تجري تونس اليوم انتخاباتها الرئاسية الأولى منذ هروب بن علي، قد يبدو هذا غريبًا بعض الشيء إذ استطاعت مصر أن تضغط ثلاثة استفتاءات دستورية وانتخابات على نصفي البرلمان وانتخاب رئيسين وانقلاب في فترة أقل من مرحلة تونس الانتقالية، إلا أن هذه قضية أخرى يستوجب الحديث عنها التفرغ والكثير من الدموع، وإذ نرى تونس اليوم وقد تكالبت على وحدتها المطامع والاغتيالات والشكوك؛ يجب علينا أن نتساءل عن نتيجة انتهاء الانتخابات بفوز السبسي وما سيترتب عليها.
“الباجي قائد السبسي” الشخصية التنويرية كما يمكن للقاموس أن يعرفها، يعود نسبه المباشر للبايات الحسينيين؛ وجده الأول هو الباي إسماعيل قائد السبسي المملوك الذي حكم جزيرة سردينيا إذ كانت تحت سيطرة تونس لوهلة قصيرة في بداية القرن التاسع عشر، تعلم القانون في جامعة باريس وكانت أولى قضاياه في تونس هي الدفاع عن الحزب الدستوري الجديد الذي طالب بحكم دستوري تحت الاستعمار الفرنسي، وعمل مستشارًا للحبيب بورقيبة من عام 1957 حتى 1971، واستمر في العمل مع نظام بن علي الذي استلم الراية من بورقيبة العجوز ما بين وزير للخارجية وسفير ببرلين ورئيس لمجلس النواب، وكانت آخر جهوده السياسية هي تأسيس حزب “نداء تونس” الذي تغلب على النهضة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وليترشح على رأسه لرئاسة الجمهورية.
من الملفت للنظر كيف أن نخبًا عدد أفرادها لا يعدو المئات استطاعت التحكم في سياسات عدد من الدول العربية منذ استقلالها، بل وكيف أن أفراد هذه النخب بأعمارهم التي تقارب المائة عام هم أحد المشكلين الرئيسيين لمستقبل شعوب أكثر من نصفها تحت الثلاثين أو تحت خط الفقر، من الممكن تتبع أصول الأدوار التي يقوم بها السبسي أو نظيره كمال الجنزوري في مصر وغيرهم من رجال كل العصور إلى شيئين ذوي محورية في التاريخ العربي: المماليك والاستعمار.
قبل وصول الدولة العثمانية للسيطرة على شمال أفريقيا مع عصر السلطان سليم الأول؛ كانت المجموعة المضطلعة بالإدارة السياسية للدول المختلفة (المملوكية في مصر وليبيا والحفصية في تونس) هي المماليك، مجموعة من المقاتلين الذين تم استئصالهم من أسرهم الأصلية في القوقاز وأسيا الوسطى وتم تدريبهم للتحول إلى أفضل آلة قتل في العالم، كان المقاتلون المماليك هم القوى الضاربة لملوك المنطقة وترتب على ذلك أن تم اختصاصهم بقدر ضخم للغاية من الامتيازات السياسية والاقتصادية، أهم ما يعنينا من صفات المماليك هو كونهم طبقة تحتكر استخدام العنف نيابة عن الدولة، وفي ذات الوقت هي طبقة تختلف تمامًا من الناحية العرقية والثقافية عن الشعوب الأصلية لمناطق تواجدهم.
مع سيطرة الدولة العثمانية على المنطقة أدركت أهمية هذه الطبقة ولم تحاول استئصالها لكونها منازع لها في سلطتها، بل قامت بالاستفادة من قدراتهم العسكرية وخبراتهم الطويلة في التعامل مع الشعوب الأصلية وحولتها إلى جماعة وسيطة، وعلى مرور الزمن أثبت هذا الأسلوب نجاحه وتبناه أغلب حكام المنطقة حتى وإن حدث وقاموا بتغيير أعضاء الطبقات (كما حدث في حالة ذبح محمد علي للمماليك في مصر واستبدالهم بنخبة متعلمة في الخارج)، وكان اقتيات الدول الاستعمارية على أراضي الدولة العثمانية تدريجيًا بداية تحول الوضع إلى ما هو عليه حاليًا؛ فبالوصول إلى هذه المرحلة كانت الشعوب المحلية قد قضت فترة طويلة تحت سيطرة وتحكم جماعات لا تنتمي لها بشكل مباشر نيابة عن قوة أخرى، وكان استبدال الاستعمار للمماليك (أو رجال البايات) بالنخب الفرانكفونية في تونس أو الأنجلوساكسونية في مصر ضمانًا لشكل السياسات الداخلية والخارجية لهذه الدول حتى اليوم.
كان الصف الأول لرجال السياسة في الدول الجديدة التي نشأت بعد تفتت الدولة العثمانية إما ممن عملوا في جيوش المستعمر أو درسوا في جامعاته، وجدير بالذكر أن كلاً من الحبيب بورقيبة والسبسي من خريجي جامعة باريس، وأن كلاً من جمال عبد الناصر وأنور السادات من تلامذة الكلية الحربية البريطانية بالقاهرة، ومن الواضح أن عملية التدريب والتعليم هذه تشكل رؤية هؤلاء الأفراد لواقعهم ومجتمعهم وما يطمحون إلى الوصول إليه.
يبدأ هؤلاء الأفراد في تشكيل الواقع الثقافي للمجتمعات التي وضعت تحت رحمتهم وفقًا لتصور زائف وإجابات غير واقعية لسؤال الهوية، ويحدث هذا نتيجة لخليط من الآمال التي زرعتها بهم عملية التعليم الاستعمارية وانعزالهم من الأساس عن المجتمعات البعيدة عن مراكز وعواصم دولهم؛ وبالتالي يصبح فقراء الجنوب التونسي ممن ارتأوا التصويت للنهضة على سبيل المثال ظاهرة غير مفهومة تمامًا بالنسبة لهؤلاء، اللهم إلا في صورة المتخلفين السذج الساقطين في ظلام الدين؛ وبالتالي تصبح تلك الهوية المتخيلة التي رسمتها النخب الفرانكفونية بسيطرتها على التعليم والإعلام والسياسة هي المعيار، ويصبح تأزم أهل الجنوب منها وعدم تقبلهم لها شيئًا غير مفهومًا بالمرة ولا يمكن تفسير نزعاتهم الانتخابية به أبدًا.
ونتيجة لهذا يمكن أن نرى صراع القوى الدولية والإقليمية حول من يفوز بالانتخابات التونسية من منظور جديد، فوفقًا لعدد من التقارير – التي قام نون بوست بنشرها بالفعل – قامت السعودية بإخبار أحد المسئولين التونسيين أن اجتثاث حركة النهضة كم تونس بشكل كامل هو شرط السعودية الرئيس لدعم تونس، بينما على صعيد آخر أعلنت كلاً من المملكة المتحدة والولايات المتحدة أن أي محاولة لحظر حركة النهضة أو تهميش أي من القوى السياسية لن تكون مقبولة، يصبح من الواضح تمامًا أن كل ما تقوم به المملكة السعودية والإمارات في المنطقة لا يعدو أن يكون حرب شعناء على كل من يرغب في مشاركتهم في وكالتهم المحلية للاستعمار، وخصوصًا الإسلاميين، وأن في خلفية كل ذلك يبقى المواطنون ممن يقعون بعيدًا عن هذه النخب والوكالات وصورها عن الوطن غير ممثلين، بل وغير موجودين من الأساس في تصور الدول لأنفسها.
ومن الجدير بالذكر أن دفاع القوى الاستعمارية عن تمثيل القوى الإسلامية في الحالة التونسية ذو دلالة عظيمة فيما يخص أصالة هذه القوى (وأنا أتكلم عن حركة النهضة وما تنطلق منه من نقاط بالتشارك مع الإخوان المسلمين تحديدًا)، ففي نهاية الأمر أي نظرة إلى هذه الكيانات خارج إطار كونها ردة فعل للواقع الاستعماري هي نظرة قاصرة، فهذه الكيانات وجدت أرضها الخصبة في الاستعمار وارتأت أن أدواته هي أفضل سبل محاربته (ياللعجب!)؛ وبذلك تصبح قدرة هذه الكيانات مع التعامل مع الواقع خارج الثقافات والمجتمعات القومية المتخيلة محدودة للغاية، بل ومن الممكن أن نقول أنها تنطلق منها ابتداءً.
وبينما ننتظر نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية فقد يكون من الحكمة التساؤل عن مدى فرق فوز أي من المرشحين على واقع ملح الأرض من التونسيين خارج تونس العاصمة، ففي حالة فوز السبسي المنتظر فسيكون من السذاجة انتظار تغيير من الكوادر التي أسست الجمهورية التونسية الحالية بكل مشاكلها، أما في حالة فوز المرزوقي المدعوم من النهضة، فلأي مدى ننتظر التغيير من تحالف اعتمد وجوده بالأساس على وجود ضده، أي تحالف يفقد قيمته وتميزه بالأساس عند غياب خصومه.