أكثر من 800.000 فلسطيني وفلسطينية تركوا ديارهم مجبرين تحت تهديد السلاح والقتل، وفي كل عام يحيي من بقي منهم على قيد الحياة مع أحفادهم وجموع المناصرين للقضية الفلسطينية ذكرى النكبة بأسى، ويتذكرون الجرائم التي مارستها العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين العزل، ويستحضرون أنواع المعاناة التي تعرضوا لها سواء قبل أحداث النكبة ذاتها أم خلالها أم حتى بعدها.
وفي واقع الأمر، لا يمكن لكل الكتب والمقالات حصر أو وصف تلك اللحظات، فالنكبة ليست حدثًا لحظيًا وانتهى، فقد سال من بعدها سيل من الأحداث التي لم تتوقف حتى اليوم.
في كل عام من ذكرى النكبة، نقرأ أخبارًا وإحصاءات وحقائق عن اللاجئين الفلسطينيين ورحلة لجوئهم، فكيف كانت تبدو حياة الفلسطيني في ذلك الوقت؟ وما القصص الإنسانية التي اختبأت خلف الأرقام الكبيرة التي خلفتها أحداث النكبة؟
تقول آمنة بدوي إن النكبة بالنسبة لها تشبه مسلسلًا طويلًا لا تنتهي أحداثه، لكن المؤسف أن النكبة هي حقيقة وليست مسلسلًا من نسج الخيال.
الحلم الكبير: منزل وسط بساتين “المنشية”
تقول بدوي إن الصحف دائمًا ما تتناول النكبة وتذكر تأثيرها على حياة الشعب الفلسطيني ومعالم المعاناة الدائمة التي أُجبروا على تحملها والتأقلم مع تفاصيلها الموجعة، لكنها تؤكد أن هذا التركيز اختزل قصص الفلسطينيين الإنسانية وأحلامهم البسيطة التي تستحق الذكر أيضًا.
وعند سؤالها عن طبيعة حياتها قبل الهجرة والحلم الذي كانت تأمل تحقيقه خلال حياتها التي اعتقدت أنها ستكملها في يافا، أجابت: “كان حلمي الأكبر امتلاك منزل”، وتسرد بدوي هنا بعضًا من تفاصيل حياتها:
منذ أن كنا صغارًا عشت وأخوتي مع والدي في بيت إيجار، وعبر السنين كنا ننتقل من بيت إلى آخر بحسب ظروف والدي والحالة المادية لعائلتي، إذ كان والدي يبيع الحلوى، وفي أحيان أخرى يعمل في ميناء يافا.
الخوف كان يملأهم من السكان اليهود الذين كانوا يملكون السلاح الذي وفرته لهم القوات البريطانية
تزوجت واعتقدت أنني سأستقر في بيت جديد، إلا أن زوجي أيضًا لم يكن يتمتع بمستوى مادي عالٍ، وبالتالي لم يتمكن من شراء بيت، فإذا بي أيضًا أعيش في منزل لا نملكه وإنما نستأجره.
تصمت بدوي قليلًا وتكمل: “أحاول التركيز لأن ذاكرتي قد تخونني أحيانًا”، وتضيف مازحة “ومع ذلك، تنشط ذاكرتي عند الحديث عن أي أمر يتعلق بيافا”.
بعد نحو سنتين من زواجي، تمكنت عائلتي وأخيرًا من اقتناء منزل وأخبروني أنهم سيمنحونني أيضًا جزءًا منه ليكمل زوجي بناءه ونسكنه ونتخلص من أعباء الإيجار.
وبالفعل، بدأت العائلة في عملية بناء البيت، وأذكر أنه كان وسط بساتين حي المنشية. عندما أتكلم عن هذا المنزل أسترجع فورًا رائحة شجر الخوخ والبرتقال والليمون حيث مدخل البيت، لقد كان قلبي يدق أكثر في كل يوم توشك فيه أعمال البناء على الانتهاء، وهو ما لم يتحقق أبدًا.
تقول بدوي إن العائلة أوقفت أعمال البناء واضطرت للانسحاب من البيت واستئجار منزل آخر بعدما حذرهم بعض المعارف والجيران من وجود جماعات يهودية تسكن بالقرب منه، وهذا السبب كان كافيًا لتغيير مسار الخطة أو حتى التخلص منها بالكامل، لأن السكن إلى جانب المستوطنين الذين يملكون أسلحة بريطانية، لم يكن قرارًا محمود العواقب.
أما عن لحظة منح بريطانيا ما لا تملك لمن لا يستحق، تقول بدوي: “عندما بدأت أحداث النكبة، سمعنا ليلًا اليهود في كل حارات يافا يفتحون الأغاني في الشوارع عبر مكبرات الصوت وسط تصفيقهم ورقصهم وتهليلهم، وعرفنا حينها أن بريطانيا أوفت بوعدها لهم وسلمتهم بلادنا: فلسطين”.
في اليوم التالي بدأت العصابات الصهيونية بطردنا من منازلنا واضطررنا لاستئجار منزل في منطقة نائية، معتقدين أننا سنعود إلى بيتنا في غضون أيام.
في ذاك المنزل أنجبت طفلتي الثانية، لم أستمتع بطفولتها كما ينبغي، فلقد تركت سريرها الجديد وملابسها التي ابتعتها لها حديثًا. تركنا كل ما نملك في بيتنا وهربنا على أمل العودة.
في الأيام التالية، حملت بدوي طفلتاها وفرت مع عائلتها وعائلات أخرى عبر سفن الشحن في البحر، متوجهين إلى قطاع غزة عقب لحاق العصابات الصهيونية بهم وإطلاق النار عليهم دون التفريق بين إنسان أو حجر.
وحينما انتهى بهم المطاف في خيام صغيرة في مدينة غزة، أدركت بدوي أن حلمها الأكبر في امتلاك منزل انتهى، وأنها وعائلتها وكل الفلسطينيين باتوا يلاحقون حلمًا أكبر: العودة للديار!
عائلات ابتلعها البحر واختفى أثرها بالكامل
ترى بدوي أن قصص الفلسطينيين قبل الهجرة وأحلامهم في امتلاك منزل أو إقامة حفل الزواج أو خططهم في شراء بساتين وزرعها بأشجار ونباتات هي قصص تستحق الذكر والإحياء، إذ إنها تعكس بعدًا إنسانيًا لحياة الفلسطيني العادي قبل خوضه الصراعات، لكنها أيضًا تقول إنها شهدت وسمعت عن قصص إنسانية لم يثرها الإعلام ولم تحظ بالاهتمام الكافي.
وتتذكر بدوي حادثة شاهدتها خلال رحلة لجوئهم عبر البحر، فتقول إنها أحد أكثر المشاهد التي تركت غصة كبيرة في قلبها، ولم تتمكن من نسيانها مع مرور كل تلك السنين.
النكبة لم تتسبب فقط بتشريد وتشتيت العائلات وطردهم من ديارهم، بل تسببت أيضًا في مسح عائلات كاملة عن الوجود
“حينما توجهنا إلى البحر للهجرة إلى غزة، لم نركب سفنًا مجهزة أو قوارب كبيرة، بل صعدنا إلى سفن مخصصة لشحن البضائع كنا نسميها آنذاك “جرومة”، وكحال عشرات العائلات الفلسطينية التي غادرت عبر هذه السفن، غادرتُ مع عائلتي”.
وتتابع بدوي: “وعند بدء الإبحار، لحقت بنا العصابات الصهيونية أيضًا وأطلقوا النار على السفن ومن فيها، ونتيجة لذلك، لم تتمكن بعض السفن من إكمال الرحلة بعد إصابتها بالطلقات النارية، وخاصة أنها كانت تحمل عددًا كبيرًا من المهاجرين، حيث تأرجحت بعض السفن وابتلعها البحر بمن فيها”.
وتضيف بدوي: “عند وصولنا إلى الشاطئ، اكتشفنا أن عائلات كاملة فقدت حياتها في حوادث الغرق هذه، منهم من بقي في أعماق البحر، ومنهم من خرج جثة على الشاطئ”.
وتكمل قولها: “النكبة لم تتسبب فقط بتشريد وتشتيت العائلات وطردهم من ديارهم، بل تسببت أيضًا في مسح عائلات كاملة عن الوجود، فالعصابات الصهيونية لم يكتفوا بطردهم من ديارهم، وسرقة أراضيهم وممتلكاتهم، بل حاولوا كذلك منع فرصهم في النجاة من هذه المأساة ولاحقتهم حتى بعد نجاتهم من أمواج ودوامات البحر.
وتقول إنّ قريبًا لها فقد نظره قهرًا من الحال الذي وصل له بعد اللجوء القسري، فقد كان يمتلك عشرات الأراضي في يافا وكان معروفًا بثرائه وحياته الفارهة، إلا أنه لم يتمكن من تقبل تحول حياته إلى مجرد لاجئ يسعى للحصول على المساعدات فأصيب بالعمى من شدة حزنه.
وبالعودة إلى تجربة بدوي التي عاشتها خلال الهجرة وبعدها وإلى بعض الأحداث التي أثرت بها على الصعيد الإنساني على وجه التحديد، فإن أحداث النكبة لم تشكل فقط تغييرًا سياسيًا في حياة الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية على حد سواء، فالمتأمل في قصص وشهادات الأشخاص الذين عاشوا النكبة كالقصص التي روتها بدوي أو حتى تلك المنشورة عبر الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي، يجد أن الأحداث التي سبقت النكبة لم تهدف فقط إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم ومنحها لليهود وتأسيس دولة احتلال عليها، مقابل منح الفلسطينيين أراض أخرى يعيشون فيها كما يشاؤون، بل إن إلغاء الوجود الفلسطيني ذاته ومحاولة إزالته من الجذور كان هدفًا حاضرًا طوال الوقت أمام “إسرائيل” ومن قرر منحها فلسطين.
لذلك، فإن العمل على توثيق القصص الإنسانية التي شهدها الفلسطينيون خلال هجرتهم واستغلال وجود بعض اللاجئين الذين ما زالون يذكرون أحداث الهجرة واجب من أجل إبقاء البعد الإنساني للقضية الفلسطينية عبر الزمن، والتأكيد دومًا وفي كل فرصة متاحة أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض لا من جاؤوا من بولندا وأمريكا.