ظلت السياسة بعيدة عن دائرة الضوء في تاريخ نهائيات كأس العالم، حتى أسفرت قرعة كأس العالم في فرنسا عام 1998عن أكثر المواجهات المشحونة سياسيًّا، ففي حفل أُقيم في باريس في ديسمبر/كانون الأول 1997، سُحبت قرعة ألمانيا وجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية، ثم انضمَّ إليهما منتخب إيران القادم من الوعاء الثالث “C”، ثم سُحبت ورقة من الوعاء الرابع “D” صاحبتها ضجّة حماسية عندما ظهر اسم الولايات المتحدة الأمريكية.
اليوم، يجدُ البلدان نفسيهما في الموقف نفسه، فبعد أكثر من 40 عامًا من العلاقات المتوترة وأشهُر من النضال لاستعادة الاتفاق النووي، تستعدّ الولايات المتحدة وإيران للالتقاء في ملعب كرة القدم في نهائيات كأس العالم هذا العام، بعد أن وقعتا معًا في المجموعة الثانية في قرعة كأس العالم في نسخته الـ 22 في قطر.
يثير تكرار هذه الصدفة بعد 24 عامًا تساؤلات حول العلاقة الجليدية بين الولايات المتحدة وإيران، التي اتّسمت بالمواجهة الدبلوماسية وحتى العسكرية في السنوات الماضية، فهل من المحتمل أن تذوب إلى حدٍّ ما بحلول الوقت الذي يلعبان فيه في قطر في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني القادم في ختام المجموعة الثانية؟
للإجابة عن هذا السؤال، علينا أولًا أن نعرف ماذا حدثَ عندما واجه المنتخب الإيراني نظيره الأمريكي في فرنسا؟
أكثر المباريات المشحونة سياسيًّا
كانت نتائج المجموعة السادسة “F” هي القرعة التي لم يردها الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” أن تحدث في مونديال فرنسا، وكان لدى المشجّعين شعور لا مفرّ منه، فقد كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران عدائية ومعقّدة منذ سقوط شاه إيران المدعوم من الولايات المتحدة، في أعقاب الثورة الإسلامية الإيرانية في البلاد عام 1979.
بعد 19 عامًا من الثورة الإسلامية، وفّرت مباراة كرة قدم بين البلدَين موضوعًا مثيرًا للجدل يصعب التعامل معه، ووصفها رئيس الاتحاد الأمريكي لكرة القدم بأنها “أمّ كل المباريات”
لذلك منذ لحظة الإعلان عن المواجهة الحتمية بين المنتخبَين، أحاطت الإيحاءات السياسية بالمباراة على الفور، ووصلت المواقف بين الدول إلى مستويات غير مسبوقة، وأثار المشجّعون والمحلِّلون ووسائل الإعلام وحتى المسؤولين الحكوميين الجدل حول من سيخرج منتصرًا، حتى عندما دعَت وزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين أولبرايت، إلى تحرُّك نحو علاقات طبيعية بين إيران والولايات المتحدة، هدّدَت الجماعات الإيرانية في المنفى المعارِضة للنظام الإسلامي بعرقلة المباراة.
بدت المباراة مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى التوتر القومي والسياسي المتوقع مهما كانت النتيجة التي تحدث على أرض الملعب، ومع اقترابها لم يكن بالإمكان تجنُّب العنصر السياسي في أول مباراة لكرة القدم على الإطلاق بين البلدَين.
قوّضَت التطلُّعات المشتركة لكلا الجانبَين بشكل كبير الصور النمطية المحيطة باللقاء، والذي كان يُنظر إليه في البداية على أنه معركة أيديولوجيات بين “قوى الشيطان الأكبر” ورجال الدين المحافظين الذين يدعون في شعائرهم إلى “الموت لأمريكا”.
بعد 19 عامًا من الثورة الإسلامية، وفّرت مباراة كرة قدم بين البلدَين موضوعًا مثيرًا للجدل يصعب التعامل معه، ووصفها رئيس الاتحاد الأمريكي لكرة القدم بأنها “أمّ كل المباريات”، لكنه حاول التخفيف من حدّة الأمور مازحًا: “كل ما نحتاجه الآن هو حكم عراقي”، بينما في الوقت نفسه اهتزَّ النظام السياسي في طهران بسبب لقاء على وشك الحدوث، وبعد 6 أشهر من القرعة لم تخيّب المباراة آمالهم.
تزامن الاستعداد للمباراة مع ذوبان الجليد في العلاقات بين البلدَين اللذين كانا خصمَين منذ أواخر السبعينيات، وقد أدَّى ذلك، إلى جانب أزمة الرهائن التي شهدت احتجاز 52 دبلوماسيًّا أمريكيًّا في السفارة الأمريكية في طهران لمدة 444 يومًا، إلى توقف تامّ لجميع العلاقات الدبلوماسية بينهما.
اشتعلَ الصراع بين البلدَين خلال الجزء الأكبر من السنوات الأربعين الماضية، ووصفَ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش البلاد ذات مرة بأنها جزء من “محور الشرّ”، وفي عام 1996 فرض بيل كلينتون حظرًا على التجارة الأمريكية مع إيران، وبالنسبة إلى الحكّام الإيرانيين، من ناحية أخرى، تجسِّد الولايات المتحدة الإمبريالية الغربية.
اختلطَت منذ ذلك الحين الرياضةُ حتمًا في الخلاف السياسي المشحون، فعندما فازَ المصارع الإيراني رسول خادم بميدالية أولمبية في الألعاب الصيفية في أتلانتا عام 1996، قالَ الرئيس الإيراني، أكبر هاشمي رفسنجاني، إن المصارع رفعَ العلم الإيراني في “بيت الشيطان”.
هذه الخلفية التاريخية جعلت من مباراة كأس العالم عام 1998 في ليون بفرنسا حدثًا مشحونًا سياسيًّا، لكن بعد قرعة بطولة كأس العالم الـ 16 التي أضافت اللقب العالمي الأول للمنتخب الفرنسي، اقترحت وزارة الخارجية الأمريكية أن المباراة قد تساعد في تحسين العلاقات بين البلدَين، وقلّلَ المسؤولون الإيرانيون من شأن المباراة، واعتبروها نوعًا من الحرب دون رصاص.
في مؤتمر صحفي عُقد في باريس قبل أيام من المباراة، اتهمت مجموعة من الإيرانيين المنفيين، الذين لعبوا مع منتخب بلادهم في كأس العالم في الأرجنتين عام 1978، النظامَ “الأصولي” بقتل قائد ذلك الفريق، حبيب خيبري، لأسباب سياسية عام 1984، وقالوا إنهم يعتقدون أن رجال الدين المحافظين الذين يتمتّعون بالسلطة المطلقة في إيران سيستخدمون اللعبة لأغراض دعائية، بالطريقة التي استخدم بها أدولف هتلر دورة الألعاب الأولمبية الصيفية عام 1936 في برلين.
اندلع صدام سياسي آخر عندما بثَّ التلفزيون الفرنسي فيلم “ليس من دون ابنتي”، بطولة سالي فيلد وألفريد مولينا، والمبني على قصة حقيقية لامرأة أمريكية غادرت إيران مع ابنتها مخالفة رغبة زوجها الإيراني، ويصوِّر الفيلم المثير للجدل بشكل قاتم الحياة في إيران في ظل قوانين الأصولية الدينية، ما دفعَ الاتحاد الإيراني لكرة القدم إلى تقديم احتجاج على توقيت البثّ.
في الفترة التي سبقت المباراة “السياسية” المنتظرة، قال مدرِّب المنتخب الأمريكي حينها، ستيف سامبسون: “لن ندع السياسة تلعب دورًا في هذا”، وأضاف: “نريد أن نُظهر أن ما نريده من هذه المباراة إلى جانب النتيجة الإيجابية هو أن البلدَين قادرَين على المنافسة بشكل فعّال، ومواجهة بعضيهما على أرض الملعب، كدليل على ذلك نأمل أن تكون المباراة بداية لما يمكن أن تكون علاقة جديدة بين الولايات المتحدة وإيران”.
دخل الإيرانيون البطولة بأهداف أبسط، وكانوا آخر فريق يتأهّل إلى نهائيات البطولة المكوَّنة من 32 فريقًا، وكان هذا هو أول ظهور لهم في كأس العالم منذ 20 عامًا، ولم تكن هناك أي فرصة حقيقية للتقدُّم إلى الدور الثاني، خاصة بعد الخسارة (1-0) أمام يوغوسلافيا، وبقاء مباراة ضد منتخب ألمانيا، بطل العالم 3 مرات، أمامهم، ويبدو أن الفوز فيها شبه مستحيل، وهو ما حدث بالفعل.
ومع ذلك، يريد الإيرانيون الفوز على أمريكا لأن هذه هي المباراة الوحيدة التي يعتقدون أنهم قادرون على الفوز بها، حيث بدا الأمريكيون خجولين وضعفاء بشكل خاصّ أمام ألمانيا، بينما بدت إيران شُجاعة في الخسارة أمام يوغوسلافيا.
في ظاهر الأمر، بدا أن الأمريكيين لديهم الجانب الأفضل، أو على الأقل الأكثر شهرة، بالمقارنة كان اللاعبون الإيرانيون غير معروفين إلى حد كبير، وكان الاستثناء هو المهاجم القوي علي دائي، الذي كان قد قضى موسمًا ناجحًا في فريق أرمينيا بيليفيلد الألماني، لدرجة أن بايرن ميونيخ وقّع معه، ولعب له 23 مباراة وسجّل 6 أهداف.
كان المنتخب الإيراني قد وصل إلى كأس العالم في فرنسا عبر مباراة فاصلة مع نظيره الأسترالي، الذي يديره الرجل المفضّل لدى وسائل الإعلام الإنجليزية، تيري فينابلز، وتعادل في مباراة الذهاب في طهران، وتقدّم بنتيجة 2-0 في الشوط الثاني أمام 85 ألف مشجّع في ملعب ملبورن للكريكيت.
لكن إيران تمكّنت من العودة إلى المباراة في الدقائق الأخيرة، ففي الدقيقة 79 سجَّل خوداداد عزيزي -الذي لعبَ لفريق كولن الألماني- هدف التعادل، وكان المعلقون في التلفزيون الأسترالي في حالة ذهول من تحول الأحداث لدرجة أن أحدهم انهار بالبكاء.
رغم النجاح في التصفيات، كان المنتخب الإيراني في حالة من الفوضى منذ ذلك الحين، حيث توالى على إدارته 4 مدرِّبين في الأشهر السبعة التي سبقت نهائيات كأس العالم، وفقدَ الاتحاد الإيراني صبره مع مدرِّبه البرازيلي فالدير فييرا، وطرده بعد ذلك بوقت قصير، ليحلَّ محله جلال طالبي، وهو إيراني كان -من المفارقات- يعيش مع أسرته في الولايات المتحدة عندما تمَّ تعيينه.
ماذا حدث خلف الكواليس؟
في يوم هذه المباراة المشحونة بدأت الأمور ببطء، وبدا اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية السائدة بكرة القدم بقدر اهتمامها بالسياسة في ليختنشتاين، بينما كان عدد الصحفيين الإيرانيين يفوق عدد الصحفيين من جزر فوكلاند تقريبًا.
خارج الملعب قبل المباراة، عُرضت عوالم مختلفة من إيران الحديثة، حيث ارتدت بعض الشابات الإيرانيات قمصان رياضية وسراويل ضيقة وأحذية ذات نعل سميك، والبعض الآخر ارتدين أوشحة رأس وأردية طويلة أو بدلات فضفاضة، وكانت معظم الأعلام تحملُ علامات العلم الرسمي الإيراني الحالي، لكن القليل منها ظهر بشارة الأسد والشمس لنظام الشاه الراحل محمد رضا بهلوي.
وفّرت المباراة منصة لمعارضين إيرانيين للنظام الإسلامي في طهران للترويج لقضيتهم، أحيانًا بعنف، لكن كاميرات التلفزيون تفادت إظهارهم
بالقرب من الساحة المركزية كان عدة مئات من الإيرانيين يصفقون ويغنون ويحملون الأعلام، وتهافتوا على مطاعم ماكدونالدز المحلية، بالنسبة إلى الكثير منهم كان ذلك بمثابة إعادة توحيد للشتات الإيراني، لأولئك الذين فرّوا من ثورة 1979.
قبل انطلاق المباراة، كانت أول مشكلة واجهت القائمين على تنظيم المباراة أن إيران تمثل الطرف الثاني “B” في المباراة وأمريكا هي الطرف الأول “A”، ووفقًا للوائح الفيفا يجب على الإيرانيين (فريق B) أن يذهبوا لمصافحة لاعبي المنتخب الأمريكي (فريق A) قبل انطلاق المباراة، لكن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، أعطى أوامره بألّا يتحرك الإيرانيون نحو لاعبي أمريكا أبدًا.
في النهاية، تمكّن مهدراد مسعودي، وهو رجل إيراني المولد كان مكلفًا من قبل الفيفا بتنظيم المباراة إعلاميًّا، من التفاوض على حلٍّ وسط، ونجح في إقناع منتخب أمريكا بأن يبدأ لاعبوه بالتحرك نحو المنتخب الإيراني ويلقون التحية عليهم، لكن هذا كان أقل ما يقلق الفيفا.
كانت تلك هي المشكلة الأولى التي واجهت الفيفا، لكنها لم تكن المشكلة الأكبر، ففي خارج الملعب اشترى أعضاء جماعة إيرانية منشقّة يرعاها العراق، وهي المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية المعروف باسم منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، 7000 تذكرة مخصَّصة للمباراة، وكانت تخطِّط لتنظيم احتجاجات خلال المباراة ضد النظام الإيراني.
لم يكن لدى معظم كتّاب كرة القدم أي فكرة عن هذه المنظمة، لكن أولئك الذين عرفوا كيفية استخدام محرك بحث الويب “Ask Jeeves” على أجهزة الكمبيوتر في المركز الإعلامي، اكتشفوا بسرعة أن هذه المنظمة تقودها امرأة تُدعى مريم رجوي، وكان هدفها الرئيسي زعزعة استقرار النظام الإيراني، وقد نفّذ أعضاؤها هجمات عنيفة على السفارات الإيرانية حول العالم، وأُدرجت كمنظمة إرهابية من قبل الكثير من الدول الغربية.
من المؤكد أن هؤلاء لم يكونوا موضع ترحيب في ليون حيث أُقيمت المباراة، لكن احتواء هذا العدد الكبير من المشجّعين الموزّعين بين 42 ألف متفرج لم يكن سهلًا، كان على المتفرجين عبور 3 نقاط تفتيش أو أكثر، وعند كل نقطة تفتيش قامَ الضبّاط الناطقون بالإنجليزية والفارسية بفحص القمصان واللافتات، بحثًا عن لافتات دعائية أو تحضّ على الكراهية أو تحمل رسائل سياسية.
رغم ذلك، نجح العديد من المتظاهرين في تهريب أجزاء من اللافتات وتجميعها معًا باستخدام لاصق فيلكرو، ووفّرت المباراة منصة لمعارضين إيرانيين للنظام الإسلامي في طهران للترويج لقضيتهم، أحيانًا بعنف، لكن كاميرات التلفزيون تفادت إظهارهم.
كان المعارضون مناوئين لحكومة الرئيس محمد خاتمي الإسلامية، ورفعوا لافتة “الموت لخاتمي” في منطقة النهاية، إلى جانب ظهور ملصقات لمريم رجوي، المرأة التي يعتبرها المنشقون زعيمةً لهم، معلَّقة في عدة أماكن، وآلاف من المعجبين يرتدون قمصانًا عليها صورتها.
بالمقارنة، بدا المشجّعون الأمريكيون أكثر رزانة تقريبًا داخل الملعب وخارجه، وكان هناك الكثير من الأعلام الأمريكية والملابس الحمراء والبيضاء والزرقاء، لكن الهتافات الأمريكية بالكاد يمكن سماعها مقارنة بالصيحات الإيرانية عندما سجّلت إيران هدفَين.
شعر المشجّعون الأمريكيون -الذين اختلطوا إلى حدّ كبير بالمشجّعين الإيرانيين بسبب جلوسهم بالخطأ- في المدرّجات وكأنهم يلعبون لعبة خاطئة، وتصف المشجعة الأمريكية جيل كلاين ذلك في حديثها لصحيفة “واشنطن بوست”، بقولها بعد المباراة: “جلسنا بالقرب من الكثير من الإيرانيين، واعتقدنا في البداية أنهم كانوا يهتفون ضد الأمريكيين. شعرنا بالارتياح لمعرفة أنهم كانوا يهتفون ضد بعضهم البعض”، حيث اهتزت المدرّجات في ستاد غيرلاند طوال المساء بالصراع بين الإيرانيين أنفسهم.
بالنظر إلى القضايا الدبلوماسية والأمنية المحيطة بالمباراة في ليون، بدت مسؤوليات مسعودي أوسع نطاقًا بكثير من كونه مسؤولًا إعلاميًّا في الفيفا عن المباراة، فقد سعى -كما يقول- لتجنُّب ظهور أي اضطراب أثناء مشاهدة المباراة على شاشة التلفزيون، وطلبَ من مُخرج المباراة تفادي ظهور المدبِّرين الرئيسيين للتظاهرات، وإظهار اللافتات التابعة لهم خلال المباراة المنقولة حول العالم.
لكن مشاكل المباراة لم تنتهِ هنا، فمع إحباط الخطة الأولى كانت الخطة “ب” هي اقتحام الملعب لإفساد المباراة، لكن المصادر الاستخباراتية كشفت قبل اللقاء عن تلك الخطة بالفعل، وأخذت وشرطة مكافحة الشغب الفرنسية احتياطاتها، ودخلت قوات إضافية إلى الملعب لتأمين اللقاء، وقبل ساعات من انطلاق المباراة تجمّعت الشرطة حول ساحة المباراة، حاملين عبوات حمراء من الغاز المسيّل للدموع على ظهورهم ودروع واقية.
في حين حاولت هذه المجموعة تخريب المناسبة واستخدامها لأغراض سياسية خاصة بها، أراد رئيس الاتحاد الإيراني استغلال المباراة لإظهار بلاده في أفضل صورة ممكنة، وطلب من العاملين في غرفة الملابس شراء باقات من الزهور لكل لاعب ليأخذها إلى أرض الملعب ويهديها إلى اللاعبين الأمريكيين قبل المباراة، وكانت الورود البيضاء رمز السلام في إيران.
قدّم قائد المنتخب الإيراني، أحمد رضا عابد زاده، لنظيره الأمريكي، توماس دولي، باقة زهور ضخمة، وبحلول الانتهاء من الإجراءات الرسمية والتبادلات الشكلية بين اللاعبين، كان قائدا المنتخبَين بالكاد يستطيعان السير عائدَين إلى الخطوط الجانبية، فقد كانا محمّلَين بما تبادلانه من شارات وورود وهدايا.
رغم التوترات والتاريخ بين الدولتَين، سعى الاتحاد الدولي لكرة القدم لإثبات أن كرة القدم لا دخل لها بالسياسة، حيث تخطّى لاعبو الفريقَين ممارسات كأس العالم التقليدية، واجتمعوا معًا لالتقاط صورة جماعية قبل المباراة، وليس كفريقَين منفصلَين، وهي لحظة تركت انطباعًا كبيرًا في كلا البلدَين وحول العالم.
لكن عندما أطلق حكم كرة القدم السويسري، أورس ماير، صافرته معلنًا بدء المباراة، تصاعد التوتر مرة أخرى، واتّسمت التدخلات المشتركة بين لاعبي المنتخبَين بالقوة، لكنها لم تخرج عن إطار كرة القدم.
بعد وقت قصير من بدء المباراة، احتضنَ الظهير الأمريكي كلاوديو رينا عمليًّا المهاجم الإيراني داي، وساعده بلطف في الوقوف بعد أن تسبّب في سقوطه أرضًا، في تلك اللحظة فقط كانت كتيبة حاشدة من ضبّاط الشرطة تصطفُّ أعلى السلالم في منطقة النهاية، للفصل بين فصائل المشجّعين وتفريق المعارك بين المشجّعين الإيرانيين.
وفي منافسة شرسة لكنها عادلة، تقدّمت إيران قبل 5 دقائق من نهاية الشوط الأول بهدف من حميد إستيلي، وضاعفَ مهدي مهدفيكيا التقدُّم في الدقيقة 84، وصمدَ الإيرانيون حتى نهاية المباراة ليسجّلوا أول فوز لهم على الإطلاق في نهائيات كأس العالم، وكأنهم فازوا بكأس العالم نفسها.
فيديو لأهداف مباراة إيران وأمريكا في كأس العالم في فرنسا عام 1998
من بين كل المظاهر السلبية التي لم يُكتب لها أن تعكّر صفو المباراة، اتحدت الفصائل الإيرانية لدعم منتخبها الوطني المنتصر، وصفقت بأدب عندما سجّل براين ماكبرايد هدف الولايات المتحدة الوحيد في وقت متأخر من المباراة.
يتذكر لاعب خط الوسط الأمريكي، تاب راموس، المباراة: “كنا خائفين قليلًا من ردّهم، لقد كان فريقًا إيرانيًّا جيدًا، كان لدينا المزيد من الاستحواذ على الكرة، لكنني أعتقد أنهم كانوا خطرين حقًّا في تنفيذ الهجمات المرتدة وفي النهاية تغلبوا علينا، كنا نسيطر على المباراة، ولكن لسوء الحظ خسرنا المباراة”، بحسب قوله لموقع Goal.
من العدل في الواقع أن يمنح الفيفا كلا الفريقَين جائزة اللعب النظيف بعد ذلك، وهي ميدالية تحتلُّ الآن مكانة مرموقة، ومع تحديد الفيفا يوم 21 يونيو/ حزيران يومًا للعب النظيف، كان المزاج السائد بين المنتخبَين مبهجًا خلال المباراة الأكثر إثارة في تاريخ كأس العالم.
ما بعد المباراة ليس كما قبلها
انتهى الأمر بخسارة الولايات المتحدة أمام إيران التي سعت لتقديم عرض مثير في كأس العالم 1998، لكن لم يُكتب لها التأهُّل بعد أن خسرت المباراة الثالثة في المجموعة أمام يوغوسلافيا، وحُكم على الأمريكيين بالهزيمة، وحلَّ ترتيبهم في المركز الأخير في المجموعة السادسة، مع صعود ألمانيا ويوغوسلافيا إلى دور الـ 16.
“لقد فعلنا في 90 دقيقة أكثر ممّا فعله السياسيون في 20 عامًا”، يقول المدافع الأمريكي جيف أغوس
أدّى ذلك إلى رحيل المدرِّب ستيفن سامبسون، الذي اُستبدل في النهاية بمدرِّب كرة القدم الأمريكي روس أرينا، ورغم ذلك، من قبيل الصدفة، كان هناك مرشّح آخر لهذا المنصب حينها، وهو مدرِّب إيران في كأس العالم عام 2008، وصاحب المدة الأطول من بين جميع الذين تولوا تدريب المنتخب الإيراني، المدرِّب البرتغالي كارلوس كيروش.
حكمت الهزيمة أمام إيران بإقصاء الولايات المتحدة من المونديال بعد 3 هزائم متتالية، لكن رغم ذلك أدرك اللاعبون الدور الذي لعبوه في مباراة تاريخية، وتجسّدت نظرتهم المختلفة للِّقاء في وصف المدافع الأمريكي جيف أغوس في ذلك الوقت: “لقد فعلنا في 90 دقيقة أكثر ممّا فعله السياسيون في 20 عامًا”.
كانت النتيجة تاريخية بالنسبة إلى إيران، مسجّلة فوزها الأول في كأس العالم، وهو إنجاز لم يحقّقه الإيرانيون حتى هزموا المغرب (1-0) في مباراتهم الافتتاحية لكأس العالم 2018.
أدّى انتصار عام 1998 إلى احتفالات في شوارع إيران، ليس فقط بالفوز الأول في كأس العالم في تاريخ الأمة، ولكن لأنه جاء ضدّ بلد كان يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه عدو لإيران.
أعاد الفوز على الولايات المتحدة في “فرنسا 98” كل المشاعر والاحتفالات التي شهدتها إيران عندما تأهّلت لكأس العالم بعد تغلُّبها على أستراليا في ملبورن، وتكرّر الأمر عقب الفوز التاريخي على المنتخب الأمريكي رغم الإقصاء من البطولة، لكن الفوز الأخير كان له دلالات أخرى.
في كلا المناسبتَين احتفلت إيران بأكملها، كان الناس يرقصون في شوارع طهران، يشربون الخمر علانية، وخلعت النساء الحجاب أمام أعين الحرس الثوري الذي لم يفعل أي شيء حيال ذلك، لأنهم كانوا يحتفلون بالنصر أيضًا.
رغم أن نهائيات كأس العالم 1998 كانت سيّئة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إلا أن الروح الرياضية التي ظهرت في المباراة ضد إيران كانت إحدى النقاط المضيئة القليلة، وهو العرض الذي ساعدَ في النهاية على لعب البلدَين مباراة ودّية في الولايات المتحدة عام 2000.
لم تكتفِ الدولتان باللعب ضدّ بعضهما في مباراة ودّية، فقد انتهى الأمر بلاعبَين من منتخب إيران 1998 الذي هزمَ الأمريكيين باللعب في الدوري الأمريكي لكرة القدم.
أمضى المهاجم الإيراني خوداداد عزيزي موسم 2000 مع فريق سان هوزيه إيرثكويكس، بينما لعبَ المدافع محمد خاكبور مع فريق نيويروك/ نيوجيرسي ميتروستارز عام 1999، المعروف اليوم باسم فريق نيويورك ريد بولز، حيث كان زميلًا مع راموس.
لكن كل ذلك ما كان ليحدث لولا نجاح مباراة كأس العالم التي جمعت بعض لاعبي المنتخبَين في فريق محلي واحد، وفي هذا السياق يتحدث راموس عن زميله خاكبور في الفريق نفسه، قائلًا: “كان ألطف شخص، وأحد اللاعبين الأجانب القلائل الذين زرت منزله لتناول العشاء، وقد جاء إلى منزلي لتناول العشاء، لقد طورنا علاقة وثيقة حقًّا، وأعتقد أنها بدأت في ذلك اليوم عام 1998”.
مباراة سياسية جديدة
بخلاف المباراة المنتظرة بين إيران والولايات المتحدة، فإذا احتاجت المجموعة الثانية “B” التي اصطبغت بنكهة سياسية إلى مزيد من المؤامرات، فقد ساعدت الصدفة في توفيرها في قرعة نهائيات مونديال قطر من قبل المشارك الرئيسي في بطولة أمم أوروبا 2020، إنجلترا، الذي عانت حكومته من علاقات متوترة مع طهران.
وكانت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، والتي امتدّت إلى مركز الدوحة للمؤتمرات بالعاصمة القطرية، واضحة في الفريق الأخير الذي اُختير في المجموعة، فقد تأخرت قدرة أوكرانيا على التأهُّل لمونديال 2022 بسبب الحرب التي أوقفت كرة القدم في البلاد، لكن إذا تغلّب المنتخب الأوكراني على أسكتلندا ثم ويلز في التصفيات الأوروبية في يونيو/ حزيران، فإن الأوكرانيين سيخوضون كأس العالم للمرة الأولى منذ عام 2006.
منعت السلطات الإيرانية النساء من حضور مباريات كرة القدم وغيرها من الألعاب الرياضية في الملاعب، وسمحت لهن بدخولها للتجمعات السياسية
هناك توتر سياسي هائل بين البلدَين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى البرنامج النووي الإيراني، حيث تحاول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن استعادة الاتفاق المبرَم عام 2015 بين إيران والقوى العالمية، والذي من شأنه كبح برنامج طهران النووي مقابل رفع العقوبات التي أضرّت بالاقتصاد الإيراني، لكن المحادثات توقفت في فيينا بشكل مفاجئ في منتصف مارس/ آذار، بسبب شروط مستجدّة وضعتها روسيا في اللحظة الأخيرة جرّاء العقوبات التي فرضها الغرب ردًّا على غزو أوكرانيا.
وتتهمُ واشنطن إيران والقوات التي تدعمها بشنّ هجمات في أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك ضدّ القوات الأمريكية المتمركزة في العراق وسوريا، وفي عام 2020 كان البلدان على شفا الحرب بعد أن قتلت الولايات المتحدة قائدًا عسكريًّا إيرانيًّا كبيرًا، وردّت طهران بضربات صاروخية انتقامية على القوات الأمريكية المتمركزة في العراق.
رغم الطبيعة الخطيرة للتنافس بين الولايات المتحدة وإيران، تفجّرت النكات على تويتر بعد قرعة كأس العالم، وقال مدير برنامج إيران في مجموعة الأزمات الدولية، علي واعظ، مازحًا إن “الحكومة الأمريكية شكّلت مجموعة لمعرفة ما سيحدث في حالة انتهاء المباراة بالتعادل، وما إذا كان تبادل القمصان ينتهك العقوبات”.
قال بهنام بن طالبلو، الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD)، وهي مؤسسة فكرية بواشنطن، إن إدارة بايدن يجب أن تستغلَّ هذه الفرصة للدفاع عن النساء الإيرانيات اللواتي يتعرضن لاعتقالات وضرب واحتجاز وانتهاكات، بدعوى انتهاكهن الحظر المفروض على حضورهن مباريات كرة القدم.
وبحسب منظمة هيومان رايتس ووتش، منعت السلطات الإيرانية، في 29 مارس/ آذار الماضي، نساء إيرانيات من دخول ملعب الإمام رضا لكرة القدم في مدينة مشهد، لحضور مباراة دارت بين إيران ولبنان ضمن التصفيات الآسيوية المؤهِّلة لكأس العالم، وعَمَدت الشرطة إلى استخدام العنف ضد النساء خارج الملعب، وأطلقت عبوات الغاز المسيّل للدموع، ما أدّى إلى موجة تنديد ومطالب بإقصاء إيران من كأس العالم المقررة في قطر.
في الماضي، أبلغ الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) إيران أن الوقت قد حان للسماح للنساء بدخول ملاعب كرة القدم، فعلى مدى السنوات الأربعين الماضية منعت السلطات الإيرانية النساء من حضور مباريات كرة القدم وغيرها من الألعاب الرياضية في الملاعب، وسمحت لهنّ بدخولها للتجمُّعات السياسية، ورغم أن هذا الحظر غير منصوص عليه في القوانين والأنظمة، إلا أن السلطات تطبّقه بانتظام على مدى عقود مضت.
في غضون ذلك، تجنّبَ مدرِّبا إيران والولايات المتحدة الشجار السياسي، قائلَين إنهما يركزان على البطولة وقدرتها على الجمع بين الجمهور، وأكّد مدرِّب المنتخب الأمريكي، غريغ بيرهالتر، ذلك بقوله إنه “بعد 24 عامًا من عام 1998 وبعيدًا عن السبعينيات وتطوُّر كلا البلدَين بشكل كبير منذ ذلك الحين، أعتقد أن الأمر يتعلق بكرة القدم في نهاية اليوم، وأفضل علامة على الصداقة يمكنك تحقيقها هي التنافس بقوة على أرض الملعب بطريقة عادلة، وهذا ما تدور حوله بطوله كأس العالم”.
لم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى الكرواتي دراغان سكوتشيتش، مدرِّب المنتخب الإيراني، البالغ من العمر 53 عامًا، الذي رفضَ في البداية إثارة الضجيج حول ما أسفرت عنه قرعة المجموعة الثانية “B”، وقال: “هذه مجموعة سياسية، لكنني لست سياسيًّا، سنركّز أنا وفريقي على كرة القدم فقط والاستعداد على النحو الأمثل للمباريات، وليس على الأمور الخارجية”.
هناك القليل من التوقعات بالنسبة إلى منتخب الولايات المتحدة في البطولة، والتي لم يتأهّل لها عام 2018، ولكن لديه الآن مجموعة من اللاعبين الشباب الواعدين، في حين تأهّلَ منتخب إيران لكأس العالم في روسيا قبل 4 سنوات، لكنه لم يتجاوز دور المجموعات أبدًا، فهل يحقّق لاعبو المنتخبَين على أرض الملعب ما لم يحقّقه رجال السياسة على طاولة المفاوضات؟