تجاوز لبنان قطوع الاستحقاق الانتخابي النيابي بسلام، حيث اختار اللبنانيون مجلسًا نيابيًّا جديدًا اتّسم بالمفاجآت العديدة، التي يمكن أن تفتح مستقبل لبنان على كثير من التوقُّعات، وقد سارت عملية الاقتراع التي جرت يوم الأحد 15 مايو/ أيار الجاري بشكل سلمي وحضاري وديمقراطي، ولم يُسجَّل خروقات كبيرة أو مشاكل أمنية خلال عمليات التصويت.
غير أن ما طغى على هذه الانتخابات كان المال الانتخابي بشكل سافر وواضح، وعدم تكافُؤ المرشّحين من ناحية التغطية الإعلامية، حيث سُجِّل خروقات كثيرة للصمت الانتخابي سواء للمرشحين أو لوسائل الإعلام أو للماكينات الانتخابية، وهو ما رصدته وتحدثت عنه مؤسسات مَعنيّة بمراقبة شفافية ونزاهة الانتخابات، وهو ما أشارت إليه وتحدثت عنه ووثّقته الجمعية اللبنانية من أجل ديمقرطية الانتخابات.
أمّا عن نِسَب الاقتراع في هذه الانتخابات، وبحسب وزارة الداخلية اللبنانية، فقد بلغت 41%، ما سجّلَ تراجعًا عن النسبة التي سُجِّلت في انتخابات عام 2018 حيث تخطت نسبة الاقتراع في حينه 49%، وتفاوتت هذه النِّسَب بين دائرة انتخابية وأخرى، فسُجِّلت أعلى نسب المشاركة والاقتراع في الدوائر ذات الكثافة المسيحية، كما في دائرة جبيل كسروان بقرابة 65%.
وسُجِّل تراجُع نِسَب المشاركة في الدوائر ذات الكثافة السنّية، لا سيما في مدينة طرابلس ومحافظة عكّار، فلم تتخطَّ في أحسن الأحوال نسبة الاقتراع حاجز 30%، في حين تراجعت أيضًا نسبة المشاركة في الدوائر ذات الكثافة الشيعية كما في الجنوب والبقاع والشمالي، حيث تراوحت نسبة الاقتراع بين 35% و40%.
نتائج الانتخابات
حملت نتائج الانتخابات مفاجآت عديدة لم تكن متوقعة من قبل المحلّلين والمتابعين، وسُجِّل في هذا الإطار تحقيق ما يُسمّى ويُعرف بالمجتمع المدني (مرشحون شاركوا في انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) نتائج جيّدة، وفاز العديد منهم في العديد من الدوائر، وبلغ عدد النواب الفائزين المحسوبين على المجتمع المدني حوالي 12 نائبًا، إضافة إلى نواب مستقلين لا يرتبطون بأيّة جهة حزبية أو سياسية.
وتوزّع فوز هؤلاء النواب بين العاصمة بيروت ومدينة طرابلس في شمال لبنان ومحافظات الجنوب والبقاع والجبل، وسجّلوا خرقًا للوائح حزب الله وحركة أمل في الجنوب، وللائحة التيار الوطني الحر والحزب الديمقراطي اللبناني والحزب التقدمي الاشتركي في جبل لبنان بدوائره الأربعة، ولبقية اللوائح في مدينة طرابلس في شمال لبنان وزحلة في البقاع.
وهناك مفارقة أن هؤلاء الفائزين المحسوبين على المجتمع المدني أو المستقلين لا يشكّلون كتلة نيابية واحدة ومنسجمة، فهم قد يجتمعون ويتفقون على قضية ويختلفون على قضايا أخرى، ولكن تبقى أهمية هذه المجموعة في كونها ستكون المجموعة المرجِّحة في المجلس النيابي بين طرفَي الانقسام السياسي في لبنان (حزب الله وفريقه مقابل بقايا فريق 14 آذار)، والذي لم يحصل أيّ منهما على الأكثرية المطلقة (64+1) في المجلس النيابي.
أما فيما يخصّ نتائج الانتخابات بالنسبة إلى القوى السياسية، فيكاد يكون حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع الفائز الأكبر والأول فيها، حيث حصد الحزب 21 مقعدًا نيابيًّا، في حين حصلَ منافسه في الساحة المسيحية التيار الوطني الحرّ، برئاسة صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل، وحليف حزب الله على 17 مقعدًا نيابيًّا، بينما فاز حزب الكتائب اللبنانية بـ 4 مقاعد، وتوزّعت بقية المقاعد المخصصة للمسيحيين على المستقلين والمجتمع المدني وتيار المردة برئاسة سليمان فرنجية، الذي حصلَ على 3 مقاعد مسيحية.
في المقلب الآخر، سجّل الحزب التقدمي الاشتراكي فوزًا كبيرًا في هذه الانتخابات، من خلال محافظته تقريبًا على كتلته النيابية (8 مقاعد)، غير أنّه تمكّن من الإطاحة بمنافسيه على الساحة الدرزية، فأسقط رئيس الحزب الديمقراطي طلال أرسلان ورئيس حزب التوحيد العربي في دائرة الشوف عاليه، وهما من أكبر رموز حلفاء النظام السوري في لبنان، وبذلك تمكّن زعيم الحزب التقدمي وليد جنبلاط من فرض تفرُّده بالزعامة الدرزية في لبنان.
في المقلب الشيعي تمكّن الثنائي حركة أمل وحزب الله من الفوز بالمقاعد الشيعية كافة (27 مقعدًا)، غير أنّ حزب الله خسر بخسارة بعض حلفائه لمقاعدهم النيابية، كما في حالة طلال أرسلان في مدينة عاليه، وفيصل كرامي في طرابلس، وإيلي الفرزلي في البقاع الغربي وغيرهم، ما جعله يفقد الأكثرية المطلقة التي كان يطمح للفوز بها في المجلس النيابي.
كما أن هناك مسألة أخرى أقلقت الثنائي أمل وحزب الله، فضلًا عن الخرق الذي سُجِّل للوائحهم بحلفائهم، وهي مسألة تراجع نسبة الاقتراع في مناطقهم، حيث سُجِّل نوع من البرودة في المشاركة أظهرتها نِسَب التصويت، رغم العمل بشكل حثيث على تعبئة ناخبيهم من أجل المشاركة واستخدام المال والفتوى الدينية أحيانًا.
النتائج الأكثر أهمية في انتخابات عام 2022 سُجِّلت في الدوائر ذات الكثافة السنّية، كما في دائرة بيروت الثانية وشمال لبنان والبقاعَين الغربي والأوسط ومدينة صيدا وإقليم الخروب.
ففي ظلّ غياب تيار المستقبل برئاسة سعد الحريري عن ساحة العمل السياسي ومقاطعة الانتخابات، وفي ظلّ انكفاء شخصيات سنّية وازنة عن خوض المعركة الانتخابية، كما في حالة رؤساء الحكومات السابقين، وفي ظلّ عدم بروز شخصية سنّية كارزمية تشكّل عمود خيمة لـ”الطائفة”، تشتّت الصوت السنّي في هذه المناطق في اتجاهات متعددة ومختلفة.
ففي دائرة بيروت الثانية، حيث النسبة الأعلى للناخبين السنّة، ذهبت الأصوات بين شخصيات مصنَّفة على المجتمع المدني (إبراهيم منيمنة ووضاح الصادق) وإسلاميين (عماد الحوت) وأحباش (عدنان طرابلسي) وشخصيات تقليدية (فؤاد مخزومي ونبيل بدر)، غير أنّ أيًّا من هذه الشخصيات لا يشكّل زعامة سنّية على قدر الوطن، ويبقى تأثيرها بحدود قضايا العاصمة أو حقوق أهلها.
أمّا في مدينة طرابلس، حيث تعدّ المدينة عاصمة السنّة الثانية بعد بيروت، فقد كانت نسبة الاقتراع متواضعة، وذهبت الأصوات نحو شخصيات محسوبة على المجتمع المدني (رامي فنج) ومستقلين (إيهاب مطر) وأحباش (طه ناجي) وشخصيات تقليدية (كريم كبارة والوزير السابق أشرف ريفي)، ولعلّ أبرز شخصية من بين هؤلاء هو الوزير والمدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، الذي يطمح ليكون زعامة سنّية على مستوى الوطن، وقد يكون أحد أبرز المرشحين لرئاسة الحكومة المقبلة.
في حين أن بقية المناطق ذات الكثافة السنّية، كما في عكار، فاز بالمقاعد السنّية فيها مرشحون من بقايا تيار المستقبل، أو مستقلين كما في بقية أقضية الشمال وجبل لبنان والبقاع، مع تسجيل فوز بعض المرشحين السنّة من حلفاء حزب الله كما في البقاع الشمالي (بعلبك الهرمل) وفي الجنوب (حاصبيا)، في حين أنّ المقعدَين السنّيَّين المخصّصَين لمدينة صيدا فاز بهما أسامة سعد وعبد الرحمن البزري، وهما من الشخصيات المستقلة.
خلاصة القول فيما يتصل بالنتائج، أنَّ أيّ فريق سياسي لا يمكنه أن يتفرّد في ضوء هذه النتائج بالسلطة أو يستأثر بها، بل هو مضطر لعقد تحالفات وتفاهمات واسعة من أجل ذلك، وهو أمر ليس يسيرًا في الوقت الحالي.
انعكاس الانتخابات على مستقبل لبنان
السؤال الذي يُطرح حاليًّا، وهو على لسان كل مسؤول أو محلّل أو متابع ومهتم، هل يمكن أن تشكّل نتائج هذه الانتخابات مقدمة لإنهاء الأزمة السياسية، وتاليًا بداية الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان؟
الإجابة عن هذا السؤال هو رهن بكيفية تعاطي القوى السياسية التقليدية مع نتائج هذه الانتخابات، فضلًا عن القوى أو الشخصيات التي دخلت حديثًا إلى المجلس النيابي، وهي بالمناسبة شخصيات بمعظمها كانت تنادي بـ”الثورة” على الواقع وبالتغيير الشامل، فضلًا عن أن بعضها كان ينادي بسحب سلاح حزب الله.
دستوريًّا، إن الاستحقاق الدستوري الأول بعد الانتخابات هو انتخاب رئيس جديد للمجلس النيابي، وهو عُرفًا يجب أن يكون من الطائفة الشيعية، والقوى التغييرية في المجلس الجديد وحتى بعض القوى السياسية أمام معضلة، إذ ليس أمامها سوى النواب المنضوين إمّا في حركة أمل وإمّا في حزب الله، بمعنى آخر ليس هناك مرشح خارج هذين الحزبين، والمطروح عندهما للرئاسة الرئيس الحالي للمجلس نبيه بري.
وهنا ستقع القوى التغييرية والقوى السياسية الأخرى التي تختلف مع الثنائي أمل وحزب الله في مأزق حيال ذلك، ما قد يعمّق الأزمة السياسية وينعكس على الاستحقاق الدستوري التالي، وهو تكليف شخصية سنّية تشكيل الحكومة.
وهنا أيضًا معضلة أخرى، إذ إن رئيس الجمهورية الملزم دستوريًّا إجراء استشارات نيابية ملزمة، قد لا يجد إجماعًا على شخصية سنّية واحدة تنال الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس النيابي، وإن لم يكن هذا شرطًا لتكليف أية شخصية يطرحها النواب وتحظى بثقة أكثرهم.
التحدّي الدستوري الآخر هو في فُرص تشكيل الحكومة الجديدة في ظل مجلس نيابي فيه هذا التشرذم، الذي لا يملك فيه أي طرف الأكثرية المطلقة، حيث سيؤخّر هذا الأمر تشكيل الحكومة، وسيجعلها تدخل في بازار المحاصصات أو الضغوط، ما سينعكس بدوره على إمكانية إيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية والحياتية التي تعصف بالبلد.
هذا الواقع الجديد الذي نشأ عن الانتخابات يدفع إلى طرح سؤال آخر، وهو هل القوى السياسية، وبفعل هذا التوازن الذي نشأ، ستعود إلى نوع من التفكير العقلاني والهادئ بعد انتهاء ضجيج الانتخابات، وبالتالي تبدأ التفكير الجدّي والحقيقي في عملية إنقاذ البلد، بعد أن تكون قد تشكلت بعدم إمكانية أي طرف إلغاء الطرف الآخر؟
أم سيتحوّل المشهد السياسي في لبنان إلى ما يشبه المشهد السياسي في العراق، حيث لا تزال الاستحقاقات الدستورية من انتخاب رئيس للجمهورية إلى تكليف شخصية تشكّل حكومة رهن الاتفاقات والتفاهمات والتسويات؟ مع فارق أنّ وضع لبنان الاقتصادي لم يعد يحتمل مزيدًا من الوقت للحلول، بينما العراق ربما أكثر قدرة على ذلك.