لم يكن فجر 16 مايو/أيار 2021 عاديًا لسكان شارع الوحدة، هذه الليلة دونت في التاريخ لتوثق واقعًا مريرًا أعاد مشاهد نكبة 1948 لمن عاش تفاصيلها آنذاك أو حفظها من الآباء والأجداد ولم يتخيل وحشية الاحتلال الاسرائيلي حتى عايش الحكاية مرة أخرى.
ماذا جرى؟
حين اشتعلت الأحداث في معركة سيف القدس، أمِن أهالي شارع الوحدة على حياتهم حتى تدافع الكثير من السكان الذين يقطنون المناطق الحدودية اللجوء إلى بيوت تترامي على جنبات الشارع، فكما جرت العادة وقت التصعيد يحدث في الشارع إما عملية اغتيال لقائد في المقاومة بواسطة صاروخ وإما لا شيء.
هذه الليلة كانت مختلفة، فقد مسحت أربع عائلات “اشكنتنا وأبو العوف والكولك والإفرنجي” من السجل المدني خلال دقائق قليلة، عندما نسفت الطائرات الحربية الإسرائيلية بيوتهم فوق رؤوسهم، فنجا من نجا وارتقى 46 شهيدًا دون ذنب، بذريعة وجود “مترو غزة” – شبكة الأنفاق التابعة لحركة حماس – تحت تلك البيوت.
هلع أصاب سكان الشارع الذي يبلغ طوله 3300 متر تقريبًا، خرجوا من بيوتهم وملامح المنطقة من بيوت ومحال تجارية أبيدت بشكل كامل، حتى الذين حاولوا الفرار من بيوتهم بعد تمكنهم من قطع الشارع الذي طُمست معالمه كانت وجوههم تشبه تلك التي التقطت للمهجرين من القرى والبلدات المحتلة.
كل ركن في قطاع غزة يروي حكاية مكان عتيق تمامًا كما شارع الوحدة الذي يحمل قصصًا تراثية، بدءًا من بسبب تسميته، وصولًا إلى الشوارع التي يصلها حيث عز الدين القسام غربًا وصلاح الدين شرقًا والنصر شمالًا وعمر المختار جنوبًا ويقطعه الجلاء.
أصل الحكاية كانت مع بداية القومية العربية على يد جماعة الناصريين وبداية التفكير في نضوج الوحدة العربية ما بين سوريا ومصر 1958-1961م، وكانت أول وحدة عربية بعد زوال الاستعمار عن المنطقة العربية، وغزة تفاءلت بالإعلان رسميًا عن تلك الاتفاقية فأطلقت على أحد شوارعها اسم “الوحدة”، الذي لا يزال شامخًا يمثل جسد ومنطق الوحدة العربية التي بقيت راسخة على أرض القطاع المحاصر.
شهداء الوحدة ليسوا أرقامًا
حالة شارع الوحدة ورمزيته لم ترق للاحتلال، فأراد مسحه وجعله ذكرى قاسية للغزيين، حين بدأ بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات فيه على مدار عقود سابقة، لكن في معركة سيف القدس الأخيرة بات موحشًا أكثر كأنك تدخل إلى مقبرة، فبدلًا من أن يوصلك إلى شارع النصر بخطوات متسارعة بات المضي فيه متثاقلًا.
وبعد أن كان شارع الوحدة يمثل شريان حياة الغزيين للوصول حيث شاءوا، بات كئيبًا تكسوه الرمال السوداء التي اختلطت بمخلفات الصواريخ، عدا عن البيوت التي طُمرت تحت الأنقاض، وما تبقى من مبانٍ تسرد جدرانها المخزقة بالرصاص والشظايا حكاية وجع عاشها سكان منطقة طيلة 11 يومًا.
لم يكن استهداف طائرات الاحتلال الإسرائيلي لشارع الوحدة عبثًا، فقد كانوا يدركون أهميته ومكانته، فهو مركز المدينة الذي يضم المتاجر والمطاعم وعددًا من الوزارات والعيادات والمدارس، تأثر غالبيتها خلال معركة سيف القدس، وطمرت عدد من البيوت الأثرية تحت الركام، ربما سينقب عنها بعد عشرات السنين كمعلم حضاري شاهد على مجزرة المحتل ضد المدنيين.
بعدما دقت عقارب الساعة الواحدة منتصف الليل، استحضرت زينب الكولك ما جرى مع عائلتها وكيف خرجت من تحت الأنقاض، عبر منشور على صفحتها على فيسبوك تحكي فيه جزءًا من الحكاية بلهجتها العامية الغزاوية: “كيف لازم أحكي لكم عن عمارة بأكملها تصرخ وتستغيث، حتى حجارة البيت تبكي (..) أشرح لكم الدقائق التي تسبق قصف البيت وكيف كنا نجري على الدرج والأرض بتزلزل من تحتنا! ولا أحكيلكم كيف بكون شكل البناية وهي ترجف خوفًا هي الأخرى؟”.
وتابعت: “أو أحكي لكم إيش يعني تفكر حالك في مكان آمن وفجأة بثواني تكون بتصارع الموت، أنت وكل عيلتك؟ أو ممكن أحكيلكم عن شكل الحيطة اللي تشققت قدام عيني، لازم أحكيلكم عن الأرض اللي بلعتني أنا وعيلتي!”، وأكملت “اللي كان قاهر قلبي أنه ولا واحد رنيت له وأنا تحت الأنقاض صدقني من المرة الأولى (..) كنت مضطرة أعيد وأكرر وأنا نَفَسي مقطوع العمارة كلها منهارة فوقي ونموت”.
وذكرت أنها الذكرى السنوية لاستشهاد “أمل وطاهر وأحمد وهناء وأمين وسعدية وبهاء وختام وفواز وريهام وعبد الحميد وسامح وآيات وقصي وعزت ودعاء وزيد وآدم ومحمد وحلا ورولا ويارا”، وأنهم ليسوا مجرد عدد وترحمت على عائلتها وشهداء شارع الوحدة.
عاش النكبة مرتين
كل ما في شارع الوحدة اليوم مثير للاهتمام، كما الحاج هاشم عبد الواحد – 87 عامًا – الذي يجلس على باب بيته الصامد رغم شظايا الصواريخ التي أحدثت ثقوبًا في جدرانه، طيلة الوقت يراقب المارين دون أن يتفوه بكلمة إلا رد السلام إن أراد.
الحاج عبد الواحد هو لاجئ من مدينة يافا، لم تعد ذاكرته تسعفه ليتعرف على الوجوه سوى المقربين منه، لذا أصبح قليل الكلام، لكن حين تحكي له عن بلدته التي هجر وعائلته منها وما جرى العام الماضي يقول “نكبتنا نكبتين”.
وعند سؤاله عن ذكرياته في شارع الوحدة الذي يسكنه لف ساقه على الأخرى وهز رأسه وسكت قليلًا دون إجابة، وبعدها رد: “كل حياتي هنا”، ثم راح يراقب جرافات البلدية وهي تطمر رقعة من الشارع لتغلق الحفر التي بقيت بفعل الصواريخ.
يقول ابنه الكبير لـ”نون بوست” إن والده من بعد مجزرة شارع الوحدة تبدل حاله، وبقي يلتزم الصمت أكثر، فهذا الشارع الذي يعيش فيه منذ عقود طويلة يحمل ذكرياته كلها وكان يحفظ تفاصيله وأسماء العائلات التي سكنته (..) هنا حمل ابنه وهناك جلس مع أصدقائه، وفي تلك الزاوية حطت عائلته رحالها عندما هجرت”.
ويتابع “مشاهد القصف خلال مجزرة شارع الوحدة وفرار العائلة من بيتها أعادت لوالدي ذاكرته التي بدأت تتلاشي منذ ثلاث سنوات (..) ظن أبي حين قررنا الخروج من البيت أننا سنعود إلى يافا وقال ونحن نجهزه: وين راجعين على البلاد”.
فمشاهد الدمار والنيران وصوت القذائف الحربية أعادت للرجل الثمانيني أحداثًا عاشها وقت كان طفلًا يبلغ الثالثة عشر من عمره، فكل شيء مسح من ذاكرته ما عدا النكبتين اللتين عاش تفاصيلهما مرة وهو صغير والثانية وهو كهل.
حرب ضد التاريخ الفلسطيني
وقوفًا عند أهمية شارع الوحدة يقول المؤرخ الفلسطيني غسان وشاح رئيس قسم الآثار والتاريخ في الجامعة الإسلامية، إنه يعد أكثر شوارع قطاع غزة حيوية، فهو يخترق قلب المدينة وتنتشر على جانبيه المحال التجارية القديمة المهمة وحركة المارة فيه كثيفة.
وذكر وشاح أن شارع الوحدة غالبية سكانه من ميسوري الحال يعملون في مهن مختلفة ولا يتدخلون في أعمال المقاومة بشكل مباشر كما يبرر الاحتلال لقصفه البيوت المدنية، لافتًا إلى أن الشارع بمكوناته شهد جريمة حرب متكاملة الأركان حيث الصواريخ والقنابل التي انهالت فوق رؤوس المدنيين، فانهارت البيوت والعمارات السكنية القديمة كأنها أكواخ قش تشتعل فيها النيران.
ويوضح لـ”نون بوست” أنه وفق دراسة أعدها، فإن ثلثي الذين أصيبوا في ليلة 16 مايو/أيار في شارع الوحدة من النساء والأطفال، ويرى أن الهدف من تدمير شارع الوحدة بأطنان من المتفجرات التي نزلت عليه خلال دقائق معدودة هو ضرب الحياة الاقتصادية وإخضاع الشعب الغزي، فقد ردد الناجون حينها “نستغرب أننا على قيد الحياة”.
ويشير إلى أنه وفق المادة 25 من لائحة لاهاي المتعلقة بقوانين الحرب الدولية فإن الاعتداء على الممتلكات الخاصة وقت الحرب محظور ويعد جريمة، بالإضافة إلى أن المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة جاء فيها “يحظر على دولة الاحتلال تدمير الممتلكات الخاصة بالمواطنين”، كما تنص المادة 147 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن “تدمير ممتلكات المواطنين يعد جريمة حرب”.
وبحسب قول المؤرخ الفلسطيني فإن ما جرى في شارع الوحدة أعاد مشاهد النكبة التي عاشها الفلسطيني عام 1948 حين هجر من أرضه وبيته قسرًا تحت إطلاق النار، مشيرًا إلى أن أهالي الشارع من اللاجئين تذكروا العصابات الصهيونية التي أحرقت حقولهم وممتلكاتهم وقتلت أطفالهم وطردتهم قسرًا تحت النار تمامًا كما حدث في ليلتهم التي عاشوها خلال معركة سيف القدس.
وتطرق إلى زاوية أخرى يعمل عليها الاحتلال وهي تدمير الآثار الفلسطينية، موضحًا أن شارع الوحدة فيه الكثير من البيوت والمحال التجارية التي تحكي قصة تاريخ من سكنها، ففي كل عدوان على قطاع غزة يرتكب الاحتلال ذات الجريمة كما حدث عام 2014 حين كان استهدافه واضحًا للبيوت والمساجد القديمة.
ويشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يدمر كل ما هو أثري ويتحدث عن عروبة فلسطين وكنعانية الأرض، ويعمل على محو تراثها وتاريخها وكل ما ينطق أنه فلسطيني، مؤكدًا أن المعركة ليست سياسية بقدر ما هي حرب ضد الثقافة والرواية والتاريخ.
ولم تعد مخططات شارع الوحدة كما هي رغم محاولات بلدية غزة إصلاح ما دمرته الصواريخ، ففي حال فكرت الاستدارة يسارًا ستجد الخراب، ولو تراجعت بضعة كيلومترات إلى الشرق سيستقبلك صلاح الدين بركامه، فالشارع الذي حمل معنى اسمه فرقت طائرات الاحتلال بعض العائلات فيه وشتت شملها إما بالرحيل عن المنطقة وإما بالقتل.