بوجه شاحب وتمتمات غير مفهومة ونظرات تروغ يمينًا ويسارًا، ثم ابتسامة باهتة على شفاهه اليابسة، غادر “محمد” (50 عامًا) متجرًا لبيع الدواجن بأحد شوارع محافظة الجيزة الملاصقة للعاصمة القاهرة، بعدما صُدم بأسعارها الجديدة (50 جنيهًا للكيلو الواحد مقارنة بـ30 قبل شهرين) التي يراها لم تعد في متناوله وغيره من متوسطي الدخول، عائدًا إلى بيته بخفي حُنين.
حالة من السكون تخيم على الشارع المصري بعدما باتت الحياة اليومية مشقة وجهاد في ظل أوضاع معيشية طاحنة، تزج بالملايين داخل تروس الضغوط الاقتصادية الصعبة، لتطيح بهم في مستنقع الفقر المدقع، ومن ينجح في الإفلات بالكاد يُكفي التزاماته بشق الأنفس، فيما بات الرخاء والادخار رفاهية لا تُمنح إلا لأصحاب الجاه والسلطان والنخب الاقتصادية.
جنون الأسعار والتضخم الذي شهده السوق المصري – كما أسواق العالم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير/شباط الماضي – دفع السواد الأعظم من المصريين للتقشف الإجباري، ليُعاد تشكيل خريطة الأسر الاقتصادية، وتتشكل سياساتها النقدية والمالية وفق رؤية مغايرة تمامًا، تماشيًا مع تلك المستجدات التي لا يعرف أحد متى تنتهي.
الأشهر الثلاث الأخيرة قفزت فيها أسعار السلع لمستويات غير مسبوقة، تجاوزت في بعضها حاجز الـ500%، فيما شهدت السلع الغذائية الإستراتيجية التي تمثل عصب الأمن الغذائي المصري (القمح والمخبوزات والخضراوات واللحوم والدواجن) قفزات جنونية، في مقابل رواتب وأجور متدنية لا تستطيع، من قريب أو بعيد، مسايرة تلك الزيادات الهائلة رغم مساعي الحكومة تخفيف حدة الأضرار.
تقشف إجباري
وجد المصريون أنفسهم مدفوعين بهذا الاضطراب السعري السوقي إلى اتباع سياسات تقشفية إجبارية، فالأمر هنا لم يعد اختيارًا في ظل اتساع الهوة بين الدخل والأسعار من جانب، والاستهلاك والإنفاق من جانب آخر، ليكتشف قطاع كبير من الشعب أن التخلي عن بعض الضرورات السابقة بات أمرًا ملحًا لا يمكن السير عكس اتجاهه.
تقول “شيرين” (45 عامًا) وهي زوجة وأم لثلاثة أبناء، أنها وفي ظل جنون الأسعار الحاليّ على المستويات كافة، اضطرت لتحويل أبنائها من مدارس خاصة إلى أخرى حكومية (تجريبية) بعدما فرض الوضع معادلة الاختيار بين الأكل والشرب من جانب وسداد قسط الدراسة من جانب آخر.
سياسة تصفير الدعم والقفزات الكبيرة في معدلات الدين الخارجي، بجانب الارتكان إلى جيب المواطن لتعويض هذا العجز المستمر، أضفى حالة من اليأس على الشارع
وأوضحت أن دخل الأسرة لا يتعدى 5 آلاف جنيه شهريًا (273 دولارًا) بما لا يكفي احتياجات المأكل والمشرب والملبس للعائلة المكونة من 5 أفراد، هذا بخلاف اضطرارهم لإلغاء اشتراكات الأندية والفسح والمتنزهات وغيرها من الأمور التي حافظت عليها منذ زواجها قبل 15 عامًا، كما كشفت عن تغيرات طارئة في خطة الغذاء اليومي بما يتماشى مع الأسعار الجديدة.
وفي السياق ذاته يوضح “السيد” (50 عامًا) أنه اضطر للبحث عن وظيفة ثانية بعد الظهر حتى يستطيع الوفاء بالالتزامات التي فرضتها الزيادات المتتالية في الأسعار، فبجانب أنه محاسب في إحدى الشركات الحكومية نهارًا يعمل “كاشير” في مطعم خاص في المساء، ويعود لبيته الساعة 12 مساءً.
ويؤكد أنه إن لم يفعل ذلك فلن يجد ما يسد به رمق أبنائه الأربع، كما أنه لن يستطيع دفع كلفة الدروس الخصوصية لابنتيه في مرحلتي الثانوية والإعدادية، رغم حالته الصحية المتدهورة، لافتًا إلى أنه ليس الوحيد الذي لجأ لهذا الخيار في ظل الظروف الحاليّة، فمعظم زملائه في العمل يعملون في وظائف أخرى بعد دوام يومهم الرسمي، حسب حديثه لـ”نون بوست”.
جيب المواطن.. الملاذ الأخير للحكومة
باتت الضرائب المحصلة من “جيوب المواطنين” البند الأكبر في قائمة موارد الدولة الاقتصادية، إذ تشكل نحو 78.5% من إجمالي إيرادات الدولة المصرية، في ظل افتقاد السياسات الاقتصادية الرامية إلى تعزيز مسارات الإنتاج وتنويع مصادر الدخل القومي.
البيان المالي لموازنة العام المالي 2022/2023 كشف عن توقعات الحكومة المصرية زيادة الضرائب خلال العام القادم بنحو 222 مليارًا و420 مليون جنيه، عما كانت عليه في 2021/2022 المقدرة بإجمالي 946 مليارًا و375 مليون جنيه، بزيادة قدرها 23.5%.
أما فيما يتعلق بالضرائب الجمركية، فتتوقع الحكومة زيادة حصيلتها من 41 مليارًا و698 مليون جنيه خلال العام المالي الحاليّ إلى 46 مليارًا و14 مليون جنيه، العام المالي القادم، بزيادة 4 مليارات و316 مليون جنيه، فيما بلغ حجم الإيرادات المتوقعة في العام 2023/2022 نحو تريليون و517 مليار جنيه، منها 235 مليارًا و28 مليون جنيه إيرادات غير ضريبية، مقابل تريليونين و70 مليار جنيه للمصروفات، بعجز نقدي متوقع بنحو 553 مليار جنيه، وعجز كلي بواقع 558 مليار جنيه، وفق ما ذكره البيان.
فيما استحوذ الدين الخارجي الذي بلغ 145.529 مليار دولار بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، على نصيب الأسد في الموازنة الجديدة، إذ ارتفعت مخصصات فوائده إلى 690.1 مليار جنيه، مقارنة بـ579.9 مليارًا في العام 2021-2022، بنسبة زيادة تبلغ 19.2%، وهو الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال على حجم الدعم المخصص للمواطنين.
وفي ضوء الأرقام الواردة في الموازنة الجديدة مقارنة بما كانت عليه في 2012/2013 يلاحظ ارتفاع حجم الضرائب بنسبة 465% منذ الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي في 3 يوليو/حزيران 2013، إذ تجاوز المستهدف من الضرائب تريليونًا و168 مليارًا و795 مليون جنيه (نحو 33 مليار دولار) في العام المالي الجديد، مقابل 251 مليارًا و119 مليون جنيه في 30 يونيو/حزيران 2013.
“اتفرج يا ريس أكل الغلابة أهو”
رسالة أم إلى السيسي بعد أن اضطرت لطبخ عظام الدجاج لأول مرة بسبب غلاء الأسعار pic.twitter.com/qMSuFQbSVM
— شبكة رصد (@RassdNewsN) March 24, 2022
إحباط وفقدان أمل
سياسة تصفير الدعم التي تتبعها الحكومة المصرية خلال السنوات الماضية، والقفزات الكبيرة في معدلات الدين الخارجي في ظل إستراتيجية الاقتراض التي يعتمد عليها النظام الحاليّ لتمرير مشروعاته وخططه التنموية، بجانب الارتكان إلى جيب المواطن لتعويض هذا العجز المستمر، أضفى حالة من اليأس على الشارع المصري الذي فقد جزءًا كبيرًا من ثقته في قدرة السلطة الحاكمة تحسين الأوضاع مستقبلًا.
ومن باب تأكيد حالة الإحباط تلك كشف رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، عن تراجع توقعات النمو الاقتصادي للعام المقبل من 5.5% في مارس/آذار الماضي إلى 4.5% خلال العام المالي 2022/2023، وذلك خلال بيانه الذي ألقاه في أثناء مشاركته بمؤتمر نظمته غرفة التجارة المصرية الأمريكية بمناسبة زيارة وفد البعثة التجارية الخضراء الأمريكي إلى القاهرة، الإثنين 16 مايو/أيار 2022.
الجرأة في التعبير عن حالة الاختناق المعيشي، في ظل إستراتيجيات الترهيب المتبعة، أثارت قلق وحفيظة السلطات التي بدأت تسيير دورياتها وتمركزاتها الأمنية في الشوارع الرئيسية والميادين
البيان تضمن كذلك لجوء الحكومة إلى طرح مجموعة من الشركات التابعة للقطاع العام (بينها 10 شركات لقطاع الأعمال العام، وشركتان تابعتان للقوات المسلحة ) في البورصة المصرية، هذا بجانب الكشف عن خطة لدمج أكبر 7 موانئ في البلاد تحت مظلة شركة واحدة (لم يسمها)، وفتح باب الاستثمار الأجنبي فيها، بهدف النزول بالدين العام من 86% إلى 75% على مدار 4 سنوات مالية، بحسب رئيس الحكومة المصري.
ومن المؤشرات التي عمقت فقدان الثقة في تحسن الوضع خلال الفترة المقبلة، هروب الاستثمارات الأجنبية من مصر خلال الأشهر الماضية، المقدرة بأكثر من 17 مليار دولار، التي رغم إرجاعها إلى الحرب الروسية وزيادة الولايات المتحدة معدلات الفائدة البنكية، فإنها أعطت مؤشرًا سلبيًا عما هو قادم.
قلق من الانفجار الشعبي
لم يجد المصريون بدًا أمام تلك الأجواء الضبابية إلا التعبير عن حالة الغضب والاستياء مما آلت إليه أمورهم المعيشية، وهو ما تكشفه التدوينات والمنشورات على منصات التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى متنفس للكثير من المطحونين رغم القيود الأمنية والتضييقات الممارسة والعقوبات الموقعة على البعض بسبب مثل تلك المنشورات، لعل آخرها إلقاء القبض على إحدى الفرق الفكاهية (ظرفاء الغلابة) بسبب فيديو مصور لهم عن ارتفاع الأسعار.
الجرأة في التعبير عن حالة الاختناق المعيشي، في ظل إستراتيجيات الترهيب المتبعة، أثارت قلق وحفيظة السلطات التي بدأت تسيير دورياتها وتمركزاتها الأمنية في الشوارع الرئيسية والميادين، خشية حدوث أي احتجاجات شعبية لا يمكن السيطرة عليها، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة.
وحاولت السلطات، الرئيس والحكومة معًا، بجانب أدوات القوى الناعمة الأخرى (وزارة الأوقاف ودار الإفتاء ومنصات الإعلام المختلفة) بث رسائل طمأنة للمواطنين بأن الأوضاع تحت السيطرة وأن ما يحدث مجرد حدث عابر وأزمة عالمية وليست مصرية خالصة، في محاولة لامتصاص الغضب المتصاعد الذي بلغ مستويات لم يصل إليها طيلة السنوات السبعة الماضية.
وما بين واقع معيشي خانق يحياه المواطن على مرأى ومسمع من الجميع ليلًا ونهارًا، ومستقبل غامض مفقود الثقة، يقبع المصريون في انتظار مصير مجهول، بين مطرقة حرب روسية أوكرانية وتداعيات سنوات الجائحة، وسندان سياسات اقتصادية فاشلة غيرت مسار موارد الدولة من دعم شعبها إلى سداد فاتورة الاقتراض المغلظة.