يتأرجح التحليل بين أعلى درجات التفاؤل وأدنى درجات الإحباط، فالأحداث في ما نرى تتغيّر بسرعة ولا تسعفُنا بأخبار الكواليس العميقة، فبعض محركات الأحداث تقع خارج الوطن وتقودها سفارات ودول مؤثرة، لا يصلنا منها إلا “طشاش” لا يرتقي إلى درجة المعلومة الثابتة، لذلك يظلُّ حديثنا أقرب إلى التوقع منه إلى الخبر اليقين.
صورة الوضع كما نراها بتاريخ اليوم
انقسام طولي عميق بين الانقلاب والمعارضة الديمقراطية، يتمترسُ كلٌّ بموقعه ويجمع وسائل قوّته في سيناريو حرب أهلية، يحتمي الرئيس المنقلب بموقعه ويستعمل حتى الآن وسائل الدولة القوية (الجيش والأمن)، ليرسل رسائل تملك كامل للسلطة على كل مفاصل الدولة، ويمضي بلا تردد في تنفيذ أجندته السياسية، مستهينًا بكل المؤشرات التي كشفت نفور عامة الناس من برنامجه، وخاصة دلالات النكوص عن استشارته الشعبية التي لم يوالِه فيها إلا 5% من القوة الناخبة.
وقد أكّدت مظاهرة يوم 8 مايو/ أيار هذا التخلي، رغم نزول وزير الداخلية لدعم التحرك في الشارع، فنحن ننتظر تنزيل دستور الرئيس للتداول (أو النقاش العام) قبل موعد الاستفتاء عليه يوم 25 يوليو/ تموز القادم، وهو نقاش غير ذي جدوى اللهمّ للتلهية وربح الوقت، فالرئيس أعلن أن الدستور جاهز للمصادقة، وما الاستفتاء إلا شكلية استعدَّ لها بتعيين هيئة انتخابية موالية لشخصه ولبرنامجه.
تحتمي المعارضة بالشارع، وتثبت قدرة عالية على التحشيد متى رغبت، وقد نزلت يوم 15 لمزيد إثبات قوتها وإعلان خطواتها السياسية القادمة، بعد أن أعلنت رفضًا باتًّا لكل مشروع الرئيس، ولكل خطواته التنفيذية ومنها مقاطعة الاستفتاء القادم.
مستويات التوتر في الشارع عالية جدًّا، ويزيدها توترًا الارتفاع غير المدروس في أسعار المواد الأساسية، وآخرها الحليب والبيض واللحوم نتيجة زيادة فجائية مشطّة في أسعار الأعلاف المستوردة.
يلتهمُ غول الأسعار قدرات الطبقات الهشّة والمتوسطة، ويدفع إلى حالة خوف من الجوع، ويلتهم في الطريق آخر جيوب مساندة الانقلاب، وتجدُ المعارضة في ذلك رافدًا جيدًا للخروج ضد الانقلاب.
توجد بين الطرفَين فئات سياسية (وبيروقراطية) أخرى كفّت عن إسناد الانقلاب بلا مقابل، ولا تريد أن تقف مع المعارضة الديمقراطية، لذلك لا تظهر مع جمهور الانقلاب في الشارع، وتكتفي بالتربُّص لمعرفة الفائز من المعسكرَين المتقابلَين.
ونعني هنا بالخصوص ما نسمّيه حزب الإدارة العميقة، التي لا تظهر تحت اسم سياسي صريح لكنها تمسك عصب الإدارة وتوجِّهه لمصلحتها، مع كثير من أصحاب النفوذ الاقتصادي الذين لا تشغلهم إلا مصالحهم الخاصة التي يهددها الاضطراب الاجتماعي.
السفارات تنشط خلف الشاشات الظاهرة
جزء مهم من تقرير مستقبل البلد لم يعُد بين أيدي الفاعلين في الداخل، بقطع النظر عن قوة وأسلحة أي منهم، حيث نتابع نشاطات محمومة ورسائل متناثرة ومبعوثين يجلسون مع الأحزاب والمنظمات، ويتحدثون بكثير من اللغة الدبلوماسية الحريصة على الشكل (كما لو أن هناك دولة ذات سيادة لا يجوز الإملاء عليها).
لكنّ جزءًا مهمًّا من الحل سيأتي على شكل نصائح، هي في الجوهر إملاءات مباشرة ترتِّبُ وضعًا جديدًا يراعي أولًا مصالح السفارات في البلد وفي المنطقة، فالدول المؤثرة تنطلق من ثوابتها الاستراتيجية، وما تونس إلا مربع صغير ضمن هذه الاستراتيجيات المهيمنة.
إننا نرى مصالح فرنسا في الإبقاء على تونس ضمن هامشها الاقتصادي والثقافي، ولفرنسا في الداخل أنصار يعيشون بدعمها السياسي المعلن والخفي، وفي مقدّمتهم النقابة واليسار النقابي واليسار الثقافي المتمركز في مفاصل الدولة منذ عقود طويلة، وهي قوة تعطيل لا يمكن الاستهانة بها، ولا يمكن تمرير حلّ سياسي إلا بحفظ مواقعها ومصالحها المحلية التي تلتقي مع مصالح فرنسا.
ونرى مصالح الولايات المتحدة في المنطقة خاصة وفي المتوسط وفي أفريقيا في مرحلة الخروج من الحرب على “الإرهاب الاسلامي”، للتصدي استراتيجيًّا للتقدُّم الصيني الروسي في المتوسط وأفريقيا، وهي في مرحلة اصطناع قوى موالية لها، ونراها تغمز للإسلاميين بحمايتهم من فرنسا (عدوهم التاريخي)، وتمكينهم من جزء من السلطة ضمن خطة إنهاء العداء مع الإسلام السياسي الذي كان منعوتًا بحاضنة الإرهاب، لذلك نستشعر تعاطفها مع الموجة الديمقراطية المعادية للانقلابات دون أن تصل إلى تدخل مباشر ينهي الوضع الانقلابي.
هل ما زال الانقلاب يحظى بدعم جهة من هاتين الجهتَين الدوليتَين؟ نزعم دون معلومات دقيقة (للأسف) أن تفاوضًا يجري الآن بين هذه القوى على ترتيب الوضع التونسي دون الانقلاب وأنصاره، على أن تضمن كل جهة مواقع فريقها في الداخل بما يضمن تنفيذ خططها المستقبلية في المنطقة، ما قد يعطينا مشهدًا سياسيًّا جديدًا في الظاهر، لكنه لا يختلف في العمق عمّا قبل الانقلاب.
المشهد المقبل كما نتوقعه
السفارات سترتِّب حوارًا وطنيًّا تحت سقوف واضحة تقوم على ثوابت واضحة:
أولها: استباق كل احتجاج شعبي على الغلاء “المخيف” الذي لم يعد الانقلاب قادرًا على التحكُّم فيه، وهو ما يسرِّع المرور إلى مرحلة ما بعد الانقلاب دون أي صلاحيات للرئيس وفريقه، وليس بالضرورة دون شخصه القابل للعزل أو المحاصرة في موقعه.
ثانيها: منع كل السيناريوهات لحراك الشارع يُنتج حالة تصادم في الشارع لا يمكن التحكم في نتائجها.
وثالثها: منع كل سيناريوهات التصادم بين مصالح هذه الدول، ويتّجه العمل إلى تقسيم النفوذ والمصالح عبر تمكين متعادل للوكلاء المحليين، مثلًا ودون تدقيق الاقتصاد لفرنسا والسياسة أو الولاء للولايات المتحدة (نرجّح يقينًا أن التفاوض حول مخارج الوضع التونسي ليست منفصلة عن مخارج الوضع في ليبيا).
وأيضًا تفاوض يشبه كثيرًا ذاك الذي تمَّ به تقسيم المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر بين قوى الاحتلال الغربي للمنطقة، غير أن هذه المرة سيكون للفاعلين المحليين موقع وجزء معلن من القرار، دون المساس بالمصالح الاستراتيجية للقوى المهيمنة.
إجرائيًّا، يمكن لجلسات حوار وطني مسقّفة برغبات السفارات وشروطها، أن تنتج قانونًا انتخابيًّا جديدًا وتوليفة توافقية “مؤقتة” لمحكمة دستورية بناء على دستور 2014، وحكومة توافقية محدودة الأجل تسهر على تنظيم انتخابات برلمانية تستبق دستور الرئيس وانتخاباته، معتمدة على القانون رقم واحد لسنة 2022، الذي أصدرته جلسة البرلمان في نهاية مارس/ آذار، وجوهره كان إلغاء كل ما شرّعه الرئيس بمراسيمه.
احتمالات نجاح هذا السيناريو مرتبطة بمدى رضا أطراف طاولة الحوار بما يتمّ توزيعه من مواقع، ونلتقط مؤشرًا مهمًّا في هذا السياق، وهو ما أظهره زعيم حزب النهضة (رئيس البرلمان الشرعي) من استعدادات للقبول بإشراف النقابة على الحوار الوطني (النقابة تعني ضمان قسط فرنسا وحلفها الداخلي)، واستعداده لسحب حزبه ليقف خلف الحكومة بالدعم الشارعي، دون المشاركة فيها، ما يسمح لبقية الفرقاء بأقساط ترضيهم.
يحقق رئيس النهضة وحزبه مطلبهما الأساسي، وهو عودة المسار السياسي الديمقراطي والإبقاء على دستور 2014 الضامن للديمقراطية، وقد ألحَّ الغنوشي دومًا على أهمية الإبقاء على المسار، ولم يضع شروطًا قاسية للمشاركة في سلطة تنفيذية تعقب الانقلاب، وقد تخلّى تقريبًا عن الحديث عن عودة البرلمان المنتخَب ولو لمهامٍّ محدَّدة دون شخصه.
هل سيقبل الانقلاب بهذا التمشّي؟ نجزم أنه سيرفض رفضًا قطعيًّا كل سيناريو ينهي وجوده ودوره، ويستدعي قوة الدولة للتصدي له، وهنا سنختبر جدّية القوى المهيمنة، ونذكّر بأن الولايات المتحدة تنتظر تقريرًا عن مدى مشاركة الجيش التونسي في دعم الانقلاب، وعلى ضوء التقرير تقرر مواصلة دعم الجيش التونسي أو قطع المدد عنه، وهي ورقة ضغط ثقيلة الوزن على المؤسسة العسكرية، ففي لحظة ما قد ينتقل كل الضغط السياسي الداخلي والخارجي على المؤسسة العسكرية لتحسم الجدل.
نراقب الوضع بيقين أن مصير البلد يحدد الآن من خارجه ولن نلقي بالًا لحديث المزايدة بالسيادة الوطنية ففرقاء الداخل وضعوا أيديهم بأقدار متساوية بيد حليف خارجي.