية واستخبارية قادرة على الوصول لأي تفاصيل 

ومؤخرًا وتحت ذريعة مكافحة العنف والجريمة، صعدت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ملاحقة فلسطينيي 48، ونفذت خلال عام 2021 مئات المداهمات والاقتحامات لمنازل ومحال تجارية بالبلدات العربية، وصادرت ممتلكات بقيمة 300 مليون دولار.