ترجمة حفصة جودة
منذ أن غزت روسيا أوكرانيا، تغير المشهد الأمني في أوروبا بشكل سريع، فقد ارتفع الإنفاق الدفاعي في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، وعُزز جوهر الناتو ولم تعد روسيا فقط الدولة الأكثر خضوعًا لعقوبات في العالم، بل أصبحت منبوذة أيضًا.
بالنسبة للعديد من الدول الأوروبية – عدا المجر وصربيا – فاتخاذ جانب كان أمرًا سهلًا دون قيود، ومع ذلك تواجه تركيا موقفًا متزعزعًا، ويزيد الموقف تعقيدًا موقعها الجغرافي وروابطها التجارية والعسكرية وفي مجال الطاقة مع كل من روسيا وأوكرانيا.
حتى الآن، كانت تركيا متقاربة مع حلفائها في الناتو في دعم أوكرانيا، فبغض النظر عن تزويدها أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة، أغلقت تركيا مضيق البوسفور أمام السفن العسكرية الروسية وأغلقت مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المتجهة إلى سوريا.
ومع ذلك، امتنعت تركيا عن فرض عقوبات على روسيا، مبدأيًا لأن هذه العقوبات لم تفرضها الأمم المتحدة، وهكذا تحظى تركيا باحترام الجانبين، فتركيا الدولة الوحيدة التي أمّنت اجتماعًا وجهًا لوجه بين وزيري خارجية أوكرانيا وروسيا منذ بداية الحرب، واستضافت جولة من المفاوضات بين الوفدين الروسي والأوكراني.
لكن دون قصد، إغلاق تركيا للبوسفور وضع الخطط الجغرافية السياسية لروسيا في البحر المتوسط تحت ضغط كبير، فأسطولها في البحر الأسود بمدينة سيفاستوبول هو المسؤول عن تعزيز قواتها وحلفائها في سوريا وليبيا.
تعد روسيا أيضًا مصدرًا كبيرًا للسياح في تركيا وبالتالي العملة الصعبة، فقد زار 4.7 مليون سائح البلاد بما يمثل 19% من مجمل زوارها في 2021
لأنقرة مصالح اقتصادية وأمنية وجغرافية سياسية واضحة في الصراع الحاليّ، لكنها حريصة ألا تقطع جسور التواصل مع روسيا وينتهي بها الأمر في مشكلة اقتصادية، في البداية؛ تمثل روسيا شريكًا تجاريًا مهمًا، فهي توفر 45% من احتياجات الغاز الطبيعي و17% من احتياجات النفط، كما توفر 70% من حاجة تركيا للقمح الذي يمثل أولوية كبيرة في ظل ارتفاع أسعار الخبز.
تعد روسيا أيضًا مصدرًا كبيرًا للسياح في تركيا وبالتالي العملة الصعبة، فقد زار 4.7 مليون سائح البلاد بما يمثل 19% من مجمل زوارها في 2021، كما تبني مؤسسة الطاقة النووية الروسية “ROSATOM” أول محطة للطاقة النووية في تركيا التي من المفترض أن تبدأ عملها في 2023.
لا يمكن لتركيا أن تتحمل خسارة هذا الشريك المهم في الوقت الذي فقدت فيه الليرة التركية 47% من قيمتها في أقل من عام مع ارتفاع التضخم لأعلى مستوى له منذ 20 عامًا، ورغم أن العلاقة التركية الروسية متذبذبة منذ إسقاط تركيا للطائرة الروسية عام 2015، فإن محاولة الانقلاب في يوليو/تموز 2016 قرّبت بين القائدين، فبينما وقف الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما ونظراؤه الأوروبيون على الحياد، اتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الفور وقدم له كل ما يحتاج من دعم.
لكن أوكرانيا لا تقل أهمية بالنسبة لتركيا، فقد ندد الرئيس التركي أردوغان بضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، كما أيد بقوة تتار القرم الذين عانوا بشدة تحت الحكم الروسي.
ازدادت العلاقات التجارية والاستثمار بين البلدين، ففي 2021 كانت تركيا أكبر مستثمر أجنبي في أوكرانيا، فوصل حجم الاستثمار لما يقرب من 4.5 مليار دولار حيث تعمل أكثر من 700 شركة تركية في أوكرانيا.
بسبب العلاقة المتوترة لتركيا مع شركائها في الناتو، فإنها تراهن على زيادة التعاون التقني العسكري مع أوكرانيا
ورغم أن المسؤولين الأتراك رفضوا الإفصاح عن تفاصيل مبيعات الطائرات دون طيار لأوكرانيا، فإن التقديرات المستقلة تقول إن أوكرانيا اشترت ما بين 20 و50 طائرة تركية عسكرية دون طيار طراز “Bayraktar TB2“، بالإضافة إلى سفن حربية من طراز “MILGEM Ada“.
بالنسبة لتركيا، تمثل أوكرانيا مكانًا لاختبار المنتجات العسكرية في معركة حقيقية، بما يرفع أسعارها بشكل بارز ويحسن سمعتها في الأسواق العالمية، وبسبب العلاقة المتوترة لتركيا مع شركائها في الناتو، فإنها تراهن على زيادة التعاون التقني العسكري مع أوكرانيا.
في العام الماضي على سبيل المثال وافقت شركة “Motor Sich” على تزويد شركة الدفاع التركية “Baykar” بـ30 محرك توربيني لاستخدامه في طائرات “Akinci” الهجومية دون طيار عالية الارتفاع، مثل هذا التعاون الذي يستخدم محركات أوكرانية موثوقة وتقنية تركية متقدمة، يرفع تركيا نحو طبقة عالية في سوق الدفاع العالمي.
لكن الدعم التركي لأوكرانيا أثار حالة غضب في موسكو، ففي مارس/آذار 2021، توعد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قائلًا: “نوصي بقوة أن يحلل زملاؤنا الأتراك الموقف بحرص ويمتنعوا عن دعم العاطفة العسكرية في كييف.”
ظهرت روسيا كقوة موازنة لأنقرة عندما بدأ الانفصال الإستراتيجي مع واشنطن عام 2014 بعد دعم واشنطن للمتمردين الأكراد الماركسيين، وكقوة وسطى صاعدة على حدود البلقان والبحر المتوسط والشرق الأوسط والقوقاز، سعت تركيا لسياسة خارجية متعددة الجوانب تتعارض غالبًا مع حلفائها في الناتو.
على المستوى الدولي فإن روسيا ذات قيمة إستراتيجية جغرافية لتركيا أكثر من أوكرانيا
والآن مع الحرب في أوكرانيا، سعى أردوغان – مثل سلفه في الحرب العالمية الثانية عصمت إينونو – إلى إبقاء تركيا خارج الصراع مع زيادة حيز المناورة وتصميم إطار لإستراتيجية مستقلة في بلاده.
ومع ذلك فإن الغزو الروسي لأوكرانيا وموقفها الصعب في شرق أوروبا والبحر الأسود يحفز ردًا مذهلًا للناتو، يقول شعبان كارداش: “لقد كُشف الغموض الإستراتيجي لخطط موسكو، والتحدي الرئيسي الآن للاستقلال الإستراتيجي التركي يكمن في ابتكار طرق للتعايش مع روسيا الجديدة”.
يحتل البحر الأسود مكانة روحية مهمة في البلاد حيث سُمي من قبل البحيرة العثمانية عندما كان خاضعًا لسيطرة الإمبراطورية العثمانية، لكن الجغرافيا السياسية وتوزان القوى في شرق أوروبا ومنطقة البحر الأسود تغيرت بشكل أساسي، هذا يعني أن التحدي الرئيسي الآن الذي يواجه الاستقلال الإستراتيجي لتركيا سيكون ابتكار طرق للتعايش مع روسيا المحاربة والحاسمة التي ترى أن البحر الأسود نقطة وصولها إلى منطقة البحر المتوسط حيث تنامى دورها هناك بشكل بارز في السنوات الأخيرة.
أبدت تركيا اهتمامًا شديدًا بالتعاون مع كييف في سياسات إقليمية فرعية للموازنة أمام روسيا في مجالات مثل الردع البحري والأمن الغذائي والتعاون العسكري والطاقة، ومع ذلك تدرك تركيا أيضًا أنه على المستوى الدولي فإن روسيا ذات قيمة إستراتيجية جغرافية لتركيا أكثر من أوكرانيا.
وكما رأينا في حالتي سوريا والعراق فإن تركيا تعاني كثيرًا من انعدام استقرار جيرانها، وهكذا فإن الحفاظ على علاقات بناءة مع قوة عظمى متدهورة في فترة متقلبة يمثل تحديًا عظيمًا، لكنه الطريق الوحيد القابل للتطبيق، ستواصل تركيا على الأغلب نحو سياسية خارجية براغماتية ليست موالية لروسيا ولا لأوكرانيا، لكنها موالية لتركيا تمامًا.
المصدر: ناشونال إنترست