“ابنكم مات.. تعالوا استلموا الجثة”، بهذه العبارة القصيرة تفاجأت عائلة الباحث الاقتصادي والناشط السياسي المصري أيمن هدهود بخبر وفاته في ظروف غامضة، بعد شهرَين من اختفائه قسرًا منذ 5 فبراير/ شباط 2022، وبعد البحث عنه وجدوه في مستشفى الأمراض العقلية، عقب احتجازه بصورة غير قانونية في مقرّ الأمن الوطني في منطقة القاهرة، حيث تعرض فيه للتعذيب الشديد.
أمرت النيابة العامة بتشريح جثمان الضحية المحتجز في ثلاجة الموتى لنحو 36 يومًا، لمعرفة أسباب الوفاة الغامضة، لكن تضارُب الروايات بين وزارة الداخلية التي تنفي مسؤوليتها والمستشفى التي أنكرت وجوده بها، وحذّرت موظفيها من الحديث عن القضية، أثار موجة من الشكوك بخصوص تورطهما بإخفاء أيمن ثم قتله، وذلك حسب نشطاء، بسبب آرائه، وبسبب انتقاده للسياسات الاقتصادية للسلطات وبحثه في اقتصاد الجيش كما تقول صحيفة “نيويورك تايمز”.
أيمن هدهود (42 عامًا) هو باحث اقتصادي تخرّج في الجامعة الأمريكية، وكان يعمل مراقبًا ماليًّا بها، كما عمل في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو عضو في الهيئة العليا لحزب الإصلاح والتنمية الممثَّل في البرلمان، وكان مستشارًا اقتصاديًّا لرئيس الحزب وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان والبرلماني السابق محمد أنور السادات، الذي ساهمَ بعلاقاته مع السلطات في الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين خلال الفترة الماضية.
في النهاية، قالت النيابة العامة إن تحقيقاتها حول وفاة هدهود انتهت إلى عدم وجود شبهة جنائية، واعتبرت أن الإخوان المسلمين هم من يروِّجون لشائعة إخفائه وقتله، لكن الأمر الأشد صدمة قولها إنها أودعته مستشفى الأمراض النفسية بسبب إتيانه بـ”تصرفات غير مسؤولة”.
واستندت الوزارة في بيانها إلى تقرير مصلحة الطب الشرعي الذي أكّد أن الوفاة جاءت نتيجة حالة مرضية مزمنة بالقلب، فضلًا عن خلو جسده من أي آثار إصابة تشير إلى حدوث عنف أو مقاومة، كما خلت الأوراق من أي شواهد أخرى ترجِّح الاشتباه في وفاته جنائيًّا.
وكما في حالة هدهود المأساوية والمروعة، شهدت الحياة الأكاديمية في مصر حالات مماثلة من الاعتقالات والاحتجاز والتعذيب، وانتهت حياة الكثير من الطلاب والعلماء والباحثين والأكاديميين على يد قوات أمن الدولة على مدار السنوات العديدة الماضية، حتى أصبحت مصر مكانًا خطيرًا للبحث الأكاديمي وحرية التعبير، للباحثين المصريين والأجانب على حد سواء.
لا تزال مصر تحتلّ المرتبة الأدنى في مؤشر الحرية الأكاديمية، وتأتي ضمن الفئة الخامسة والأخيرة كواحدة من الدول التي تحظى بأسوأ أداء عام 2020
فنّ ملاحقة الباحثين والأكاديميين
تستند الحرية الأكاديمية بشكل مستقل ومترابط إلى الحق في حرية الرأي والتعبير والحق في التعليم، على النحو المنصوص عليه، على التوالي، في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، التي تضمن “حرية التماس وتلقّي ونقل المعلومات والأفكار من جميع الأنواع”، والمادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تقرُّ بحق كل فرد في التعليم.
أقرّت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بأن الحق في التعليم الوارد في هذه الأحكام “لا يمكن التمتع به إلا إذا اقترن بالحرية الأكاديمية للموظفين والطلاب”، كذلك يحمي الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب (ACHPR) في المادة 9 بالمثل الحق في تلقي المعلومات و”التعبير عن الآراء ونشرها ضمن القانون”.
رغم الأحكام المذكورة في الصكوك الدولية، والتي تعدّ مصر طرفًا فيها، لا تزال هناك انتهاكات للحرية الأكاديمية أيضًا، وتتجلى في كثير من الأحيان على أنها انتهاكات لحقوق أخرى، بما في ذلك حرية وأمن الشخص، وحرية التنقل، وحرية التجمع، وحرية تكوين الجمعيات.
في الواقع، لا تزال مصر تحتلّ المرتبة الأدنى في مؤشر الحرية الأكاديمية، وتأتي ضمن الفئة الخامسة والأخيرة كواحدة من الدول التي تحظى بأسوأ أداء عام 2020، وأكّد التقرير الصادر عن المعهد العالمي للسياسات العامة (GPPi)، أن العلماء والطلاب في مصر يتمتعون بحرية أكاديمية أقل من نظرائهم في أي مكان آخر في العالم، حيث تفنّن النظام المصري منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي في فرض ضروب من القيود على جميع الأنشطة الطلابية والأكاديمية، تضمّنت قتل واعتقال وفصل طلاب وأساتذة.
يرصد استعراض دوري مشترك لمؤسسة “علماء في خطر” و”حرية الفكر والتعبير”، في الفترة بين أكتوبر/ تشرين الأول 2014 ومارس/آذار 2019، تآكُلًا كبيرًا في الحقوق في مجال التعليم العالي، بما في ذلك الضغوط القانونية على مساحة الجامعة، وكذلك الاعتقالات والعنف (بما في ذلك القتل) والقيود المفروضة على السفر والإجراءات الإدارية والتأديبية التي تستهدف أعضاء مجتمع التعليم العالي.
وتقدِّم المؤسستان مزيدًا من التفاصيل حول عدد من الحوادث التي تنطوي على أعمال عنف واعتقالات غير مشروعة وإجراءات تأديبية جامعية ضد العلماء والطلاب، وتشمل قتل 4 طلاب على الأقل، واعتقالات جماعية لأكثر من 800 طالب متظاهر وآخرين منخرطين في التعبير داخل الحرم الجامعي، والعقوبات الإدارية، بما في ذلك الطرد، لأكثر من 600 طالب، وكذلك العقوبات الإدارية والتأديبية لما لا يقلّ عن 7 أساتذة أو موظفين جامعيين بسبب التعبير السياسي والأكاديمي.
تشمل الهجمات والضغوط على التعليم العالي في مصر أيضًا القيود المفروضة على السفر، بما في ذلك رفض دخول ما لا يقلّ عن 5 علماء دوليين، والسياسات المفروضة على مستوى المؤسسة التي تحدُّ من السفر الأكاديمي في جامعتَين على الأقل، والترحيل التعسُّفي الفعلي أو التهديد لعشرات الطلاب الإيغور الصينيين الذين يدرسون في مصر، بالإضافة إلى ذلك الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية بهدف منع العلماء من دخول البلاد لإلقاء محاضرات وحضور المؤتمرات ونقل الأفكار بأي طريقة.
يُضاف إلى ذلك التشريعات والمراسيم التنفيذية التي تهدِّد بتقويض استقلالية الجامعات، سواء من خلال منح الجهات الفاعلة السياسية خارج الحرم الجامعي بعض السيطرة على إدارة الجامعة، وبصورة أشد عن طريق وضع السلطات العسكرية كمسؤول عن مراقبة الأنشطة داخل الحرم الجامعي، وتحويل بعض “الجرائم” أو “الهجمات” الغامضة التعريف على الجامعات إلى اختصاص المحاكم العسكرية وليس المدنية، وبموجب هذه التعديلات وردَ أن آلاف الطلاب المتظاهرين تعرّضوا للملاحقة العسكرية، من بينهم الطلاب الذين شاركوا في الاحتجاجات داخل الحرم الجامعي.
تتخطى مستويات القمع هذه كل ما عرفته البلاد قبل وصول السيسي إلى السلطة، فبعدما أجاز الرئيس الراحل محمد مرسي لأعضاء الهيئات التعليمية انتخاب عمداء الجامعات ورؤسائها بأنفسهم، منحت التعديلات التي أقرّها السيسي على قانون تنظيم الجامعات في يونيو/حزيران 2014 سلطة تعيين رؤساء الجامعات والقيادات الأخرى، والسماح لرؤساء الجامعات بطرد الطلاب من جانب واحد بسبب مجموعة واسعة من الجرائم، بما في ذلك “تخريب العملية التعليمية، وتعريض المرافق الجامعية للخطر، واستهداف الأكاديميين والموظفين الإداريين أو التحريض على العنف في الحرم الجامعي”.
خلال العامَين اللذين أعقبا تولي السيسي السلطة، أصدر المسؤولون الحكوميون العديد من المراسيم التي قللت من قدرة الاتحادات الطلابية على إدارة شؤونهم وتنظيم فعالياتهم
في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أصدر السيسي قرارًا بمنح رئيس جامعة الأزهر نفس صلاحيات رؤساء الجامعات الحكومية، وهي أن يكون قادرًا على طرد الطلاب دون المرور بمجالس تأديبية، تبع ذلك -بأيام قليلة- قرار آخر (قانون رقم 136 لسنة 2014) يلزم القوات المسلحة بالتنسيق مع الشرطة من أجل حماية “المؤسسات الحيوية والعامة” بما في ذلك الجامعات، وبالتالي السماح للسلطات العسكرية بدخول الحرم الجامعي متى شاءت، رغم أن القانون سينتهي بعد عام، إلا أن البرلمان المصري مدّده في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 لمدة 5 سنوات إضافية.
في 15 يناير/ كانون الثاني 2015، عدّل السيسي قانون تنظيم الجامعات للسماح لرؤساء الجامعات بإحالة أعضاء هيئة التدريس إلى مجلس تأديبي، بدعوى “المشاركة أو التحريض أو المساعدة على العنف أو أعمال الشغب داخل الجامعات أو المشاركة في العمل السياسي الحزبي داخل الجامعة”، ما قد يؤدّي إلى فصلهم بشكل انتقائي، حيث يستهدف المرسوم فقط الجهات الفاعلة في الحرم الجامعي التي تعارض النظام الحاكم.
بالنسبة إلى الطلاب أيضًا، وخلال العامَين اللذين أعقبا تولي السيسي السلطة، أصدر المسؤولون الحكوميون العديد من المراسيم التي قلّلت من قدرة الاتحادات الطلابية على إدارة شؤونهم وتنظيم فعالياتهم، ونتيجة لذلك اُستبعد مئات الطلاب الناشطين سياسيًّا من المشاركة في الانتخابات الطلابية، حيث فرضت العديد من الجامعات عقوبات تأديبية متزايدة على الطلاب النشطاء.
في السنوات التي تلت ذلك، تزامنَ تراجُع نشاط اتحاد الطلاب بشكل كبير مع تزايُد الاعتقالات الجماعية، حيث تعرّض طلاب الجامعات -لا سيما الطلاب المتظاهرين داخل الحرم الجامعي- لاعتقالات واسعة النطاق ومحاكمات عسكرية، وتشمل التقارير الحقوقية توثيق اعتقال 761 طالبًا خلال العام الدراسي 2014-2015، و84 طالبًا آخرين خلال العام الدراسي 2015-2016.
العمل الأكاديمي خطر ينتهي إلى السجن
لا يزال العديد من الطلاب والعلماء رهن الاعتقال، بعضهم دون محاكمة رغم قضائهم سنة أو أكثر في الاعتقال، بالإضافة إلى ذلك تعرضوا للاحتجاز الاحتياطي المطوَّل على خلفية نشاط أكاديمي أو أي تعبير آخر داخل الحرم الجامعي، ووُجِّهت مؤخرًا اتهامات جديدة للباحثين الذين اُحتجزوا تعسفيًّا بالفعل، ولا يزال حظر السفر يقيّد حركة العديد من الأكاديميين.
في منتصف يونيو/ حزيران 2021، أرسلت لجنة الحرية الأكاديمية التابعة لجمعية دراسات الشرق الأوسط لأمريكا الشمالية رسالة إلى رئاسة الحمهورية ومجلس الوزراء للتعبير عن قلقها العميق بشأن تدهور الحرية الأكاديمية في مصر، ورغم اعترافها بالإفراج عن أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، حازم حسني، بعد 17 شهرًا في الاعتقال، عبّرت الجمعية عن قلقها من أنه في الأشهر الأخيرة كان هناك تصعيد في الاعتقالات وإدانة المعتقلين بتُهم جديدة، فضلًا عن تدهور الظروف التي يتعرض لها العلماء المحتجزون والمعتقلون سابقًا.
ومن أحدث الأمثلة على هذا التصعيد تقديم قضية جديدة ضد أحمد سمير السانتاوي، وهو مواطن مصري وطالب في السنة الثانية في برنامج الماجستير في علم الاجتماع/ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة أوروبا الوسطى (CEU) في فيينا، ومحتجز على ذمّة المحاكمة منذ 1 فبراير/ شباط 2021.
كما هو الحال في كثير من هذه الحالات، اتُّهم التهامي بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار وبيانات كاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي
في 22 مايو/ أيار الماضي، وُجِّه الاتهام إلى سانتاوي في قضية أخرى، حيث كانت الاتهامات متطابقة تقريبًا مع تلك الموجودة في القضية الأصلية، وتشمل التهم الموجهة إليه “الانضمام إلى جماعة إرهابية مع علم مسبق بأهدافها، وبث أخبار كاذبة تهدف إلى زعزعة الأمن والنظام العام، واستخدام حساب على فيسبوك بغرض نشر أخبار كاذبة”.
المثال الثاني هو استمرار اعتقال الدكتور أحمد التهامي عبد الحي، أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بجامعة الإسكندرية، والمحتجز (القضية 649/20) منذ 3 يونيو/ حزيران 2020 دون محاكمة، وكما هو الحال في كثير من هذه الحالات، اتُهم التهامي بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار وبيانات كاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
منذ انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، تصاعدت القيود ضد الباحثين والأكاديميين، ففي 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 احتجزت السلطات واستجوبت الباحث والصحافي إسماعيل الإسكندراني، فور وصوله مطار الغردقة الدولي في طريقه لزيارة والدته المريضة، بناءً على مزاعم تتعلق بالأمن على ما يبدو، أي مزاعم أنه نشرَ معلومات كاذبة وانتمائه إلى منظمة محظورة.
الإسكندراني هو باحث اجتماعي سياسي وصحافي استقصائي وخبير في شؤون الجماعات المسلحة في شمال سيناء، وهو أيضًا مجرد شخص مدني حُكم عليه من قِبل محكمة عسكرية باتهامات لا أساس لها من أنه حصل على أسرار عسكرية ونشرها.
وُضع الإسكندراني في الحبس الاحتياطي لمدة 15 يومًا على ذمة التحقيق، ومع ذلك تمَّ تمديد اعتقاله عدة مرات، واستمرَّ في النهاية أكثر من عامَين ونصف قبل أن يحصل على حكم، وفي 22 مايو/ أيار 2018 أفادت تقارير أن محكمة جنايات شمال القاهرة العسكرية حكمت على الإسكندراني بالسجن 10 سنوات.
بعد المحاكمة، أشار محامي الإسكندراني إلى أن الحكومة لم تقدِّم أدلة على عضويته في منظمة محظورة، أو نشره المزعوم لمعلومات سرّية، رغم ذلك مُنع الإسكندراني من زيارة والدته أو على الأقل الاتصال بها عبر الهاتف، حتى عندما توفيت في مايو/ أيار 2021 حُرم من حضور جنازتها.
في 23 أغسطس/ آب 2018، اعتقلت السلطات الدكتور يحيى قزاز أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان -إلى جانب السفير السابق معصوم مرزوق، والعضو البارز في حزب الكرامة المعارض رائد سلامة- بتهم تتعلق بإهانة رئيس الجمهورية، بناءً على منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي التي تدعو إلى رحيل الرئيس السيسي وتعلن أن “المقاومة هي الحل”.
بناءً على المزاعم نفسها، وُضع قزاز قيد التحقيق الإداري في جامعته تقرُّبًا من وكيل الكلية للسلطات المصرية، ووُجِّهت إليه فيما بعد تُهمتا “نشر أخبار كاذبة” و”الانضمام إلى جماعة إرهابية”، وأُفرج عنه في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2018، لكن لا تزال قضيته معلقة حتى اليوم.
كذلك سلّطت قضايا حقوقية كثيرة، على غرار قضية وليد الشوبكي الذي أُخلي سبيله في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2018 بعدما أمضى 6 أشهر في السجن، الضوء من جديد على انحسار الحرية الأكاديمية في مصر.
كان الشوبكي، وهو طالب دكتوراه في جامعة واشنطن، يجري أبحاثًا ميدانية في القاهرة تحضيرًا لأطروحته عن استقلال القضاء، عندما أقدمت القوى الأمنية على خطفه في أواخر مايو/ أيار 2018، وأُدرج -بموجب قانون مكافحة الإرهاب الشديد القسوة- على قائمة من 13 صحافيًّا وأكاديميًّا وناشطًا متّهمين بنشر أخبار كاذبة ومشاركة معلومات مع “جماعات محظورة”.
لم يقتصر تدهور ظروف الحرية الأكاديمية على المصريين، فقد كان للباحثين والأكاديميين الأجانب نصيب أيضًا، ففي 7 فبراير/ شباط 2020 اُعتقل باتريك جورج زكي، الطالب في جامعة بولونيا بإيطاليا، لدى وصوله إلى مصر في زيارة عائلية قادمًا من إيطاليا.
لم يُحرم زكي من الإجراءات القانونية الواجبة فحسب، بل لم تقدِّم السلطات المصرية أي دليل موثوق به لتبرير حبسه، وبعد 22 شهرًا من اعتقاله قررت محكمة جُنَح أمن الدولة طوارئ الإفراج عنه مع تأجيل محاكمته، بتهمة “نشر أخبار كاذبة من شأنها المساس بأمن البلاد”، بعد نشره مقال قبل عامَين عن أوضاع المسيحيين في البلاد.
في حالات أخرى، تجاوز الأمر حدّ الاعتقال إلى التعذيب والقتل، كما في حالة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، طالب الاقتصاد الذي كان يدرس حركات العمالة المصرية، ووردَ أنه كان في طور التحضير لإجراء بحث ميداني للحصول على درجة الدكتوراه، عُثر على جثته في 3 فبراير/ شباط 2016، وأشارت السلطات إلى أنها ظهرت عليها علامات تدلّ على تعرضه للتعذيب و”الموت البطيء”، فقد كان عاريًا من الخصر إلى الأسفل، مع عدد من الجروح بالسكاكين وحروق السجائر في جسده.
لم تحدد التحقيقات التي أجراها محققون مصريون وإيطاليون في جريمة القتل بشكل قاطع الجناة، بينما تنفي السلطات المصرية تورُّط مسؤولين حكوميين، رغم أن مصادر إخبارية دولية ذكرت أن ريجيني كان محتجزًا لدى الشرطة قبل وفاته، وأشارت إلى دلائل على وجود أدلة وتلاعب بالشهود في التحقيق.
وكما في حالة ريجيني، أنهت قوات الأمن حياة الكثير من الباحثين والعلماء لمجرد التعبير عن آرائهم، وتشكِّل هذه الاعتداءات المستمرة على الحرية الأكاديمية في مصر انتهاكًا للمادة 65 من الدستور المصري لعام 2014، والتي تضمن حرية التعبير والحرية في جميع وسائل التعبير والنشر، وللمادة 23 التي تنصُّ على حرية البحث العلمي.
ممنوع دخول مصر أو الخروج منها
تستمر مصر في قمع الحياة الفكرية للأساتذة والطلاب على السواء، وتأخذ في بعض الأحيان شكل القيود المفروضة على سفر العلماء من وإلى مصر، وهو جانب أساسي من الحياة الأكاديمية وتبادل الأفكار، يثير تساؤلات حول مناخ حرية التعبير، وموقف السلطات المصرية من آراء الأكاديميين والباحثين ممّن يحملون جنسيات أجنبية.
على سبيل المثال، في ديسمبر/ كانون الأول 2014 مُنعت ميشيل دن، الباحثة في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط، والباحثة الأمريكية التي كانت تنتقد الحكومة المصرية علانية، من دخول مصر لحضور مؤتمر استضافه المجلس المصري للشؤون الخارجية، حيث كان من المقرر أن تظهر كعضو في اللجنة.
وبحسب ما ورد، أبلغ المسؤولون المصريون دن بأنها لن تتمكن من “الوصول إلى مصر بعد الآن”، زاعمين أن قرار رفض دخولها كان بسبب سعيها لدخول مصر لحضور مؤتمر أكاديمي باستخدام تأشيرة سياحية، وفي الواقع هذه ممارسة شائعة، وقد سُمح لدن بدخول البلاد 15 مرة من قبل للأغراض الأكاديمية بتأشيرة سياحية.
في يوليو/ تموز 2015، سنَّت جامعة طنطا سياسة تُلزم أعضاء هيئة التدريس بالحصول على إذن من وزارة الخارجية، من خلال وزارة التعليم العالي، من أجل المشاركة في الأنشطة الدولية: مؤتمرات أو تقديم دراسات أكاديمية إلى أي مؤسسة أجنبية.
في مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2018، أعلنَ رئيس مجلس جامعة الإسكندرية للدراسات العليا والبحوث مختار يوسف، أن جميع مقترحات رسائل الماجستير والدكتوراه يجب أن تتوافق مع رؤية مصر 2030
بالتزامن مع هذه السياسة، أصدرت جامعة القاهرة قرارًا يطالب الأساتذة الراغبين في السفر الأكاديمي إلى الخارج بدفع “تبرُّع” مالي للجامعة، حيث طُلب من الأساتذة الذين تقلّ خبرتهم عن 10 سنوات التبرُّع بمبلغ 10 آلاف جنيه مصري، بينما طُلب من الأساتذة الآخرين التبرُّع بضعف هذا المبلغ، ومن الناحية العملية إنَّ عدم دفع “التبرُّع” سيؤدي إلى أعباء إدارية ويجعل السفر صعبًا أو مستحيلًا.
كان الباحث وليد خليل السيد سالم أحد ضحايا حظر السفر الفعلي المفروض، منذ إطلاق سراحه من الحبس الاحتياطي في ديسمبر/كانون الأول 2018، رغم رفع الإجراءات الاحتياطية التي فُرضت عليه في مارس/ آذار 2020.
اُعتقل وليد في القاهرة أثناء إجرائه بحثًا عن أطروحة حول القضاء المصري، لم يتم توجيه أي تُهم إليه، وهو مرشح لنيل درجة الدكتوراه في قسم العلوم السياسية بجامعة واشنطن، ولا يزال يُمنع من مغادرة مصر لإكمال الدكتوراه، وفي الواقع عندما حاول المغادرة من مطار القاهرة في 24 مايو/ أيار، أُبلغ في المطار أنه مدرج في “قائمة ممنوع من السفر”.
لم يقتصر الأمر على الباحثين والأكاديميين المصريين فحسب، بل طالت القيود المفروضة على السفر الباحثين الأجانب، ففي يوليو/ تموز 2015 اُحتجزت فاني أوهير، باحثة فرنسية وطالبة ماجستير في قسم علم الاجتماع السياسي في مدرسة للدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية في باريس، وتمَّ ترحيلها بعد ذلك من مصر، حيث كانت تجري بحثًا عن حركة شباب 6 أبريل، وهي مجموعة ناشطة محظورة.
في الوقت الذي اُحتجزت فيه، كانت تستعدّ للقاء أعضاء الحركة، وقام الضباط بتفتيش جهاز الكمبيوتر والأمتعة والهاتف المحمول، ثم ألغوا تأشيرتها فيما بعد، ورغم عدم إعطائها سببًا رسميًّا لترحيلها، فقد وردَ أنها سمعت ضباطًا يقولون إن لديها “أصدقاء غير لائقين”.
في 3 يناير/ كانون الثاني 2016، اُحتجزت الدكتورة أمل جرامي، الأستاذة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة منوبة في تونس، والتي كتبت على نطاق واسع في قضايا مثل الربيع العربي والإسلام السياسي والإرهاب، في مطار القاهرة الدولي أثناء توجُّهها إلى الإسكندرية، حيث كان من المقرر أن تقدم عرضًا.
وبحسب ما ورد، خضعت لاستجواب مطوَّل، أُبلغت خلاله أنها تشكّل تهديدًا أمنيًّا، لكن لم تقدَّم أي معلومات أخرى عن أسباب احتجازها الذي استمرَّ لأكثر من 14 ساعة مع عدم وجود وسيلة واضحة لدخول مصر، وفي النهاية اختارت العودة إلى تونس.
في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2015، أخطرت جامعة القاهرة طالبة الدكتوراه خلود صابر بإنهاء تفرغها البحثي في جامعة لوفان (UCL) في بلجيكا بسبب قضايا التصريح الأمني المزعومة، ودعوتها للعودة إلى مصر أو المخاطرة بالفصل، وبعد رفعها دعوى قضائية للطعن في القرار، وبعد رد من جماعات حقوق الإنسان، أعادتها جامعة القاهرة، وتخضع منذ ذلك الحين لتحقيقات أمنية إضافية تتعلق بسفرها إلى الخارج، والتي لا تزال دون حل حتى اليوم.
في واقعة أخرى، في 30 يناير/ كانون الثاني 2016، منع مسؤولو الأمن في مطار القاهرة الدولي عاطف بطرس، محاضر في الأدب الألماني بجامعة فيليب ماربورغ في ألمانيا، من دخول مصر بدعوى أمنية، وبعد احتجازه واستجوابه لعدة ساعات دون تقديم تفسير محدد لتصرفات الحكومة، أُبلغ بأنه خاضع لحظر مدى الحياة من دخوله مصر مرة أخرى.
تعدّى أمر القيود المفروضة على السفر إلى طلاب العلم، ففي 2 يوليو/ تموز 2017 أفادت الأنباء أن الشرطة المصرية بدأت في احتجاز وترحيل عشرات الطلاب الصينيين الإيغور من جامعة الأزهر، بالتوازي مع الإجراءات التي اتخذتها السلطات الصينية، وتمَّ أمر الطلاب المنتمين إلى أقلية الإيغور المسلمة الذين كانوا يدرسون في الخارج بالعودة إلى الصين بحلول 20 مايو/ أيار من ذلك العام.
وبحسب ما ورد، احتجزت السلطات الصينية أفراد عائلات الطلاب كوسيلة لضمان عودة الطلاب، عندما عاد الطلاب بالفعل وردَ أنهم سُجنوا أو أُرسلوا إلى معسكرات إعادة التأهيل أو اختفوا، ومع انتشار أخبار هذه الضغوط استعدَّ العديد من طلاب الإيغور في مصر، ومعظمهم من جامعة الأزهر، لمغادرة البلاد أو الاختباء، في حين أن عددًا غير معروف قد يظل محتجزًا في مصر.
هل يجب تقييد البحث الأكاديمي بسياسة الدولة؟
يبدو أن جامعة الإسكندرية تعتقد ذلك، ففي مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2018 أعلن رئيس مجلس جامعة الإسكندرية للدراسات العليا والبحوث مختار يوسف، أن جميع مقترحات رسائل الماجستير والدكتوراه يجب أن تتوافق مع رؤية مصر 2030، التي أطلقها السيسي في أبريل/ نيسان 2016.
يقيّد هذا القرار حرية الفكر لدى الباحثين بخطط الدولة المستقبلية، لذلك لاقى معارضة واضحة على أساس أنه يضع قيودًا غير مقبولة على البحث، وكما تقول أستاذة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة إن “الرؤية الاستراتيجية للدولة ليست مقدسة ويمكن تغييرها”، وتؤكد أن “إعلان جامعة الإسكندرية يضع العربة أمام الحصان، لأن الخطط الحكومية يجب أن تكون نتيجة بحث علمي وليس العكس”.
في الواقع، لم يكن هذا القرار المعلن سوى نتيجة لوقائع أخرى تبررها الأسباب سياسية، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2015 ألغت جامعة الأزهر أطروحة دكتوراه لباحث في كلية الدراسات الإسلامية فرع الزقازيق، وكان موضوعها “التكييف الشرعي للثورات”، على أساس أن الموضوع لم يكن مناسبًا للبيئة السياسية والأمنية الحالية في مصر، وأحالت الجامعة مشرفي أطروحة الباحث إلى التحقيق الإداري.
في واقعة أخرى، أعلنت جامعة قناة السويس، في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2015، أنها ألغت الاعتماد الذي سبق منحه لرسالتَين -رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه- في العلوم السياسية، حول التعامل مع القضايا السياسية المتعلقة بالإخوان المسلمين، وبرّرت سلطات الجامعة القرار بدعوى أن البحث كان مخالفًا لـ”النظام العام للدولة”، ويتعارض مع الأحكام القضائية المتعلقة بالإخوان المسلمين.
معاقبة الأكاديميين والأساتذة والباحثين لا تقتصر فقط على العقوبات الإدارية التعسفية بل تمّت مضاعفتها، حيث يُعاقب الأكاديميون الآن مرتَين
لم يقتصر الأمر على الملاحقات السياسية للأكاديميين، ففي أغسطس/آب 2016 أفادت التقارير أن الجامعة الألمانية بالقاهرة أنهت عقدها مع أستاذ الهندسة المعمارية، طارق أبو النجا، كانتقام واضح لمشاريع الطلاب التي أشرف عليها.
وسبقَ ذلك القرار أن قام ضباط أمن الجامعة، بناء على أوامر من إدارة الجامعة، بإتلاف تصاميم لاثنين من طلاب أبو النجا، وبحسب ما ورد اشتكى الآباء من التصاميم التي عُرضت في الحرم الجامعي، واستكشفت موضوعات تشمل “العُري في تاريخ البشرية” و”الألوهية الأنثوية عبر الحضارات”.
وفي 8 مارس/ آذار 2017، أوقفَ مسؤولو جامعة السويس الدكتورة منى برنس، باحثة الأدب الإنجليزي، كانتقام واضح لقيادتها المناقشات حول الدين في الأدب، بعد تحقيق أجرته الجامعة واستئناف من قبل الدكتورة برنس، تمَّ إنهاء عملها رسميًّا في 13 مايو/ أيار 2018، ولا يزال استئناف القرار قيد النظر أمام المحكمة الإدارية العليا.
وبدعوى أخرى بعيدًا عن السياسة، أوقفت جامعة الزقازيق أستاذ الطب النفسي العصبي بكلية الطب، ماهر المغربي، في 20 أغسطس/آب 2017، على ذمة التحقيق في منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي يُزعم أنها تنطوي على تجديف (السخرية من الدين)، واستمرَّ إيقافه 3 أشهر مُنع خلالها من دخول الجامعة إلا لأغراض التحقيق أو الجلسات التأديبية، لكنه نفى علمه بالمنشورات، ولم يُعاقب في النهاية على أساس مزاعمه بأن حسابه قد تعرض للاختراق.
في 2 مايو/ أيار 2018، خضع عضو هيئة التدريس في التاريخ الحديث والمعاصر في كلية التربية بجامعة دمنهور، أحمد رشوان، للتحقيق الإداري، وأُوقف عن العمل لمدة 3 أشهر على خلفية الحجج التي قدّمها في كتاب بعنوان “دراسات في تاريخ مصر الحديث”.
وبحسب ما ورد، أحالَ رئيسُ الجامعة الدكتورَ رشوان للتحقيق بناءً على مزاعم أدلى بها بشأن رجال الدين في عهد مبارك، بمن فيهم وزير الشؤون الدينية السابق الشيخ متولي الشعراوي وخطيب التلفزيون عمرو خالد، وانتهى الأمر بتوجيه اللوم الإداري، لكن لم يخضع للغرامة أو تعليق عمله.
لن يكون من المبالغة القول إن الحياة الأكاديمية في مصر تحتضر، لأن الحريات الأكاديمية لا يمكن أن تتماشى مع الاعتقال والتعسف والقمع ضد الأكاديميين والباحثين، كما أن معاقبة الأكاديميين والأساتذة والباحثين لا تقتصر فقط على العقوبات الإدارية التعسفية بل تمّت مضاعفتها، حيث يُعاقب الأكاديميون الآن مرتَين، إداريًّا (بناءً على قرارات وتحقيقات تعسفية) وجنائيًّا (بالسجن بسبب قضايا الرأي)