في مارس/ آذار الماضي، بثّت منصة “ديزني بلس” الحلقة الأولى من مسلسل “فارس القمر” (Moon Knight)، ليحظى بشهرة كبيرة عالميًّا كإنتاج خاصّ بمارفل تحت مظلة ديزني، بيد أنه تمتّع بشعبية هائلة في الأوساط العربية، والمصرية على وجه الخصوص، لأن مُخرج أغلب الحلقات هو المخرج المصري الواعد محمد دياب، بجانب مشاركته كمخرج منفّذ.
والحق أن الاندهاش والصخب الجماهيري كانا في محلهما لعدة أسباب، فمن الصعب على مخرج مصري أو عربي أن يدير إنتاجًا بهذه الضخامة، أنا لا أتحدث عن التكلفة الإنتاجية التي تقدَّر بـ 3 مليارات جنيه مصري، بل عن أسماء نجوم بحجم إيثان هوك (رُشِّح لـ 4 جوائز أوسكار) بجانب النجم صاحب الحضور الهائل أوسكار آيزيك الذي يختار أدواره بعناية.
كل هذه الأشياء تتضافر لتنفجر وتحدث دويًّا ذا خصوصية مصرية، وتحديدًا مع وجود الحضارة المصرية وهويتها، الذي يعتمد في بنائها القصصي على الميثولوجيا المصرية القديمة كمرجع وأصل يحددان شكل ونمط الكلام، لهذا كان من المهم للعالم أن يترقّب هذه التجربة الجديدة.
ومن الضروري للمصريين بشكل خاصّ رؤية مخرج مثل محمد دياب يخلق واحدًا من العوالم السحرية للأبطال الخارقين داخل كون مارفل الأكثر شهرة عالميًّا، ولكن هل نجح محمد دياب وصنّاع العمل في تقديم منتج إبداعي متفرِّد فعلًا؟
تقديم شخصية تلفزيونية
مع التطور التكنولوجي الهائل تقلّصت المساحة بين الدراما التلفزيونية والسينما، بحيث أصبح الاثنان يشتبكان في بعض المواضع ويتماسّان في الكثير من الفنّيات، بيد أن تلك المساحة الضئيلة التي تفصلهما، هي التي تحدِّد شكل المنتج الإبداعي في وجوده الكُلّي.
والحق أن هذا الأمر ليس غريبًا على مارفل بشكل عام، فقد قدّمَت عدة شخصيات خارقة عبر التلفزيون بشكل ناجح، ولكن هذا قبل أن تنتقل ملكيتها إلى ديزني، فضلًا عن تفرُّد شخصية فارس القمر ذاته عن أغلب الأبطال الخارقين.
فحقيقة كونه يحمل داخله أكثر من شخصية تزيد الأمر تعقيدًا، لأن مفهوم الأبطال الخارقين يحمل نمطًا معيّنًا للشخصية الرئيسية يكسرها فارس القمر منذ البداية، وهي الصوت الفردي والتحرُّك خلال نظرة أحادية واثقة، وهذا ما يفتقده البطل منذ البداية، لأنه متجرِّد من مفهوم الوحدة في شكله الكلي، وتختلطُ الأصوات داخل رأسه فتعيقه عن أخذ القرار.
كل هذه الأشياء تجعل محاولة تحويل كوميك “مون نايت” إلى مروية بصرية أمرًا ليس بالسهل، بيد أنها في الوقت نفسه تجعلها الشخصية المثالية للدراما التلفزيونية، فهي تحتاج إلى مساحة سرد كبيرة لرصد تفاصيل الشخصية وعالمها بشكل منطقي ومفيد لعالم مارفل بمعناه الأشمل.
هذا بالإضافة إلى ثراء الشخصية على المستوى الفردي، ما يستلزم وعيًا شديدًا بالجزئية الذاتية للشخصية، وتعيين حدود لتفرُّعها داخل السردية القصصية، بما لا يطغى على عنصر البطل الخارق الذي يؤسِّس له المسلسل في الأصل، ومحاولة عدم تهميش دور أحد، فالكثير من المشاهدين ينتظرون رؤية بطلهم الخارق، يهتمّون بتفاصيل جانبه الماورائي وقدراته الخارقة، من أين أتت وإلى أي مدى يمكن أن تصل، وعند هذه النقطة يمكن أن نقف قليلًا.
لا نحتاج إلى تدقيق نظر حتى نلاحظ طغيان جانب من الحكاية على الآخر، فالاهتمام البالغ بالبنية النفسية والجانب السيكودرامي يعمل على إزاحة القصة الرئيسية من نوعية الأبطال الخارقين إلى اتجاهات أخرى، وهذه النزعة للتحرُّك والتحرُّر من النوعية هي سمة من السمات الحداثية المعروفة سينمائيًّا.
بيد أن الأمر مختلف في الدراما التلفزيونية، فمراعاة البنية النفسية للشخصية شيء شديد الأهمية، ولكن ما يفوقه أهمية هو البطل ذاته، مون نايت، أين هو من القصة، إلى أين تتحرك شخصيته وإلى أي مدى هو صاحب قرار، فعدم التأسيس الجيّد للتكوين الخوارقي يُفقد القصة بعضًا من قيمتها كدراما تنتمي إلى نوعية الأبطال الخارقين، ولكنه يضيف قيمة مضاعفة إلى القصة داخل نوعيات أخرى.
هذا النوع من التجريب هو ما يمنح التجربة قيمتها الفعلية، يعطيها شكلًا مختلفًا ولكنها تقع بين أمرَين: إما أن تكون سردية “مون نايت” سردية ضعيفة ذات بنية قصصية هشّة، وإما أن تكون انفتاحًا على منهجيات أخرى للتعاطي مع الأبطال الخارقين، وأنا أرجّح الثانية، لأن دياب وفريق العمل كانا يشددان في محاوراتهما على التأسيس الدرامي النفسي للشخصية أكثر من متوالية الإفصاح الحركي والتتبُّع الغائر للقوة الخارقة.
انشغال صنّاع العمل بالهموم النفسية والتعرُّض للمرض النفسي كذات أساسية داخل الأحاديث، جعلتهما محورًا مركزيًّا للأحداث ذاتها، وسحبت البساط بشكل شبه كامل عن شخصية مون نايت البطل الخارق، حيث لعدة حلقات لا نعرف ماذا يستطيع هذا البطل أن يفعل، ومن أين أتى، حتى نصل إلى ذروة الانكشاف القصصي التي أُطلقت بإيقاع شديد التسارع ولم تأخذ كفايتها في السرد.
على عكس الحلقات الأربعة الأولى التي أضاعت عددًا كبيرًا من الدقائق في التعرُّض للشخصيتَين الرئيسيتَين ستيفن/ مارك، من دون اندفاع قصصي حقيقي إلا الكرّ والفرّ، دون التأسيس لدراما حقيقية تفيد أي من الجوانب.
لا أقصد أنها كانت حلقات سيّئة في ذاتها، إنما كان من الممكن استغلال الدقائق بشكل أفضل لرسم ملامح العالم والتأسيس للشخصية بشكل أفضل، لأن المسلسل يقتصرُ على 6 حلقات فقط، لا وجود لرفاهية المطّ أو تناول جوانب هامشية.
يزجُّ بنا صنّاع العمل خلال الحلقة الأولى في عالم ستيفن الهادئ، بإيقاع بطيء وتأسيس مميَّز للشخصية، ثم نُفاجأ بقفزة سردية نحو عالم مختلف بإيقاع شديد التسارُع، نتعرّف إلى المعلومات بشكل بطيء ويتفاوت الإيقاع بين الصعود والهبوط، ولكن مع الانتباه سنلاحظ أن شخصية مون نايت هي الأقل ظهورًا في المسلسل.
ربما لم يعتمد دياب وصديقاه جاستن بينسون وآرون مورهيد على إشكالية الشر الأعظم في سرديتهم، فالقصة لا تستندُ على ثنائية البطل والشرير أكثر ممّا تتبنّى الشخصية كعالم مستقلّ بذاته، وقماشة شديدة الثراء يمكن أن يخرج منها دراما ثقيلة وممتعة، لهذا يمكن أن نطلق على مسلسل “مون نايت” لقب دراما الشخصيات.
فالسردية في شكلها الأشمل كانت في حاجة إلى التكثيف والتعزيز أو منح القصة المزيد من الدقائق، خصوصًا الثلث الأخير من الحكاية، وهو الجزء الخاص بالبطل الخارق الذي لم يحدث ويأخذ وقته وتفاصيله على الشاشة بما يوازي الشخصية الذاتية والإنسانية، ليسير الاثنان بمحاذاة بعضهما.
ربما خرجَ المسلسل بهذا الشكل لأنه تأسيس لجزء ثانٍ، سيكشف فيه صنّاع العمل تفاصيل أكثر حول شخصية البطل الخارق، فلا يودّون حرق الشخصية بشكل كامل في الجزء الأول، لكي يتركوا شيئًا للمشاهدة في الثاني، ولكن الإشكالية هنا تكمن في أن المسلسل يقع داخل نوعية الأبطال الخارقين، وهو لم يقدِّم شخصيته الأساسية بالشكل المثالي، واعتمدَ على الإنساني والذاتي أكثر من شخصية البطل.
دراما الشخصيات
كما ذكرنا سابقًا، يحتوي المسلسل على شخصيات جيدة البناء ومميزة على المستوى الفردي، حملت المسلسل فوق أكتافها، والجدير بالذكر أن الممثلَين الرئيسيَّين، أوسكار آيزيك وإيثان هوك، كلاهما عملَ مع المخرج والكاتب العبقري بول شريدر في تجربتَين مختلفتَين تمامًا، “الإصلاح الأول” (First Reformed) و”عدّاد الورق” (The Card Counter)، وأعتقد أن كلا الممثلَين قد أنقذا المسلسل في لحظات كثيرة.
فأوسكار آيزيك بأداء استثنائي، يخرج عن أدواره الهادئة ووجهه الخشبي، لينتقل بمرونة بين شخصيتَي مارك وستيفن، بجانب إتقانه اللهجة البريطانية بشكل جيّد، ومحاولة التأصيل لكل شخصية بشكل نفسي مختلف وخامة صوتية متفرِّدة، والحقيقة أنه بذلَ مجهودًا هائلًا في هذا المسلسل، لأن الكاميرا تلتصق به في أغلب الحلقات.
لا يوجد تنوع في الخطوط السردية، فيما يحاولُ صنّاع المسلسل شحذ خطٍّ سردي واحد والسير عليه، ربما من أجل الوقت الضئيل، فمساحة المسلسل لا تسمح بوجود أكثر من خط سردي، لذا كان من الصعب على أي ممثل حمل مثل هذا المسلسل، الأمر أشبه بأفلام دراسة الحالة، بما تحتاجه من دراسة نفسية وتدقيقية في ملامح الشخصية وكينونتها الداخلية.
أما بالنسبة إلى المخضرم إيثان هوك، فلا غبار على أدائه، وعندما يحضر ممثل بحجم إيثان هوك في مسلسل لمارفل، يجب أن يضيفَ شيئًا ما، لأنه ليس مجرد أداء في يد المخرج -وهي وظيفة الممثل الأساسية-، فهو يتجاوز تلك المرحلة بأميال، فيما يصنع لزمات لشخصياته ويبتكر طرقًا مميزة لتقديمها بحيث تتفرّد عن باقي شخصيات العالم.
ذلك ما نراه في المشهد الافتتاحي الذي يُعتبَر من إبداع إيثان هوك في شخصية هارو بشكل كامل، فقد آثر أن يقدِّم الشخصية بشكل استثنائي بحيث لا يراه المشاهد كوغد شرير، بل كشخص يحمل آثام مجتمعه فوق كتفيه، أشبه بخطيئة يحاول التكفير عنها، وهذا يحدث خللًا في تكوين الشرير (Villain)، يخلق اضطرابًا في الشكل والنمط الرئيسيَّين للأشرار داخل عوالم الأبطال الخارقين.
نجده يظهر هنا في المنطقة الرمادية، مثل ثانوس، موسيقى بوب ديلن في الخلفية، فيما يكسر كأسًا زجاجية، ويحشو خفّه بشظايا الزجاج، ثم يرتديه، الأمر أشبه بمشية المغفرة في “لعبة العروش”، وهي تنحدر من أصول تاريخية بعيدة في العصور الوسطى، ولكن أي شرير يأمل رحمة ومغفرة المشاهد في لقطته الافتتاحية.
هذا ما يضيفه إيثان هوك، البُعد الرمزي الذي يتجاوز الخير والشر، وفي الأمر تأثُّر بفيلمه مع بول شريدر First Reformed، والحقيقة أن اختيار إيثان وآيزيك هو من أفضل الاختيارات على الإطلاق، بجانب مي القلماوي في دور ليلى.
حاول دياب كمصري أن ينقل الروح المصرية داخل المسلسل، سواء عن طريق المكاني، حيث انعكس كونه مصريًّا على الرؤية الإبداعية لمصر وحقيقتها المكانية، وحتى عن طريق الثيمة الصوتية، وهي واحدة من الموتيفات التي جعلت المسلسل يحصل على صدى هائل داخل الأوساط العربية، بما قدمه مؤلف الموسيقى المصري الرائع هشام نزيه من ملحمة موسيقية عظيمة، تتحرك في الزمان وتستجلب الماضي.
بجانب التنوع في انتقاء الموسيقى من محمد دياب، حيث وظّف الموسيقى العربية توظيفًا جيدًا داخل الأحاديث، عبر استخدامه أغانٍ مصرية مثل “بحلم معاك” لنجاة الصغير، و”بتونس بيك” لوردة، و”الملوك” لأحمد سعد وعنبة، وهذا التنوع هو ما جعل المسلسل يحظى بمكانة مختلفة، فالتكوين نفسه خضع لثقافات مختلفة، والتأثير المصري واضح في المنتج البصري، ليتحول المسلسل من عمل درامي للأبطال الخارقين إلى شيء أبعد كثيرًا من هذا.
ربما أحدث هذا التنوع والاختلاف نوعًا من التشتُّت وربما التشوه في القالب المعروف، ولكنه أضاف كثيرًا إلى النوعية ذاتها، وهذه حقيقة لا يمكن إغفالها، في النهاية تبدو شخصية البطل مقتطَعة ومبتورة من السياق، هناك شيء ناقص في البناء والهيكلة القصصية، نتمنّى أن نرى جزءًا ثانيًا أقوى من الأول، ولكن الأول ليس سيّئًا على الإطلاق.