ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد أسبوع من قرار فلاديمير بوتين فيما يتعلق بإرسال قوات إلى أوكرانيا، امتلأت الصحف الغربية بالتحليلات حول العقوبات الاقتصادية التي قد تُفرض على روسيا. وبعد بضعة أيام، تجاوز العدد الهائل لتلك العقوبات وشدتها توقعات كل تحليل سابق تقريبًا، لأن السرعة في تنفيذها وحجمها وتداعياتها لم يكن لها سابقة تُذكر عندما يتعلق الأمر باقتصاد بحجم الاقتصاد الروسي. ورغم هذه المفاجأة، أُثيرت تساؤلات جديدة بشأن العواقب التي يمكن أن تترتب على هذه المجموعة الجديدة من العقوبات، سواء بالنسبة للحرب نفسها أو على مستوى الاقتصاد العالمي.
لم يكن نيكولاس مولدر – أستاذ التاريخ الأوروبي الحديث في جامعة كورنيل، ومؤلف كتاب “السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة” الذي يوفر فهمًا عميقًا ودقيقًا لظهور العقوبات في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، ويتتبع تطورها وتأثيرها خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، والحرب العالمية الثانية، وتشكيل الأمم المتحدة – ينظر في التاريخ فحسب ليشرح دور العقوبات في القرن الحادي والعشرين.
وقد ذكر في هذه المقابلة أنه لا ينبغي لنا استقراء الدروس المُستفادة من الماضي دون الحرص على إدراك كيفية تغير السياق العالمي، وهو ما يعني أنه على الرغم من أن تاريخ العقوبات يسلط الضوء على ما نشهده ردًّا على الغزو الروسي لأوكرانيا، فلا ينبغي لنا أن نفترض إعادة التاريخ لنفسه، ونظرًا لاختلاف الاقتصاد العالمي الحالي عن فترة ما بين الحربين، فقد تؤدي العقوبات دورًا مختلفًا.
قمتُ بالتحدث مع مولدر عن كتابه الجديد والعواقب المحتملة للعقوبات المفروضة على روسيا. وقد حُررت هذه المحادثة لفترة طويلة من أجل الوضوح.
بابلو بريلوكا: أود أن أبدأ هذه المحادثة بسؤال شخصي: كيف اهتممت بتاريخ العقوبات؟ لماذا وجدته مثيرًا للاهتمام؟
نيكولاس مولدر: عندما وصلت إلى كلية الدراسات العليا، كانت لدي خطة للعمل في نوع مختلف من المشاريع الذي كان عبارة عن تاريخ فكري لفكرة إقتصاد الحرب، واقتصاد الحرب كتجربة في القرن العشرين، وجميع الأنواع الروابط المثيرة للاهتمام مع دولة الرفاهية وأفكار التخطيط التنموي. ولكن عندما بدأت في كولومبيا، كانت هناك موجة جديدة كبيرة من الاهتمام بتاريخ الأممية، وخاصة “عصبة الأمم” في فترة ما بين الحربين العالميتين، وهو ما وجدت نفسي أخوض غماره.
وقد بدأ هذا المشروع، على مستوى تاريخي بحت، بموضوع أردت قراءة المزيد عنه، لكنني لم أتمكن من العثور على أي كتاب يتناوله، ولكنني لطالما كنت مهتمًا بالسياسة، وبخلفيتي الشخصية، بين الكلية وكلية الدراسات العليا، وهو ما جعلني انخرط قليلًا في هذا العالم، مع بعض الخبرة العملية. وقد كنت مهتمًّا أيضًا بالقضايا التي تواجه صانعي السياسة في العديد من الجوانب؛ ليس بطريقة كلاسيكية تقتصر على النخبة فحسب، بل من خلال التفكير قليلًا في كيفية اعتبار أشياء معينة في العالم مشكلة، وعلى العكس من ذلك، كيفية ظهور أشياء معينة كأداة. ولم أجد حقًا أي تفسير جيد لسبب بدء العقوبات في اكتساب أهمية كبيرة في القرن العشرين: متى بدأت هذه الطريقة في التفكير في العالم كمجموعة من التدفقات التي يمكنك اعتراضها واستخدامها كسلاح؟
لقد كان هذا الشيء الأصلي الذي استحوذ على اهتمامي. ولكن بعد ذلك، عندما بدأت في المشروع، أدركت أن هذه القصة الدولية تتطلب إلقاء نظرة على بلدان مختلفة، وعلى التاريخ الاقتصادي والسياسي والقانوني، إلى جانب بعض التاريخ الإستراتيجي العسكري. ويحتاج كل تاريخ إلى طرح السؤال التالي: ما هي طبيعة الشيء أو الشيء الذي تصفه؟ وما هو الهدف الرئيسي: هل هو مجموعة من الناس؟ هل هي عملية؟ وأعتقد أن للعقوبات جميع هذه الجوانب، وهناك مجموعة من الأشخاص الذي أتتبع أثرهم في الكتاب؛ أسميهم “العقابيين”، نظرًا لأنها الطريقة التي يشيرون بها إلى أنفسهم أحيانًا. كما تمثل العقوبات نوعا من أدوات السياسة المادية، ولكن هناك فكرة عما يفعله هذا “الشيء” بالعالم. وبالتالي، تمتلك العقوبات كل هذه الجوانب.
وأعتقد أن أحد الأسباب التي شدتني لهذا الموضوع باعتباره موضوعًا ثريًّا هو أنه في السابق كان علماء السياسة وعلماء العلاقات الدولية ينظرون فعليًّا إلى العقوبات على أنها أداة السياسة.، في حين لم تتم إعادة بناء الأبعاد الأخرى – مثل الأشخاص الذين يقفون وراءها، والأفكار التي يمتلكها هؤلاء الأشخاص، ونوع الخلفية المادية العالمية التي كانوا يتصرفون فيها – بشكل كامل؛ وهو الأمر الذي وجدته غنيًّا جدًّا ومحفزًا في كتابة هذا الكتاب: إعادة بناء هذا العالم بأسره حول العقوبات.
بابلو بريلوكا: لقد أظهرت في الكتاب أن ضوابط المواد الخام والحصار المالي خلال الحرب العالمية الأولى كانت من أسلاف العقوبات الاقتصادية. سؤالي الأول هو ما هو الغرض من هذه الإجراءات، وكيف غيرت مسار الحرب؟
نيكولاس مولدر: تمثل الهدف الأولي للحصار الذي فرضه الحلفاء في الحرب العالمية الأولى في العمل إلى حد كبير من خلال السيطرة على المواد الخام، ومن ثم توسيع هذه الضوابط على تدفقات الأموال والتمويل. لقد كانت بمثابة حملة خنق اقتصادي واستنفاد القوة القتالية لهذه الدول التجارية الصناعية الحديثة في أوروبا الوسطى. ولكن مع استمرار الحرب ظهر هدفان إضافيان؛ تمثل الأول في إنشاء نظام ما بعد الحرب بحيث لا يمكن لهذه البلدان أن تكون معتدية؛ لا سيما ألمانيا، التي تم تحديدها بنوع من الروح البروسية العسكرية، أما بالنسبة للعديد من الأشخاص في بريطانيا وفرنسا، فقد سار هذا جنبًا إلى جنب مع تدمير قوة الشركات الألمانية، التي كان يُنظر إليها على أنها الجناح الاقتصادي للأرستوقراطيين؛ فقد كان لديك نزعة عسكرية ألمانية في هذا المجال، وكان وجود شركات ألمانية في أمريكا اللاتينية وآسيا والولايات المتحدة، بمثابة نوع من التأثير التجاري “الخبيث” الذي سيطر بدوره على العالم، وقد برز الهدف الأوروبي المتمثل في خوض نوع من الحرب التجارية ضمن الحرب الاقتصادية.
في حين أوضح وودرو ويلسون بشدة الهدف الثاني الذي ينص على أن إعادة دمج الدول المهزومة بعد الحرب العالمية الأولى في الاقتصاد العالمي لا يمكن أن يحدث إلا إذا استوفت شروطًا سياسية معينة، وهو ما كان بداية فعلية لظهور العقوبات كأداة للتحول الأيديولوجي ولتغيير النظام، وقد تم ربط رفع العقوبات أو رفع الحصار بحركة سياسية نحو الليبرالية والابتعاد عن الاستبداد؛ الأمر الذي لم يستمر كثيرًا في فترة ما بين الحربين، نظرًا لأن العقوبات أصبحت فيما بعد تتعلق بوقف الحروب؛ حيث كانت – إلى حد كبير – أداة دبلوماسية بين الدول، ولكن، منذ الأربعينيات والحرب الباردة، عادت العقوبات كأداة لتغيير النظام والتحول الأيديولوجي – أو محاولة التحول الأيديولوجي – بالفعل.
بابلو بريلوكا: لقد أظهرتَ أن تحليل فعالية العقوبات الاقتصادية خلال الحرب العالمية الأولى شكل فكرة سيطرة القوى الغربية في تداول بعض المواد الخام وتقييد حركة رأس المال خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، إذن كيف تحولت العقوبات من أداة حرب إلى أداة لصنع السلام في هذه الرواية؟
نيكولاس مولدر: أود أن أقول إن اللحظة الحاسمة تحدث خلال إجراء المفاوضات في مؤتمر باريس للسلام؛ حيث يتعين على الحلفاء أن يقرروا ما إذا كانت عصبة الأمم تستخدم أداة الحصار هذه في المستقبل ضد دولة معتدية، وهو ما سيعني أن العصبة ستخوض حربًا، أو ما إذا كان من الممكن استخدام هذه الوسيلة بطريقة قانونية جديدة، وهو حصار سلمي أو حصار ليس عدواني، وهذا من شأنه أن يفتح آفاقًا جديدة، فمن المثير للاهتمام أن البريطانيين والفرنسيين لا تزال لديهم هذه الفكرة منذ مدة طويلة بأنهم يريدون أن تكون العصبة قادرة على خوض الحرب.
لكن لتأثير الوفد الأمريكي في مؤتمر باريس للسلام أهمية بالغة لأنهم يصرون على أن الكونجرس الأمريكي لا يمكنه منح سلطة خوض الحرب لمنظمة دولية بل يجب أن يبقى الأمر تحت سلطته التشريعية، لذلك لا يمكنهم أبدًا السماح بفرض عقوبات من قبل العصبة لوضع أمريكا تلقائيًّا في حالة حرب مع جهة معتدية؛ حيث يجب أن تكون لديهم قوتهم الخاصة للقيام بذلك. فهم يتيحون إمكانية استخدام كل هذه القوة دون الخوض في حرب بشكل رسمي في المفاوضات. وأعتقد أن هذا غير مقصود تقريبًا، لكنه يحمل تداعيات كبيرة لأنه يفيد أن تقنية زمن الحرب هذه قد انتقلت الآن إلى عالم السلم، أي أن الضرر والمعاناة التي فُرضت على المدنيين والتي لم تكن ممكنة في السابق إلا في زمن الحرب يمكن أن تصبح ممكنة في وقت السلم. وأيضًا يتطلب الأمر إضفاء الشرعية الجديدة من ناحية المفاوضات السياسية وحتى الفلسفة الأخلاقية، فقد أفضت إلى بروز الكثير من القضايا الدبلوماسية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
بابلو بريلوكا: حسنًا، في الواقع، أنت تُظهر أن الأمر أثار العديد من المشاكل في محاولة البحث عن طرق قانونية وإدارية جديدة للتعامل مع العقوبات. واسمح لي أن أضيف أننا لا نفكر في العقوبات الاقتصادية بقدر ما نفكر فيها كأحد العناصر المكونة لعصبة الأمم. والسؤال هو كيف تفاعل هذا المفهوم الجديد للعقوبات مع التنظيم البيروقراطي والإداري الذي طورته العصبة؟
نيكولاس مولدر: بفضل عملية التأريخ الجديدة التي قامت بها عصبة الأمم على مدار الخمسة عشر عامًا التي عاشتها، فنحن على دراية بالكثير عن كل ما قدمته في مجال الحوكمة الاقتصادية ومكافحة الاتجار وتعزيز رفاهية الإنسان، أو مساهماتها في قضايا انعدام الجنسية وأزمة اللاجئين بسبب الحرب.
ومن المثير للاهتمام أنني أعتقد أنه كان هناك توترًا داخل عصبة الأمم كمنظمة، لأنها لا تزال منظمة تحاول أيضًا استعادة نوع معين من نظام ما قبل الحرب العالمية الأولى، لا سيما في المجال الاقتصادي الدولي، حيث تحاول العودة إلى المعيار الذهبي ودعم نوع من عدم التدخل كنهج ليبرالي كلاسيكي، بما في ذلك الميزانيات المتكافئة وإنهاء حالة الحرب وتدخلاتها؛ أي إنهاء حالة التدخل من قبل الدول والعودة إلى دولة أصغر تكون أكثر انضباطًا من قبل رأس المال العالمي، بيد أن العقوبات تتطلب عكس ذلك وهنا يبرز التوتر.
لم يتم حل حالة التوتر هذه أبدًا، كما أحاول أن أوضح في الكتاب، لا سيما داخل الأجهزة الاقتصادية والمالية للعصبة ويرجع ذلك إلى لأن فرض العقوبات يتطلب جمع معلومات استخباراتية، ولا توجد منظمة أفضل تجهيزًا للقيام بذلك من عصبة الأمم بفضل الاستبيانات التي تجريها سنويًّا حول الاقتصاد العالمي.
لكن هذا يتعارض مع رغبة الشركات الخاصة وبعض التكنوقراطيين في إبعاد السياسة والدبلوماسية عن الاقتصاد، لذلك يكمن هنا وضع غير مريح في منتصف الطريق الذي تصل إليه بحلول نهاية عشرينيات القرن الماضي؛ حيث تتمتع عصبة الأمم بسلطات تدخلية جديدة، ولكن لا توجد، على مستوى الدولة القومية، القدرة التنفيذية لدعم ذلك. لذلك هناك تفويض قانوني لفرض عقوبات والانخراط في تدخلات بعيدة المدى من الناحية النظرية، ولكن هناك أيضًا من يقاوم ذلك داخل العصبة. لذا فإن الأمر معقد؛ حيث إن الرغبة في العودة إلى القرن التاسع عشر والرغبة في فرض العقوبات – وسيلة حديثة من القرن العشرين – تتعارضان مع بعضها البعض.
بابلو بريلوكا: إن ما قلته عن عصبة الأمم أمر مثير للاهتمام لأنني أحب أن أرى عصبة الأمم على أنها صدى لعصر يقترب من نهايته ومجموعة أسئلتي التالية تصب في هذا الاتجاه.
يمكن للمرء أن يرى كل من الحرب العالمية الأولى والكساد العظيم كمؤشرات على أن الموجة الأولى من العولمة التي بدأت في القرن التاسع عشر كانت على وشك الانتهاء. في مقدمة كتابك، قلت إن “العقوبات بدلت الحدود بين الحرب والسلم، وأنتجت طرقًا جديدة لرسم خريطة بنية الاقتصاد العالمي والتلاعب به، وغيرت كيفية تصور الليبرالية لممارسات الإكراه، وغيرت مسار القانون الدولي”. كيف غيرت العقوبات القانون الدولي في هذه الفترة؟ هل يمكن اعتبارها نهاية الموجة الأولى من العولمة؟
نيكولاس مولدر: أعتقد أنك محق تمامًا في أن الكساد الكبير هو حقًا الشيء الذي قضى على المعيار الذهبي في القرن التاسع عشر وأنهى صورة العولمة القائمة على مبدأ عدم التدخل. وأتفق أيضًا مع ستيفان ج.لينك، الذي قال بأن القرن التاسع عشر، بالمفهوم الاقتصادي، ينتهي في سنة 1933. لكن العقوبات تشير بالفعل في اتجاه مختلف لمزيد من التدخل قبل تلك الفترة، فالسبب في أن هذا التوتر لم يعد يمثل مشكلة كاملة في عشرينيات القرن الماضي هو أنه يمكن استخدام العقوبات كتهديد. لذلك، يمكن تهديد أهداف مثل يوغوسلافيا واليونان بالخضوع دون الحاجة إلى إقامة هذا الهيكل التدخلي الجديد وهذا ما يسمح لحالة التوتر هذه بأن لا تتحول إلى مشكلة متفاقمة، إلا أن الوضع كان مختلف في الثلاثينيات.
بالطبع الكساد الاقتصادي يحيي القومية الاقتصادية، وكل أنواع البلدان تنفصل عن اقتصاد العالم الليبرالي القديم. لكن الأهداف التي ظهرت بعد ذلك بالنسبة لليبراليين الدوليين كمجرمين محتملين قادرين على زعزعة النظام الدولي هي دول أكبر بكثير. لذا أصبحت العقوبات عن غير قصد شيئًا يزيد من مخاطر الحفاظ على النظام العالمي لليبراليين الدوليين.
بابلو بريلوكا: الحجة الرئيسية في كتابك هي أن فاعلية وتأثيرات العقوبات الاقتصادية ليستا بالضرورة متماثلتين؛ بل على العكس تمامًا. لذلك، خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، دفعت العقوبات دولًا مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان إلى اللجوء بشكل متزايد إلى الاعتماد على الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. هل تمانع التوسع في شرح كيف أن مخاطر مواجهة العقوبات تعزز الاكتفاء الاقتصادي؟
نيكولاس مولدر: ما أعرضه في الكتاب هو أن الكساد الكبير يتسبب أساسًا في أزمة بين النخب السياسية في كل بلد، لأن الوصفة الاقتصادية القديمة لكيفية إدارة اقتصادك الوطني ضمن اقتصاد عالمي مترابط لم تعد مجدية حقًّا. ومع إخفاقاته في السوق، فقد قدم الكساد العظيم حججًا قوية جدًا للمعسكر الأكثر قومية والأكثر اعتمادًا على سياسة الحمائية الاقتصادية في كل بلد. وأعتقد حقًا أنه يجب علينا تحديد هذه الظاهرة في كل دولة، سواء كانت ديمقراطية أو ليبرالية أو أوتوقراطية أو فاشية.
كان لدى النخب السياسية في كل هذه البلدان اتجاهات مختلفة داخلها تتجه نحو المزيد من الانفتاح واتباع نهج أكثر انغلاقًا للاقتصاد العالمي. لكن الكساد العظيم يرجح كفة الميزان لصالح معسكر السياسة الحمائية.
وما أزعم هو أن ما تفعله العقوبات هو تقديم مزيد من الحجج القوية للبلدان التي ليست مجرد حمائية – لأنه أمر عام بالنسبة للديمقراطيات أن تصبح حمائية – ولكن لديها أيضًا نوع من الآثار السياسية والاستراتيجية أو الاستياء ضد النظام الذي انبثق عن معاهدة فرساي.
ولديهم سبب إضافي ليصبحوا مكتفين ذاتيٍّا، لأنهم الآن لا يهتمون فقط بحماية اقتصادهم من المنافسة الأجنبية والشروع في الانتعاش الاقتصادي، ولكنهم أيضًا ينتهجون سياسات خارجية من المحتمل أن تتعارض مع عصبة الدول والقوى التي تقف وراءها.
وهنا أعتقد أن حقيقة أن عقوبات العشرينات من القرن الماضي نجحت دون الحاجة إلى فرضها فعلًا؛ حيث جعلت الناس يفقدون أهمية العقوبات من الناحية الهيكلية، فنحن نفكر فقط في أن تكون العقوبات فعالة من خلال فرضها فعليًّا، لكن التهديد بفرض عقوبات في عشرينيات القرن الماضي كان فعالا على وجه التحديد لأن ذكرى الحصار في زمن الحرب كانت حديثة جدًّا، ثم في عام 1935 فعلتها العصبة مرة أخرى، على الرغم من أنها كانت حلقة عقوبات في زمن السلم ضد إيطاليا الفاشية. يؤدي ذلك حقًا إلى تغيير الموازين ويخلق ليس فقط الحمائية ولكن أيضًا شكلًا راديكاليًّا وقوميًّا للاكتفاء الذاتي، في إيطاليا أولاً، وبعد ذلك في ألمانيا النازية واليابان؛ حيث يسرِّع رغبتهم في الوصول الكامل إلى المواد الخام، إنهم لا يريدون الحصول على حماية تجارية فحسب، بل يريدون تأمين مصدر إمدادات المواد الخام بالفعل، وإذا تعذر العثور عليها داخل حدود بلادهم ، فستكون هناك حاجة إلى غزوات عسكرية لتأمين ذلك خارج حدودهم.
الثقل الاقتصادي للغرب في الاقتصاد العالمي اليوم أقل بكثير مما كان عليه في أوائل القرن العشرين، عندما كانت الولايات المتحدة وأوروبا يهيمنان معًا بالفعل ويسيطران على الكثير مما يعرف الآن بالجنوب العالمي
بابلو بريلوكا: الآن دعنا ننتقل إلى يومنا هذا ونواصل الحديث عن الكفاءة والتأثيرات. كما تعلم، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا فُرضت مجموعة جديدة من العقوبات الاقتصادية على روسيا وبعض المليارديرات الروس. كان هناك جدل داخلي بين الدول الغربية حول مدى العقوبات. واحدة من أكثر القضايا الخلافية كانت طرد روسيا من نظام الدفع “سويفت”. برأيك، لماذا تم تطبيق العقوبات الاقتصادية بكامل قوتها هذه المرة؟
نيكولاس مولدر: هذا سؤال جيد جدا. شعوري هو أن العقوبات أصبحت المجال نحو توجه معظم الرغبة الغربية للتعامل بقوة ضد روسيا. وأود أن أقول إن هناك ثلاثة مجالات أساسية: القوة العسكرية الصارمة، والضغط الاقتصادي، والمساعدات والمفاوضات الدبلوماسية. الأسهل والأصعب أساسًاً، كانت خارج الطاولة لأسباب مختلفة. كان الخيار العسكري خارج الطاولة بسبب الوضع النووي وخطر التصعيد، ولكن كما أعتقد في الغرب بسبب الناتو وبسبب الاستبداد المتزايد لروسيا والتدخل في الانتخابات الغربية كان هناك أيضًا مجرد نوع من استحالة إشراك روسيا فعليًّا في الحلول الدبلوماسية. كان هناك قدر من الإمكانية، لكنها لم تكن كافية لتحقيق الاستقرار في الوضع، وهذا يتعلق أيضًا بحقيقة أن الناتو قدم مبادئه الخاصة على أنها غير قابلة للتفاوض أساسًا.
لم تكن هناك مرونة كافية في المجال الدبلوماسي على الجانبين، ونتيجة لعدم طرح هذين الخيارين على الطاولة عندما اندلعت هذه الحرب، وضعنا الآن الكثير من توقعاتنا وطموحاتنا للنتائج في سلة العقوبات، ومن الواضح لي أن الحل والنتيجة سيتم تحديدهما مرة أخرى؛ ومن خلال هذه المجالات الثلاثة وليس واحدًا فقط: أريد توسيع المناقشة لإبراز النقطة التي مفادها أنه لا ينبغي أن نتوقع أن يكون كل شيء نتيجة للعقوبات. إذا كان هناك مأزق ناشئ الآن، فقد يكون في الواقع بسبب ما يحدث في ساحة المعركة، وإذا كان هناك حل طويل الأمد فمن المحتمل أن يشمل الدبلوماسية، لذلك كل الثلاثة منهم ذات صلة.
بابلو بريلوكا: كان برانكو ميلانوفيتش وآخرون يشيرون إلى كيفية حدوث عملية بطيئة في الأربعين عامًا الماضية لإعادة توازن القوة الدولية مع صعود الصين والشرق. ماذا يمكن أن تكون العواقب غير المقصودة لهذه العقوبات الاقتصادية؟ هل يمكن أن تلعب دورًا في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي والنظام الدولي؟
نيكولاس مولدر: نعم، هذا هو السؤال السائد الذي يدور في أذهان الجميع الآن، بالتأكيد لا يجب أن نكون أسرى الماضي في الإجابة على هذا السؤال، يجب ألا نحاول استنباط التوجهات الماضية ونجعلها توجه توقعاتنا. أوضح “بابلو بريلوكا” هذه النقطة بشكل مقنع حقًا – أنه يجب أن لا نعتقد أنه ستكون هناك عملة في المستقبل لها نفس دور الدولار تمامًا، وأننا لا يجب أن نبدأ في قياس -على سبيل المثال- التدويل المتزايد لل”ين” بمعيار ما هو عليه الدولار الآن، لأن الهيمنة الأمريكية جديدة تاريخيًا وقد لا يتم إعادة إنتاجها في النموذج الجديد. يجب ألا نفترض أو ننظّر هذا كثيرًا، لكن بالطبع سيكون لها تأثيرات هائلة.
شعوري الآن هو أن هناك فجوة كبيرة جدًا داخل مجموعة الدول التي أدانت الغزو الروسي، وهي ليست شاملة، لكنها أغلبية عالمية كبيرة جدًا من 141 دولة عضو في الأمم المتحدة صوتت في الإجماع العام لإدانة هذا العدوان الروسي. وهي محقة في ذلك؛ حيث أعتقد أن هذه قضية مفتوحة ومغلقة؛ إن المعايير ضد العدوان الإقليمي وضم الأراضي ما زالت حية بالفعل في المجتمع الدولي، لكن هذا يختلف عن 37 أو نحو ذلك من دول شمال الأطلسي وآسيا المتقدمة التي اتخذت إجراءات بفرض عقوبات، هذا أقل من 40 دولة فقط.
لذلك هناك فجوة كبيرة بين التعرف على المعيار واتخاذ إجراءات اقتصادية بعيدة المدى استجابة لذلك، وهذا يعني أن الدول التي تفرض العقوبات تقع بين مجموعتين: مجموعة من الدول التي لم تنحاز فعليًا إلى جانب – أي الدول التي امتنعت عن التصويت البالغ عددها 35 دولة، والتي تضم في الواقع حوالي نصف سكان العالم – وأيضًا مجموعة كبيرة من الدول التي أعتقد أنها تدعم المبدأ ولكن ليست في وضع يمكنها، بسبب اعتمادها على السلع الأساسية الروسية، لاتخاذ إجراءات في الوقت الحالي.
لكن القضية الأوسع التي تلوح في الأفق هي أن الثقل الاقتصادي للغرب في الاقتصاد العالمي اليوم أقل بكثير مما كان عليه في أوائل القرن العشرين، عندما كانت الولايات المتحدة وأوروبا يهيمنان معًا بالفعل ويسيطران على الكثير مما يعرف الآن بالجنوب العالمي من خلال التأثير الإمبراطوري المباشر.
التاريخ الذي يتناوله كتابي هو تاريخ إمبراطوري في النهاية، وهذا مهم حقًا لأن ذلك يشكل الإحساس بما كان ممكنًا. لكن اليوم، أعتقد أنه يتعين علينا أن ندرك حقيقة أن جزءًا كبيرًا من العالم – الصين والهند وإندونيسيا والكثير من دول أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا وباكستان وتركيا – ليست بالضرورة ملزمة باستخدام هذه العقوبات، وهذا يعني أن هناك المزيد من الفرص لتحويل التجارة من قبل البلدان الخاضعة للعقوبات. تبدأ في رؤية ذلك مع روسيا الآن، لكننا رأينا ذلك بالفعل مع إيران على سبيل المثال، وهذا يعني أيضًا أن العقبة الحقيقية أمام العقوبات في القرن الحادي والعشرين لن تكون تقنية، لأن الغرب أظهر أنه قادر على تشغيل أدوات رفع نظام الدولار بتأثيرات جذرية.
العقبة الحقيقية ستكون سياسية؛ فسيكون في الواقع إبقاء استخدام هذه الأداة شرعيًا في مواجهة العديد من البلدان التي لديها الكثير من الرهان والكثير جدًا للخوف من الاستخدام غير المقيد لهذه الأداة. هذا هو المكان الذي سيتم فيه تحديد المستقبل الحقيقي للعقوبات – وليس على مستوى صنع السياسة التكنوقراطية.
المصدر: صحيفة ذي نيشون