ما إن مضت ساعات قليلة على رفض المحكمة الاتحادية لمشروع قانون الأمن الغذائي بحجّة عدم دستوريته، ما اعتبر ضربة موجهة للتحالف الثلاثي الذي يقوده زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وأحد أبرز داعمي هذا القانون؛ حتى خرج الصدر عن صمته معتبرًا ألّا خيار بقيَ أمامه سوى الذهاب نحو المعارضة الوطنية.
ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل خرج بخطاب متلفز موجِّهًا انتقادات لاذعة لأطراف وقوى الإطار التنسيقي، متّهمًا إياهم بالوقوف خلف قرار المحكمة، وأنهم أصبحوا جزءًا من حالة التعطيل التي تمسُّ حياة المواطن، وليس فقط جهود التحالف الثلاثي في تشكيل الكتلة الأكبر.
الصدر بخطابه الأخير رفع سقف المواجهة مع قوى الإطار التنسيقي، خصوصًا أنه لوّح ضمنًا بإمكانية النزول إلى الشارع واستخدام القوة المسلحة إذا ما اقتضى الأمر، فمّما لا شكّ فيه أن قوى الإطار التنسيقي تبدو في وضع سياسي منضبط لا يستطيع الصدر تجاوزه.
كما أن المستقلين أيضًا لم يتمكّنوا من بلورة مشروع سياسي واضح يمكن من خلاله فكّ عقدة الانسداد السياسي، بل أن فشلهم في بلورة هذا المشروع هو ما أعاد الحديث مرة أخرى حول مفهوم الاستقلالية، وهل هي حاضرة داخل العملية السياسية، أم أنها مجرد شعار سياسي تمَّ توظيفه من أجل الحصول على الأصوات؟
إذا ما خرجت الأمور عن نطاق السيطرة، فإن المرجعية الشيعية في النجف قد تجدُ نفسها مجبرة على التدخل في اللحظات الأخيرة
إن دعوة الصدر لقيادات سرايا السلام لاجتماع في النجف من أجل بحث تطورات المرحلة المقبلة، يشير إلى أنه بدأ يستحضر خيار المواجهة مع الفصائل المسلحة المنضوية ضمن الإطار التنسيقي، وما يوضِّح ذلك الموقفُ الذي صدرَ عن قائد كتائب الإمام، علي شبل الزيدي، الذي حمل النبرة التصعيدية ذاتها، فضلًا عن تصريحات المتحدث الأمني باسم كتائب حزب الله، أبو علي العسكري.
ورغم أن سيناريو الصدام الشيعي – الشيعي بدأ يجدُ أرضية مناسبة للتطبيق، إلا أنه يمكن القول إن هناك ضوابط عديدة قد تحول دون ذلك، خصوصًا أن الأمور إذا ما خرجت عن نطاق السيطرة، فإن المرجعية الشيعية في النجف قد تجدُ نفسها مجبرة على التدخل في اللحظات الأخيرة، كما فعلت في مناسبات سابقة.
الشعبوية الصدرية
بات واضحًا أن الصدر أخذ يؤسِّس لشعبوية جديدة في الحالة العراقية، عبر المزج ما بين السياسي والاجتماعي في خطاباته، من خلال الربط بين سلوكيات قوى الإطار التنسيقي والمظالم الاجتماعية التي يعاني منها المواطن العراقي.
ففي خطابه تحدّث الصدر عن قوى الإطار التنسيقي، بقوله: “إنهم يستهدفون الشعب ويريدون تركيعه، والأعجب من ذلك مسايرة القضاء لأفعال الثلث المعطل المشينة من حيث يعلم أو لا يعلم”، مشيرًا إلى أن “السلطة أعمت أعينهم عمّا يعانيه الشعب من ثقل وخوف ونقص في الأموال والأنفس وتسلُّط الميليشيات والتبعية ومخاوف التطبيع والأوبئة”.
كما أضاف أن “الشعب يعاني من الفقر، فلا حكومة أغلبية جديدة قد تنفعه ولا حكومة حالية تستطيع خدمته ونفعه”، متسائلًا: “هل وصلت الوقاحة إلى درجة تعطيل القوانين التي تنفع الشعب؟”، في إشارة إلى قرار القضاء بإلغاء قانون الأمن الغذائي.
إن الزخم السياسي الذي يحاول الصدر تحقيقه عبر نبرة التصعيد الأخيرة، وكأنها تمثِّل محاولة الهروب للأمام، هو خطوة قد تمثل حالة متأرجحة ما بين الاستعداد إما للمواجهة المسلحة وإما الانتخابات المبكرة.
كما أن رؤيته هذه قد تكون مبنية على أساس النتائج التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية اللبنانية، والهزيمة التي لحقت بحزب الله والقوى الحليفة لإيران، ورغم أنها مقاربة بعيدة، إلا أنها قد تفرض إيقاعها على المشهد السياسي العراقي، لتشابه الظروف والتحديات التي تواجه البلدَين، خصوصًا أن حلفاء إيران هم أكثر المتسبِّبين فيها.
يدرك الصدر أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يمرُّ بها المواطن العراقي اليوم، تأتي في مجملها بسبب تأخير إقرار الموازنة العامة، فضلًا عن تعطيل مشروع قانون الأمن الغذائي، ومن ثم هو يحاول اليوم تحميل الثلث المعطِّل الذي تمثله قوى الإطار التنسيقي مسؤولية ذلك.
كما أنه يدرك تمامًا أن المزاجية الشعبية بدأت تحمل نظرة سلبية لسلوكيات قوى الإطار التنسيقي، خصوصًا في الشارع الشيعي، الذي يحمّلها أيضًا مسؤولية عودة بعض القيادات السنّية الرافض لها، وعلى هذا الأساس تأتي خطوات الصدر وكأنها توجُّه استراتيجي يستهدف عزل قوى الإطار التنسيقي تمامًا عن المشهد السياسي، وهو ما عبّر عنه صراحة عندما قال: “لن أتحالف معكم”.
إين تقف إيران من هذه المعادلة؟
بدأت بعض المواقع المقرَّبة من الحرس الثوري الإيراني تتحدث عن إمكانية أن يذهب قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد خلال الفترة المقبلة، من أجل الوقوف على مستجدات الأوضاع السياسية من جهة، ومحاولة ضبط ردود أفعال قادة الفصائل المسلحة على خطاب الصدر من جهة أخرى، فإيران تريد الحفاظ على هامش هشّ من التوافق الشيعي – الشيعي دون أن تنزلق الأمور إلى الصدام المسلح.
الأسئلة الأهم التي تطرح نفسها الآن هي: ماذا لو فشلت المهمة الإيرانية التي سيقودها قاآني في العراق؟ وكيف ستتفاعل إيران مع سيناريو الفشل؟ وهل ستكون هناك خيارات بديلة يمكن التعويل عليها؟
خطوة الصدر تمثِّل مناورةً سياسيةً لا تختلف كثيرًا عن مناوراته السابقة
إن الحديث عن مستقبل المشهد السياسي في مرحلة ما بعد زيارة قاآني سيكون أمام امتحان صعب للغاية، فتنازُل الصدر عن الأغلبية الوطنية سيضع العرب والكرد أمام حرج كبير، كما سيضعه هو الآخر أمام تحدي البقاء في المرحلة المقبلة كفاعل سياسي، وإيران هي الأخرى لن تقبل بمزيد من الإخفاقات في الداخل العراقي، أو حتى في إمكانية أن يذهب حلفاؤها نحو خيار المواجهة المسلحة، وبين هاتين المعادلتَين ما زال الرأي العام العراقي بانتظار انفراج الانسداد السياسي الحالي.
ممّا لا شكّ فيه أن خطوة الصدر الأخيرة ستعقّد المشهد السياسي، وستعيد الحديث مرة أخرى عن مآلات الحراك السياسي خلال الفترة المقبلة، فهو على ما يبدو يدرك جيدًا أين يكمن الممكن، ويدرك أيضًا أن الحالة التوافقية ستُفشل مشروعه السياسي الطامح لتشكيل ملامح جمهورية جديدة عنوانها “مقتدى الصدر”، جمهورية يخضع فيها السلاح والدولة والاقتصاد لرؤيته السياسية، وألّا يكونوا استمرارًا للتأثير الذي تمارسه قوى السلاح أو النفوذ الإقليمي، ولعلَّ هذا ما يشير إلى حجم الخلاف الحالي بين الصدر ومعارضيه.
وفضلًا عمّا تقدم، فإن خطوة الصدر تمثِّل مناورةً سياسيةً لا تختلف كثيرًا عن مناوراته السابقة، خصوصًا أنه أصبح متمرِّسًا على ممارسة الضغط العالي، مستندًا في ذلك على القاعدة الشعبية التي يمتلكها والشرعية الانتخابية التي يحظى بها، والقوة المسلحة التي تقفُ خلفه.