تتسارع التطورات في شمال شرق سوريا، فالأطراف كافة تتسابق من أجل ما يوافق مصالحها هناك، فتجد تركيا تهدد وتتوعد قوات الوحدات الكردية من جديد وتلمح إلى شن عملية كبيرة جديدة كسابقاتها في درع الفرات وغصن الزيتون، وكذا تجد واشنطن تزيد من دعمها للقوات الكردية عبر السماح ببعض الاستثمارات الأجنبية في المنطقة وذلك عبر إعفاء بعض القطاعات في بعض المناطق من العقوبات المفروضة على نظام الأسد، في خطوة أدانتها تركيا بشكل رئيسي.
منذ أيام سمحت الولايات المتحدة ببعض الاستثمارات الأجنبية في مناطق شمال شرق سوريا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية التي تدعى “قسد”، دون أن تخضع لقانون عقوبات قيصر الذي أقرته الولايات المتحدة على سوريا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب ضد نظام بشار الأسد، وتقول واشنطن إنها تهدف من خلال هذه الخطوة إلى “مساعدة منطقة كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في السابق”، وتعمل واشنطن دائمًا على دعم حلفائها من الوحدات الكردية في هذه المناطق، وتعد “قسد” الحليف الأبرز لواشنطن في سوريا، كما تعمل القوات الأمريكية الموجودة في سوريا بمناطق السيطرة الكردية.
مناطق وقطاعات الاستثناء
كانت مساعد وزير الخارجية الأمريكي فيكتوريا نولاند، قد صرحت أن بلاده “ستصدر رخصة عامة تحرر الشركات من قيود العقوبات الأمريكية”، وأضافت نولاند “الولايات المتحدة تعتزم خلال الأيام القليلة المقبلة إصدار رخصة عامة لتسهيل نشاط الاستثمار الاقتصادي الخاص في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام والمحررة من تنظيم الدولة داعش في سوريا”، وفقًا لما نقلته وكالة رويترز.
وقد عقّب مسؤولون أمريكيون كبار على أن “استثناء قطاعات ومناطق في شمال شرقي وشمال غربي سوريا من عقوبات قانون قيصر هو جزء من إستراتيجية إدارة بايدن لضمان هزيمة تنظيم الدولة من خلال تعزيز الاستقرار الاقتصادي”، مشيرين إلى أن الرئيس جو بايدن يرى أن “استثمار القطاع الخاص في هذه المناطق سيساعد في تقليل احتمال عودة تنظيم الدولة، من خلال التصدي للظروف اليائسة التي تسمح بتجنيد الجماعات الإرهابية وشبكة دعمها”.
وفي هذا السياق أكدت واشنطن أنه “ليس لديها نية لرفع العقوبات عن النظام السوري حتى يتم إحراز تقدم لا رجوع فيه نحو حل سياسي في سوريا”، مشددين على أن بلادهم تريد محاسبة الأسد وحكومته بشأن ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا”، كما لفت أحد المسؤولين إلى أن إدارة بايدن “فرضت مرتين عقوبات جديدة على نظام الأسد، وبشكل خاص بسبب انتهاكات حقوق الإنسان والفظائع في سوريا، وتتطلع باستمرار إلى فرض عقوبات إضافية”.
وسبق أن أفادت الخارجية الأمريكية بأنها “لن تتهاون في فرض العقوبات على نظام بشار الأسد ومناطق سيطرته في سوريا، ولا توجد إعفاءات بخصوص ذلك”، وأكدت على “ثبات الولايات المتحدة على موقفها الرافض لتخفيف العقوبات على نظام الأسد، والسير في العملية السياسية وفق القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”.
التصريحات الأمريكية بمنح الاستثناءات أتت خلال اجتماع “التحالف الدولي لمكافحة داعش” في مدينة مراكش المغربية، وبحسب واشنطن فإن الترخيص سيشمل قطاعات الزراعة وأعمال إعادة الإعمار التي تشمل البناء والاتصالات وإدارة المياه، كما تشمل الإعفاءات قطاع النقل والتصنيع والتعليم والصحة والتجارة لكنها لن تشمل قطاع النفط”.
وبحسب واشنطن فإنها أنفقت العام الماضي 45 مليون دولار في تلك المناطق، وأبلغت أعضاء التحالف في اجتماع مراكش بأنها “تريد جمع 350 مليون دولار لأنشطة تحقيق الاستقرار في شمال شرقي سوريا هذا العام”.
أما عن المناطق التي تشملها الإعفاءات والاستثناء الأمريكي، فتضم مناطق في محافظة حلب وهي منطقة منبج باستثناء ناحيتي الخفسة ومسكنة، ومنطقة الباب باستثناء نواحي تادف ودير حافر ورسم حرمل الإمام وكويرس شرقي وعين العرب، ومنطقة أعزاز باستثناء نواحي تل رفعت ونبل ومنطقة جرابلس، وفي محافظة الرقة، تسري الرخصة الأمريكية في مركز المدينة باستثناء نواحي معدان وتل أبيض، وفي الطبقة باستثناء ناحية المنصورة.
وفي محافظة دير الزور، تضم الاستثناءات الأمريكية مركز المدينة باستثناء مناطق غربي الفرات ونواحي التبني ومنطقتي موحسن وخشام، ومنطقة الميادين باستثناء مناطق غربي الفرات وناحية العشارة، ومنطقة البوكمال باستثناء مناطق غربي الفرات وناحية الجلاء، كما تضم محافظة الحسكة باستثناء حي المالكية ومدينة القامشلي وقضاء رأس العين.
وتأتي الخطة الأمريكية بالتزامن مع ما توصل إليه المانحون الدوليون في مؤتمر بروكسل من أجل دعم سوريا، فقد دعا المشاركون في المؤتمر إلى مواصلة تقديم الدعم للاجئين السوريين والبلدان المضيفة لهم، كما تعهد المؤتمر بتقديم 6.7 مليار دولار بحلول عام 2023 لسوريا، أي أقل بكثير من مبلغ 10.5 مليار دولار التي تتطلع الأمم المتحدة للحصول عليه.
وفي هذا السياق يقول مركز “جسور” للدراسات: “رغم أن العمل في هذه القطاعات لم يكن ممنوعًا في وقت سابق، على مستوى الأفراد والمؤسسات، فإنّ الجديد هو ضمان القدرة على تحويل الأموال واستيراد مستلزمات الإنتاج اللازمة لتنفيذ أعمالهم، حتى لو كانت تقنيات ومعدّات عالية التقنية، وأي معدات أو معاملات ضرورية لتنفيذ الأعمال في تلك القطاعات، التي تم تقييدها سابقًا بموجب قوانين العقوبات الأمريكية”، وأشار المركز إلى أنه “بموجب هذه اللائحة تستطيع الشركات الأمريكية والمؤسسات المرتبطة بها الدخول للعمل في مناطق شرق وشمال سوريا ضمن القطاعات المحددة”.
الرد التركي
صرحت واشنطن أن أنقرة لن تعارض الخطة الأمريكية بخصوص استثناء هذه المناطق من العقوبات، عن الموقف التركي، حيث قالت: “أنقرة تعتبر قوات سوريا الديمقراطية جماعة إرهابية، لكنها لن تعارض الترخيص”، وأكدت أن السماح بالاستثمار سيغطي الاستثمار في المناطق التي تسيطر عليها “قسد” والمناطق التي يسيطر عليها “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا.
لكن تركيا التي لم تعط موقفًا واضحًا في البداية، أكدت بعد أيام من القرار الأمريكي رفضها للقرار الأمريكي ولحمت باقتراب عملية عسكرية في مناطق حلفاء أمريكا من الأكراد، فقد أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “رفض بلاده للقرار الأمريكي الأخير بإعفاء مناطق شمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية من العقوبات على سوريا”، وقال أردوغان: “لا يمكن أن نقبل قرار واشنطن الخاطئ بشأن إعفاء مناطق سيطرة التنظيم من العقوبات على سوريا”.
وأشار الرئيس التركي إلى أن “الإدارات الأمريكية قدمت في السنوات الأخيرة كل أنواع المساعدات منها أسلحة وذخائر ومعدات لقسد رغم تحذيرات تركيا”، وفي سياق هذه التصريحات كشف أردوغان أن جيش بلاده سيعلن عن عملية عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني شمال شرقي سوريا على غرار عملية “المخلب” الجارية الآن في شمال العراق، مؤكدًا أن “أعداد الإرهابيين المحيدين ستزيد خلال الفترة المقبلة مع تحسن ظروف الطقس”، موجهاً كلامه للبلدان التي تتظاهر بالصداقة مع تركيا: “ترتكبون أخطاء، اتخذوا خطوات صحيحة”.
بدوره اعتبر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أن الاستثناءات الأمريكية بخصوص العقوبات على سوريا “محاولة لشرعنة حزب العمال الكردستاني وقسد”، ووصف أوغلو الإعفاءات الأمريكية من عقوبات قانون قيصر بخصوص بعض المناطق الخارجة عن سيطرة النظام “بالانتقائية وتنطوي على تمييز”.
وأشار أوغلو إلى أن “إدلب هي المنطقة الأكثر حاجة لدعم المجتمع الدولي فيما يتعلق بالمرونة في العقوبات، كونها تضم ملايين النازحين، وأن تركيا تواصل بناء منازل الطوب في المنطقة لإيواء النازحين”، مؤكدًا أن بلاده “تعمل على بناء 100 ألف منزل في المنطقة”.
أيام صعبة على المنطقة
وبخصوص الرد التركي على الخطوة الأمريكية يقول الأكاديمي والسياسي التركي سمير صالحة: “حجم الغضب التركي جاء في اليوم الثالث من التريث وانتظار توضيحات من البيت الأبيض لم تحصل أنقرة عليها، فقد سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعلان تحفظ بلاده على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي وهو الهدف الأمريكي الأوروبي الجديد لقلب توازنات اللعبة في أوكرانيا وشرق أوروبا وحوض البحر الأسود”.
وأضاف صالحة “أنقرة لا تقدم على خطوة من هذا النوع ووسط هذه الظروف لإرضاء موسكو التي ترفض توسع الأطلسي شرقًا، رغم أنَّ الموقف التركي هذا قد يتحول إلى الخشبة التي سيفرح لها الكرملين للخروج من مستنقع واشنطن الذي حفرته في الحديقة الخلفية لروسيا، وأنقرة تقول أيضًا إن السبب في رفع البطاقة الحمراء هو الدعم الذي تقدمه الدول الإسكندنافية لمجموعات قسد وحزب العمال واستقبال قياداتها وكوادرها بشكل علني، فكيف تثق بدول تنسق مع مجموعات تعتبرها تركيا إرهابية ولماذا تفتح الطريق أمامها في تكتل حلف شمال الأطلسي؟”.
ويشير إلى أن “ردة الفعل التركية هي في إسكندنافيا وستكون أكبر في الاجتماع التركي الأمريكي المرتقب بعد أسبوع وربما ستفجر الوضع في قمة الأطلسي المنتظرة قريبًا، لكن صداها وصل إلى شرق الفرات وموسكو ودمشق وطهران أيضًا”.
موقف النظام
من جهتها أدانت وزارة الخارجية التابعة للنظام السوري استثناء واشنطن مناطق في شمال شرقي وغربي سوريا من عقوبات قانون قيصر المفروضة عليها، وقال بيان الوزارة: “لم تفاجأ الجمهورية العربية السورية بالبيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية حول منح ترخيص بالقيام بأنشطة اقتصادية في شمال شرقي وغربي سوريا، لأن الإدارات المتعاقبة كانت خلف الحرب (الإرهابية) التي تعرضت لها منذ عشر سنوات وحتى الآن”، واتهم النظام السوري واشنطن بأنها “تقدم مساعدات للتنظيمات الإرهابية المسلحة في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، الأمر الذي أدى إلى تدمير إمكانات الاقتصاد السوري ونهب ثرواته من قطن ونفط وقمح وآثار”.
وفي هذا الخصوص يشير التقرير الذي أصدره مركز “جسور” إلى أن “مع أن اللائحة المُعلَن عنها تستبعد مناطق النظام السوري والأفراد المُعاقَبين والمحظورين وكذلك الأنشطة النفطية من أي استثناء من العقوبات، إلا أن الشكوك ما زالت قائمة حول إمكانية استفادة النظام من هذه الاستثناءات من خلال التشابكات الكبيرة بين مناطقه والمناطق الخارجة عن سيطرته، خاصة في مجال العملات الأجنبية، والمواد الأولية”.
الأهداف المباشرة
أما عن الأهداف من القرار الأمريكي والتوقيت الذي صدر فيه، يرى تقرير “جسور” أن “القرار يأتي في سياق التعافي المبكِّر، فالدول الغربية كانت قد توافقت على ضرورة الدفع بهذه العجلة من خلال مشاريع متوسطة الأمد في سورية بعيدًا عن إعادة الإعمار الذي ترفضه ما لم يكن هناك حل سياسي.
وبالأصل، تهدف عملية التعافي المبكر إلى دعم قدرة المجتمعات المحلية على الاعتماد على نفسها وتحريك عجلة الإنتاج بما يضمن تقليل الاعتماد على الأعمال الإغاثية والمعونات الإنسانية، الأمر الذي سيؤدي بالتالي إلى تخفيف العبء عن كاهل المانحين من جهة، وإضعاف قدرة التنظيمات المتطرفة على تجنيد الشباب لأسباب مالية من جهة أخرى”.
وبحسب التقرير فإنه “من المتوقع أن تفضي اللوائح المُعلَن عنها إلى تعزيز دخول مؤسسات غير ربحية بشكل أكبر لدعم برامج التعافي المبكر وإقامة مشاريع صغيرة تطور من بِنْية القطاع العام وتساهم في تطوير البِنَى التحتية، كذلك يُتوقَّع أن تدخل بعض الشركات والأفراد في سبيل دعم عملية الإسكان وإنشاء مشاريع أكبر حجمًا من الماضي، كما قد تشهد المنطقة تدفُّق تقنيات اتصال ومَيْكَنَة زراعية وصناعية متطورة نسبيًا، وافتتاح مكاتب حوالات رسمية مرخَّصة”.
يذكر أن منطقة شمال وشرق سوريا دخلت منذ أسابيع حالة من الحرب التركية غير المعلنة ضد الوحدات الكردية المتمثلة بـ”قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة بـ”قسد”، ويبدو أن التحركات التركية هذه المرة كثفت بشكل لافت وجود الطيران المسير في ضرب تجمعات الميليشيات الكردية، وعلى الرغم من أن هذه التحركات لا تعتبر عملية عسكرية منظمة لأنقرة، فإنها تشكل هاجسًا للعديد من الفاعلين في الشأن السوري كروسيا وأمريكا وغيرهما.
تزامنت التحركات التركية في المناطق السورية مع عملية عسكرية واسعة تجريها القوات التركية ضد الوحدات الكردية الموجودة في مناطق متينا وزاب وأفشين ـ باسيان شمال العراق، وفي هذا السياق أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده “لن تقف عند قصف مواقع ميليشيا قسد والتنظيمات الإرهابية في سوريا، وذلك عقب تكرر استهدافها للمناطق السكنية شمال سوريا”.
ختامًا تحاول الأطراف مجتمعة شد البساط في مناطق شمال شرق سوريا إلى جانبها وذلك لزيادة النفوذ وتوسيع السيطرة، وربما تحمل الأيام القادمة تصعيدًا في اللهجة من الأطراف كافة، في ظل التهديدات التركية بشن عملية عسكرية جديدة ضد الوحدات الكردية المتحالفة مع واشنطن.