الحكم المحلي في الشمال السوري.. فرص وتحديات

واقع-الحوكمة-الأمني-في-إدلب-1

NoonPodcast نون بودكاست · الحكم المحلي في الشمال السوري.. فرص وتحديات

تكتظُّ الأدبيات المعاصرة بتعريفات كثيرة، تحاول تحديد ورسم السمات الأساسية لفهم أداء سير منظومة الحكم، ووضع المؤشرات المعيارية لآليات “الحكم الرشيد” للأنظمة السياسية المختلفة، والحكومات المحلية في بلد ما.

وتمثّل المشاركة الفعّالة والكفوءة، وسيادة القانون، والشفافية والمساءلة؛ المؤشرات الرئيسية للحوكمة الرشيدة الأبرز ضمن تعريف ومعايير لجنة المفوضية السامية لحقوق الإنسان والحكم الرشيد في الأمم المتحدة، ومن خلال هذه المؤشرات يتمُّ عادةً تحليل الأداء الحكومي وفهمه وتقييمه، من ناحية تطبيق نظام الحكم الرشيد وآلياته.

سيحاول التقرير الآتي من خلال هذه المؤشرات ذاتها فهم واقع الحوكمة وأداء السلطات المحلية (الجيش الوطني/ الحكومة السورية المؤقتة) في مناطق شمال غرب سوريا، في محاولة للخروج ببعض التوصيات المستخلَصة من واقع وطبيعة آليات الحكم التي عُمل ويُعمَل بها حاليًّا في تلك المناطق، والوقوف على بعض التحديات والعوائق، كمحاولة لبحث سُبل تعزيز وتفعيل الحوكمة في ظلّ التطورات الحالية، لتكون نموذجًا يُحتذى به لسوريا المستقبل.

اقتناص فرصة الثورة

عبث نظام الأسد منذ استيلائه على السلطة عام 1963 بمكوِّنات وتوازنات المجتمعات المحلية السورية، عبر فرضه سياسات تحكُّم وسيطرة ممنهجة على المساحة الاجتماعية للشعب السوري، لضبط حركية تلك المجتمعات وتفاعلاتها بما يتناغم مع حساباته السياسية الخاصة، بوصفه نظام قمعٍ استبداديٍّ.

وقد فعل هذا لأنه كان يخشى بروز قوى محلية تحظى بشرعية واستقلال نسبي قد تهدِّد وجوده وبقاءه في السلطة، مبقيًا عملية صنع القرار مركّزة في أيدي الأجهزة الأمنية التي تدخّلت في دقائق القرارات الإدارية، فضلًا عن مراقبة النشاطات السياسية والمجتمعية في سوريا.

وقد أفرزت هذه العبثية في إدارة المجتمعات المحلية الداخلية نتائج كارثية، ستظل ماثلة أمام تحرر المجتمع السوري لفترات متعاقبة، تمثلت بإحداث تصدُّع مجتمعي وتفكُّك الهياكل الاجتماعية (العرقية والمذهبية)، وإفقار المكونات المحلية لخبرات العمل السياسي والمجتمعي والتنظيمي والمدني الحقيقي، وفقدان الثقة بين مختلف المكونات الشعبية السورية بسبب سياسة النظام القائمة على منطق “الدولة الاستخباراتية”.

وقد انعكس ذلك لاحقًا على العلاقة بين المجتمع السوري والمؤسسات الثورية المعارضة من حيث غياب الثقة المتبادلة، وهو ما عزّزه انعدام الخبرة المؤسساتية لدى المؤسسات المعارضة وغياب الشفافية والكفاءة.

يرزح الشمال السوري تحت وطأة الفوضى الأمنية وبيئة عدم الاستقرار نتيجة التوترات الأمنية والاجتماعية التي تضرب تلك المناطق

ومع انطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011، تشكّلت فرصة فريدة لمختلف القوى المحلية للتعبير عن نفسها ووجودها السياسي والتنظيمي، ففي بداية الثورة لم تكن الجموع السورية الثائرة مضطرّة إلى مأسسة حراكها أو إدارته بشكل ممنهج، نظرًا إلى غلبة الظنّ لديها بقرب انهيار النظام، مقارنة بحالة تونس ومصر وليبيا واليمن، إلى جانب غياب معارضة سياسية منظَّمة وفاعِلة قادرة على توجيه الحراك.

ولكن مع طول أمد الثورة السورية وخروج مناطق واسعة من الجغرافيا السورية عن سيطرة نظام الأسد، بعد تطور الأوضاع السياسية والعسكرية في سوريا، ظهرت حاجة ملحّة لتفعيل المسار السياسي والمدني لقيادة الحراك الثوري، سياسيًّا وإغاثيًّا ومدنيًّا وإداريًّا، بحيث يكون بديلًا حوكميًّا لمؤسسات النظام.

وكان ذلك بهدف ملء الفراغ الإداري الذي شكّله غياب مؤسسات الدولة، ولاحقًا منافسة تلك المؤسسات إقليميًّا ودوليًّا لكسب الشرعية الدولية وسحبها من نظام الأسد، فانبثق عدد من المؤسسات تفاعلت مع مجريات الأوضاع الميدانية والسياسية في البيئة السورية ومحيطها الإقليمي الدولي المعقّد.

ومع وصول الواقع السياسي والميداني السوري إلى حالة من “الجمود”، وتعقُّد مسارات الحل السياسي بعد سنوات عديدة على انطلاق تجربة المؤسسات المحلية (من مجالس محلية ومؤسسات معارضة رسمية)، يبدو من الضروري بمكان تسليط الضوء على واقع الأداء الحوكمي الحالي في مناطق شمال غرب سوريا، وما تتعرّض له من صعوبات ومعوقات وتحديات محلية وخارجية تهدد عملية الحوكمة برمّتها، في ظلّ تنامي الاحتياجات الخدمية للسكان المحليين في المناطق الشمالية الغربية.

واقع الحوكمة في الشمال السوري

يرزح الشمال السوري تحت وطأة الفوضى الأمنية وبيئة عدم الاستقرار، نتيجة التوترات الأمنية والاجتماعية التي تضرب تلك المناطق، وسط احتكاكات مسلحة مستمرة بين الفصائل العسكرية في مختلف مناطق العمليات التركية (درع الفرات، غصن الزيتون ونبع السلام).

ويتم ذلك جرّاء طغيان الفصائلية والتنافس على الموارد وتوسيع دائرة النفوذ على الواقع الاجتماعي في الشمال السوري، في ظلّ غياب الدور الفعّال للجيش الوطني، كقوة إدارية مركزية جامعة لمختلف القوى العسكرية قادرة على إنهاء حالة التنافس والاقتتال الداخلي بين مختلف القوى الفصائلية، وقادرة على حفظ الأمن والنظام، نتيجة غياب القرار الوطني ضمن مؤسسة الجيش الوطني ودخوله في متاهة الاصطفافات والانقسامات.

كما تفتقر البنى العسكرية والأمنية شمال غربي سوريا في العموم إلى الحوكمة، نتيجة غياب المسؤولية والكفاءة، فضلًا عن غياب الموارد الذاتية اللازمة التي تعطيها نوعًا من الاستقلالية وتساهم في تعزيز الاستقرار في تلك المناطق.

من جهة أخرى، يعرَّف مفهوم “سيادة القانون” في الحكم الرشيد بأنه تنظيم آليات الحكم بموجب القوانين الناظمة والعادلة، ويُعتبر تحقيق الشرعية والاستقلال والمساواة أمام القانون، دون الانحياز إلى أي طرف من الأطراف، جزءًا أصيلًا من أصول هذا الحكم الرشيد.

وفي حالة الشمال السوري، يعاني القطاع القضائي عمومًا من مشاكل عديدة شوّشت عملية القضاء، وأدّت إلى تحييد المؤسسة القضائية وتغييب دورها الفاعل في عملية إدارة الشمال السوري، ولعل ّأبرزها: هيمنة الفصائل العسكرية وتدخُّلها في قرارات وتوجُّهات المؤسسة القضائية، والذي أدّى بدوره إلى تعدُّد المحاكم على أساس فصائلي، ما حدَّ من مساحة الاستقلالية لدى السلطة القضائية.

هذا إلى جانب صعوبات متعلقة أساسًا بتخبُّط المرجعيات القانونية والتنظيمية، ونقص الكوادر والخبرات، ومشاكل في التمويل ونقص الدعم، وافتقار المؤسسة القضائية إلى القوة اللازمة لتنفيذ كثير من القرارات، خاصة تلك التي تمسُّ بعض العناصر وقيادات الفصائل، وتهديدات أمنية مستمرة من عمليات اغتيال للقضاة، واستهداف مباشر من قبل نظام الأسد للمقارّ التابعة للمحاكم والمؤسسات القضائية.

يبدو أن تغيُّر مزاج الفاعلين الدوليين والإقليميين في التعاطي مع الملف السوري، لا سيما الذين يدعمون قوى الثورة والمعارضة، يلعب دورًا مهمًّا في سير عملية الحوكمة في الشمال السوري

تلقى قرارات ونشاطات الحكومة السورية المؤقتة الكثير من الانتقادات الشعبية، نظرًا إلى غياب مبدأ الشفافية والمكاشفة في آلية عمل الحكومة، فضلًا عن غياب آلية معيّنة لتسهيل تدفُّق المعلومات الموثوقة بين مؤسسات الحكومة إلى الفئات المجتمعية، التي من خلالها تستطيع هذه الفئات معرفة كيف تمّت الاستجابة للقرارات التي تتّخذها الحكومة ودرجة تنفيذها وتطبيقها. 

علاوة على ذلك، يغيبُ دور الحكومة السورية المؤقتة كسلطة تنفيذية فاعلة في الشمال السوري، ويظهر عجزها في تحقيق منجزات عملية ميدانية، رغم الدعم المادي والسياسي الذي تحظى به، ويبدو أنَّ هذا الأداء المتردي مرتبطٌ بشكل كبير بالظروف السياسية والعسكرية للمنطقة المحكومة بتفاهُمات القوى الدولية، وخضوعها لتقديرات الإدارة التركية التي يتّسم تعاطيها مع مختلف قضايا الحكم المحلي (القانوني والخدمي والعسكري والسياسي) بعدم الوضوح والفاعلية.

وقد شكّل هذا حالةً من عدم الاستقرار والتشتُّت والتوتر وتعقيد العملية الحوكمية، وذلك مع إعطاء الجانب التركي المؤسسات العسكرية أولوية على باقي المؤسسات المدنية، مع غياب شبه كامل للإدارة المدنية والقضائية، وإخضاع المنطقة إداريًّا لمرجعيات متعددة، حيث تتبع كل منطقة من مناطق الشمال إداريًّا لولاية تركية مختلفة عن الأخرى.

ويبدو أنَّ تغيُّر مزاج الفاعلين الدوليين والإقليميين في التعاطي مع الملف السوري، لا سيما الذين يدعمون قوى الثورة والمعارضة، يلعب دورًا مهمًّا في سير عملية الحوكمة في الشمال السوري.

فمع ميل كفّة السيطرة العسكرية في سوريا لصالح نظام الأسد وروسيا، وتزامنه مع انسحاب جزئي أمريكي من شمال شرق سوريا، وتفاقُم مشكلة اللاجئين في العالم، وتزايُد تعاطي الدول مع الجانب الإنساني والأمني على حساب الجانب السياسي والقضايا المرتبطة بها؛ شهدَ المشهد السوري تعاطيًا مختلفًا مع نظام الأسد، وحرصت مختلف الفواعل الدولية والإقليمية على تقييم علاقتها معه في ضوء مصالحها الأمنية.

وانعكسَ ذلك بطبيعة الحال على مؤسسات المعارضة السورية، وبالتالي على عملية الحوكمة التي تقوم بها هذه المؤسسات في مناطق نفوذها في الشمال السوري، وذلك من حيث خفوت الاهتمام الدولي لإنجاح مشروع مُنافس لمؤسسات النظام، ورفعها الدعم نسبيًّا عن تلك المؤسسات.

كما أن خضوع المنطقة لتفاهمات تركية روسية يجعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى هيئة حكم قانونية مركزية، لها سلطتها التنفيذية الواضحة دون التنسيق والتفاهم التركي مع روسيا، التي لا ترغب بوجود حكومة منافسة لحكومة حليفها الأسد، ما يعني بقاء عملية إنجاح الملف الحوكمي في الشمال السوري رهين التوافقات الدولية، لما في نجاح هذا النموذج من تأثير مباشر على مجريات الحل السياسي النهائي في سوريا، وعلى مصالح مختلف القوى الدولية المنخرطة في المشهد السوري.

خاتمة

تلوح في الأفق فرصة وجوانب إيجابية قد تنشأ من تقلُّبات البيئة السياسية الدولية، نتيجة تغيُّر ملامح قواعد الاشتباك والتنافس على الصعيد الدولي، إثر الصراع المحموم بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، وحتمية تأثُّر الملف السوري بتبعات ذلك مع طول أمد الصراع وتشعُّبه وتعقُّد المشهد هناك، وتشارُك الساحتَين السورية والأوكرانية بالفاعلين المتنفّذين وتشابُك مصالحهم في كلا البلدَين.

ويتمُّ هذا في ضوء ظهور بوادر تقارب تركي أمريكي/ غربي في سوريا، وبهذه الحالة يترتّب على قوى الثورة والمعارضة السورية تلقُّف هذه الفرصة والاستفادة منها بما يخدم تموضعها الحوكمي في مناطق نفوذها، وبما يعزّز حضورها في المحافل السياسية الإقليمية والدولية بعد ترتيب أوراقها وتعزيز شرعيتها الداخلية. 

وترتبطُ عملية إصلاح مسار الحوكمة والمنظومة الإدارية لمؤسسات المعارضة السورية بمدى فاعلية وجدّية الجانب التركي في إنجاح هذا المسار، لما للوزن التركي من حضور مهم وحاسم في مناطق الشمال السوري، وهو ما يستوجب تحرُّكًا سوريًّا تركيًّا مشترَكًا لإعادة بناء المؤسسات المدنية وتفعيل دور الحكومة المؤقتة وتوسيع صلاحياتها في إدارة المنطقة.

وقد يتمّ ذلك بإيجاد صيغة معيّنة لبلورة شرعية شعبية، مع العمل على إقامة انتخابات دورية داخلية لتوسيع المشاركة الشعبية، وتحقيق نوع من التمثيل العادل لمختلف المكونات المتواجدة في تلك المناطق وإشراكها في إدارة المنطقة، بما يتجاوز العلاقات المبنية على المناطقية والقَبَلية.

وأيضًا بتحقيق نوع من الانخراط الإداري لباقي المكونات المجتمعية من المهجّرين السوريين والفئات الكردية، لا سيما في المناطق ذات الغالبية الكردية في الشمال السوري، بحيث تصبح تلك المناطق مثالًا حوكميًّا تحتذي به باقي المناطق السورية، ونموذجًا مصغّرًا لسوريا المستقبل.