تهجَّر المُزارع عبد الكريم أبو عيش، من أهالي مدينة تادف في ريف حلب الشرقي، أثناء سيطرة تنظيم الدولة “داعش” على المدينة منذ ما يقارب 7 أعوام، ما دفعه إلى الإقامة في بيت متواضع ضمن الأراضي الزراعية شرقي مدينة تادف، بعدما تقطّعت به السبل مثله مثل باقي سكان المدينة المهجَّرين.
يُنهي الشاب عمله في المياومة، بعدما كان يعمل في الأراضي الزراعية الخاصة بأسرته، التي باتت تحت سيطرة نظام الأسد، حتى يلتحق إلى جانب أقاربه وأبناء مدينته في الاعتصام المفتوح، الذي تشهده المدينة منذ عدة أيام على التوالي.
يعاني أبو عيش من أوضاع معيشية صعبة للغاية، حيث لا يتوفّر في المنطقة التي يقيم فيها شيء من مقومات الحياة، كونها قريبة من خطوط التماسّ مع قوات نظام الأسد، إلى جانب انعدام الأمن وغياب الاستقرار، وتعرُّض موقع سكنه الحالي للتهديد المباشر جرّاء القصف والاشتباكات المتقطعة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “عندما خرجنا قبل 7 أعوام من منازلنا، على وقع القذائف والبراميل وسيطرة تنظيم “داعش”، كان لدينا أمل بعودة قريبة إلى منازلنا وممتلكاتنا التي تركناها خلفنا، لكن ما يحصل اليوم بات أمرًا مخيفًا بالنسبة لنا نحن المهجّرين، بعدما وصل الساتر الترابي إلى الحدود الإدارية للمدينة، إذ أصبح يهدِّد عودتنا المنتظرة إلى مدينتنا التي سُلبت منّا”.
وأضاف: “سيعزل هذا الخندق الترابي مدينة تادف عن المناطق المحرَّرة، وسيمنع من العودة إليها كونها، أي تادف، ستصبح تحت سيطرة نظام الأسد، الذي قتلَ وهجّرَ السوريين من بلادهم عنوةً بعدما اغتصب منازلهم”، وطالبَ “بإيقاف حفر الخندق وتحويله إلى الحدود الإدارية الجنوبية لمدينة تادف، ومنع نظام الأسد من السيطرة عليها”.
أبو خليل، من أهالي مدينة تادف ويعمل موظفًا حكوميًّا في مدينة الباب بريف حلب الشرقي، تهجّر من مدينة تادف قبل 6 سنوات، بعدما سيطر نظام الأسد على نصفها وسيطرت قوات الجيش الوطني على النصف الآخر، عقب طرد تنظيم “داعش”، قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “عندما سيطر الجيش الوطني على أجزاء من المدينة بعملية “درع الفرات” ضدّ “داعش”، تلقّينا العديد من الوعود بالعودة إلى منازلنا إلا أنها لم تكن واقعية حتى اللحظة، رغم أن العملية انتهت قبل ما يزيد عن 5 سنوات، ولا يزال النظام يسيطر على معظم أحياء المدينة”.
وأضاف: “إننا نرفض تسليم مدينة تادف للنظام، نحن أحقُّ بمنازلنا، وهذا الساتر الترابي سيمنعنا من العودة إليها إلى الأبد، لا سيما أن رسم هذه الحدود أو ما يُعرَف بالساتر الترابي سيكون لفترة لن تكون قصيرة، ما سيجعلنا مهجَّرين في أصقاع الأرض حتى فترة زمنية نجهل مدّتها”.
وبدأ أهالي مدينة تادف والمهجّرون والمقيمون فيها احتجاجًا مفتوحًا يوم الخميس 12 مايو/ أيار الجاري، ذلك عند آخر نقطة وصل إليها الساتر الترابي الواقع شمال شرق مدينة تادف، حيث لا تزال تشهد المدينة احتجاجات متواصلة منذ مطلع أبريل/ نيسان الماضي.
أسباب الاحتجاجات
رغم مضيّ 4 أيام على الاعتصام المفتوح الذي ينفّذه الأهالي، عقب قيام الجيشَين الوطني السوري والتركي بحفر خندق ورفع ساتر ترابي على خطوط التماسّ المواجِهة لقوات نظام الأسد والميليشيات الموالية له، إلا أنهم ما زالوا مستمرين حتى تحقيق مطالبهم، ومنع فصل المدينة عن المناطق المحررة التي تسيطر عليها المعارضة السورية.
وبدأ الجيش التركي بالتعاون مع الجيش الوطني، مطلع أبريل/ نيسان الماضي، بحفر خندق ترابي يصل عمقه إلى 4 أمتار، ورفع ساتر، يصل ارتفاعه إلى 4 أمتار أخرى أيضًا، يعزل بين مناطق سيطرة المعارضة المدعومة من قبل تركيا في ريفَي حلب الشمالي والشرقي وقوات نظام الأسد.
وانطلقت عمليات حفر الخندق عند التقاء السيطرة الثلاثية بين “قسد” – المعارضة – النظام، محيط مدينة منبج بريف حلب الشرقي، وبالتحديد محيط قرى السكريات والتفريعات، والتي تبعد مسافة نحو 18 كيلومترًا عن مدينة تادف باتجاه الشرق، بالتوازي مع خطوط التماسّ مع نظام الأسد.
دفعَ ذلك الأهالي إلى الاحتجاج خلال شهر أبريل/ نيسان الماضي، خشية وصول الخندق إلى المدينة وعزلها عن المناطق المحررة، إلا أن ما كان متوقعًا أصبح حقيقيًّا خلال الأسبوع الماضي، عندما وصلَ الخندق الترابي إلى الحدود الإدارية لمدينة تادف، ما دفعَ الأهالي إلى نصب خيمة اعتصام احتجاجية لوقف زحف الساتر الترابي.
وتسبّب الساتر في إثارة مخاوف الأهالي الذين هُجِّروا من مدينة تادف، حيث معظمهم نازحين ومهجّرين في مدن وبلدات الشمال السوري ولاجئين في تركيا، ويقيم عدد من العائلات في الأحياء التي تسيطر عليها قوات الجيش الوطني السوري، بحسب ما أوضح مصطفى الحامد، أحد القائمين على تنظيم الاعتصام.
وقال الحامد في حديث مع “نون بوست”: “يهدف الساتر الترابي، والذي يرسم حدودًا على خطوط التماسّ مع مدينة تادف، إلى العزل عن مناطق المعارضة، وهذا يمنع الأمل لدى الأهالي من العودة إلى منازلهم مرة أخرى، ويجعل المدينة تحت سيطرة نظام الأسد، وفي حال سيطر النظام عليها لن يستطيعوا العودة إليها مجددًا لأسباب أمنية”.
وأضاف: “خلال الاحتجاجات السابقة، برّرت قوات الجيش الوطني، نقلًا عن الجيش التركي، أن حفر الخندق يهدف إلى الحفاظ على منطقة ريف حلب الشرقي أمنيًّا، ووقف عمليات التسلُّل التي تجريها قوات النظام نحو المنطقة، إلا أن الأهالي واجهوا حفر الخندق بالرفض كونه يعرّض المدينة للتقسيم وتسليمها للنظام”.
مطالب الأهالي
بعد مرور أسابيع على الاحتجاجات وصولًا إلى تنظيم خيمة اعتصام، استطاع أهالي مدينة تادف رفع مطالبهم للجيشَين الوطني السوري والتركي في المنطقة، معبّرين عن رفضهم القاطع لعزل مدينتهم عن باقي المناطق المحررة.
وقال حسن علي العسكري، أحد أعضاء مجلس وجهاء مدينة تادف، في حديث مع “نون بوست”: “نرفضُ مرور الساتر الترابي من شمال مدينة تادف، لأنه سيتسبّب في سيطرة النظام على منازلنا، ونطالب بتحويله إلى الجهة الجنوبية وعدم عزل المدينة عن المناطق المحررة”.
وأضاف: “من غير المعقول أن يقتطع الخندق شبرًا واحدًا من الأراضي المحررة، ويهجّر أهالي المدينة نحو المجهول، وجُلّهم تقطّعت بهم السبل ليسكنوا في منطقة تعتبر خطَّ نار دائم لا يتوقف فيها إطلاق النار”.
وأوضح: “تمَّ رفع المطالب خلال اجتماع عُقد مع القاعدة التركية في شرق حلب، لكن الأتراك صرّحوا أنهم ينّفذون اتفاقيات دولية، ولا يستطيعون فعل شيء في الوقت الحالي سوى إيقاف الحفر دون تحقيق المطالب”.
ويسيطر الجيشان الوطني السوري والتركي على الأحياء الشمالية الشرقية والمزارع المحيطة بها، وحي الكريزات غرب مدينة تادف، بينما تسيطر قوات نظام الأسد على الأحياء الجنوبية من المدينة التي دمّرتها ميليشيات نظام الأسد.
ورغم نزوح وتهجير مئات العائلات إلى ريفَي حلب الشمالي والشرقي، يعيشُ في الأحياء الشمالية الشرقية والمزارع وحي الكريزات غربي مدينة تادف نحو 2000 عائلة، في ظلّ انعدام الخدمات وغياب كُلّي لمقومات الحياة، ما دفع الأهالي إلى افتتاح مدارس ابتدائية لتعليم أبنائهم رغم اشتراك نظام الأسد في السيطرة على المدينة، ويدرس فيها نحو 1000 طالب وطالبة.
وتسبّب تنظيم “داعش”، الذي سيطر على مدينة تادف وعدد من المدن والبلدات المحيطة عام 2014، في تقسيم البلدة، بعد انطلاق عملية “درع الفرات” التي شنّتها قوات المعارضة بدعم تركي على معاقل تنظيم “داعش” في ريفَي حلب الشمالي والشرقي، إلا أن العملية لم تكتمل للسيطرة على تادف بسبب انسحاب تنظيم “داعش” لحساب نظام الأسد منها، في الربع الأول من عام 2017.
وقد شنَّ النظام حملة عسكرية مماثلة في التوقيت ذاته على ريف حلب الشرقي لمحاربة تنظيم “داعش”، ما جعل قوات المعارضة والجيش التركي بمواجهة مباشرة مع قوات نظام الأسد في مدينة تادف حتى يومنا هذا، دون السيطرة عليها بالكامل بين الطرفَين.
وتشكِّل مدينة تادف أهمية لوقوعها على طريق M4 الدولي، الذي يعبر في الأحياء الشمالية منها تجاه مدينة منبج ومدينة الباب بريف حلب الشرقي، ويربط بين الشرق والغرب السوري، وطريق M5 الدولي، حيث دخل هذان الطريقان ضمن تفاهمات دولية سابقة بين روسيا وتركيا، والتي وصلت إلى طرق مسدودة، فيما يجهل آلاف المهجّرين والنازحين السوريين مصيرهم.