ترجمة أحمد بدوي
عانى الجيش الروسي لسنوات من الإهمال بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ولم يعد يمثل قوة عظمى، ولكن القوات المسلحة الروسية تمر الآن بعملية إصلاح تاريخية ستؤدي لعواقب سياسية وأمنية يوروأسيوية خطيرة، يقول المسئولون الروس إن الإصلاحات ضرورية لنقل الجيش من حقبة الحرب الباردة للقرن الواحد والعشرين، بينما يخشى العديد من المحللين الغربيين أن ذلك سوف يمكّن روسيا من انتهاج سياسة خارجية أكثر عدوانية والتي عادةً ما تعتمد على القوة للتجبر على جيرانها الأضعف، ويقول البعض إن التدخلات الروسية في كلٍ من جورجيا في 2008 وأوكرانيا في 2014 – كلاهما جمهورية سوفيتية سابقة تسعى للتقارب مع الغرب – تظهر أن الرئيس “فلاديمير بوتين” مستعد لاستخدام القوة لإعادة الهيمنة الروسية على محيطها القريب.
ماهى القدرات التقليدية للجيش الروسي؟
تعد القوة العسكرية التقليدية لروسيا ضخمة بالنسبة لجيرانها الأوروبيين الشرقيين والوسط أسيويين في كلٍ من عدد القوات والعتاد العسكري (انظر الجدول 1) والعديد من تلك الدول جمهوريات سوفيتية سابقة في تحالف وثيق مع موسكو، تتحالف روسيا عسكريًا مع كل من أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرجيكستان وطاجيكستان من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي والتي شُكِلَت عام 1992، كما تضع موسكو قوات كبيرة في المنطقة: 3200 جنديًا في أرمينيا، و7000 في مناطق أبخازيا وجنوب أوستيا المنفصلة عن جورجيا، و1500 في منطقة ترانسنستريا المنفصلة عن مولدوفا، و500 في قرجيكستان و5000 في طاجيكستان.
الصورة: الجدول 1
وكجزء من إصلاحاتها الدفاعية فسوف تتحول معظم القوات الروسية البرية لقوات احترافية ويعاد تنظيمها لتتكون تشكيلاتها من عدد أقل من الجنود لتكون صالحة للمواجهات ذات الكثافة المنخفضة والمتوسطة، ولكن في المستقبل المنظور سوف يظل الاعتماد على القوات من مجندين العام الواحد والتدريب المحدود (الخدمة العسكرية إجبارية في روسيا للرجال من سن 18 حتى 27 عامًا)، وتتألف القوات الهجومية المحمولة جوًا من حوالي 35000 جنديًا يتبع قائدهم بوتين مباشرة، وهى نخبة القوة الروسية لمواجهة الأزمات، وإدارة للعمليات الخاصة تتبع أيضًا بوتين مباشرة تم إنشاؤها في 2013 لتولي العمليات الخاصة خارج الحدود الروسية.
تعتزم موسكو إعادة تسليح إقليمها القطبي وتقوم بإعادة تشغيل مطارات وموانئ الحقبة السوفيتية للمساعدة في حماية مواردها المائية الهامة وخطوطها الملاحية، ولدى روسيا الأسطول الأكبر في العالم من كاسحات الثلوج والتي تستخدم عادة في التنقل في هذه المياه، كما أمر بوتين في أواخر 2013 بإنشاء قيادة عسكرية إستراتيجية جديدة تختص بالأراضي القطبية الروسية.
الصورة: اللون الغامق روسيا والفاتح الدول المتعاهدة معهابينما اللون الأصفر دول الناتو والتظليل المائل المناطق المتنازع عليها والتي تسيطر عليها روسيا
في نفس الوقت لاتزال إعادة التسليح بطيئة حيث تنتمي الكثير من المعدات العسكرية للعقود السابقة، وحسب قول الخبراء فإن ما كان يومًا أسطولاً سوفييتيًا ضخمًا أصبح اليوم قوة صغيرة لحماية السواحل، وكل سفن الأسطول الضخمة حتى سفينة القيادة (حاملة الطائرات غير النووية كزنتسوف) تعد من بقايا الحرب الباردة، (للمقارنة فإن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك عشر حاملات طائرات نووية وتبني العديد من السفن الحربية كل عام)، وستظل القوة الجوية لروسيا محدودة على الأقل في المدى القريب، وتقوم شركة صناعة الطائرات سوخوى بتطوير عدد من الطائرات الحديثة منها الجيل الخامس من الطائرة الشبح T-50، ولكن الإنتاج بطئ في بعض الحالات ومعظم القوة الجوية الحالية تعود للثمانينات.
وقد وضعت روسيا أولوية عظمى في برنامجها لإعادة التسليح لتحديث دفاعاتها الجوية والفضائية، حيث أنشأت قيادة موحدة للدفاع الجوي والفضائي في 2011، وتعد منظومة S-400 عماد هذه الشبكة الدفاعية، وهى منظومة صواريخ أرض جو بمدى من متوسط لطويل وتنتشر بالقرب من موسكو والمواقع الإستراتيجية في القطر الروسي، ويتم الآن تطوير منظومة S-500 الأكثر تطورًا.
ما هي القدرات النووية الروسية؟
لاتزال ترسانة الأسلحة النووية الروسية الضخمة على قدم المساواة مع الولايات المتحدة وتعد تلك هي الخاصية الوحيدة المتبقية من خصائصها كدولة عظمى حسب قول الخبراء، فلدى روسيا 1500 رأسًا نوويًا إستراتيجيًا محملة على صواريخ باليستية عابرة للقارات وغواصات وقاذفات ثقيلة، وهذه الأعداد تتوافق مع معاهدة “البداية الجديدة” مع الولايات المتحدة والتي دخلت حيز التنفيذ في فبراير 2011، ويعتقد أيضًا أن لدى روسيا 2000 رأسًا نوويًا تكتيكيًا (والتي تعرف أيضًا برؤوس مسرح العمليات أو الرؤوس الميدانية).
وتعتمد روسيا على الردع النووي بديلاً عن ضعف قوتها التقليدية في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي، وقد أدى قصف الناتو ليوغوسلافيا في عام 1999 إلى زيادة مخاوف الكرملين من أن يعيق التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قدرة روسيا على التحرك في المنطقة؛ فقامت موسكو بتخفيض عتبتها النووية في عام 2000 مما يسمح باستخدام هذه الأسلحة ردًا على الهجمات التقليدية، وللمقارنة فإن عقيدة الدولة السوفيتية أختصت الأسلحة النووية بالاستخدام في حالة الرد على هجوم نووي فقط.
يتم تحديث جزء كبير من سلاح الردع الروسي، فسوف تدخل فئة جديدة من الغواصات ذات الصواريخ الباليستية للخدمة كما يتم تحديث بعض القاذفات بعيدة المدى وهناك خطط لإحلال وتبديل جميع الصواريخ الباليستية عابرة القارات التي تعود للحقبة السوفيتية خلال العقد المقبل أو نحو ذلك.
كم تبلغ الميزانية العسكرية الروسية؟
تضاعفت الميزانية العسكرية الروسية خلال العقد الماضي لتصل إلى مايقرب 90 مليار دولارًا خلال عام 2013 (انظر شكل 2) لتكون التالية للصين صاحبة ميزانية الـ 188 مليار دولارًا والولايات المتحدة صاحبة ميزانية الـ 640 مليار دولارًا وفقًا لمؤسسة إستكهولم لأبحاث السلام العالمي (تتضمن البيانات تمويل الخدمات العسكرية والقوات شبه النظامية وأنشطة الفضاء العسكرية والمعونات العسكرية الأجنبية وبحوث التطويرات العسكرية).
واستفاد الإنفاق العسكري الروسي من الطفرة في أسعار الطاقة العالمية خلال العقد الماضي، حيث يمثل الغاز والبترول نصف إيرادات الحكومة الاتحادية وفقًا للإدارة الأمريكية لمعلومات الطاقة، وفي 2014 فإن روسيا قد حققت نصف برنامج العشر سنوات للتحديث العسكري والبالغ 700 مليار دولارًا مع إعطاء الأولوية للأسلحة النووية بعيدة المدى والطائرات المقاتلة والسفن والغواصات والدفاعات الجوية والاتصالات والاستخبارات.
ويقول المحللون إنه يجب رؤية النفقات الأخيرة في سياقها: أولاً انخفضت نفقات الدفاع بقوة خلال التسعينات ولاتزال تحت المستوى السوفييتي، ثانيًا لايزال الإنفاق الروسي لكل جندي بسيطًا بالنسبة لما تنفقه الولايات المتحدة والكثير من حلفائها على الجندي الواحد، ثالثًا معدلات التضخم العالية في التصنيع الدفاعي والفساد المستشري يستهلكان جزء كبير من الموارد المخصصة حديثًا، وأخيرًا فإن الإنفاق العسكري الروسي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأسعار الطاقة العالمية والذي يمكنه أن يتذبذب بشدة، يربط العديد من المحللين انخفاض أسعار البترول للثلث في منتصف الثمانينات بسقوط الاتحاد السوفييتي في 1991.
ما الذي دفع لهذه الإصلاحات؟
معركة الخمسة أيام مع جورجيا في أغسطس 2008 أظهرت عيوب خطيرة في نظم القيادة والتحكم والمعدات والتسليح والتخابر، وأكدّت على أن نظام الحشد والتعبئة العسكري الروسي – حيث يمكن لملايين المجندين الزحف لحماية أرض الوطن – قد عفى عليه الزمن.
ويمكن القول إن الحرب الجورجية كانت هى الحرب الأخيرة للقوات المسلحة الروسية في القرن العشرين بمعنى أنها حوربت باستخدام التنظيم والتكتيكات والمعدات التي صُممت في القرن الماضي، كما كتب “روجر ن. ماكدرموت” الخبير الأسيوأوروبي لدى مؤسسة جيمس تاون في 2009.
في الأسابيع التالية للحرب الجورجية ألزم وزير الدفاع “أناتولي سرديوكوف” وهو إصلاحي نافذ عيّنه بوتين، الجيش بإجراء تعديلات كبيرة تتضمن تخفيض ضخم للقوات (من 1.2 إلى 1 مليون جنديًا) وإعادة التسليح والتنظيم ليصبح الجيش قوة محترفة قادرة على التصرف السريع خلال الأزمات الحادة.
يقول الخبراء الذين يقيِّمون وضع الإصلاح الذي بدأ في أواخر 2013 بأنه يفتقر للاتجاه الإستراتيجي ويعاني من أخطاء ضخمة في التخطيط كما توقعوا مواجهة عددٍ من التحديات المتعلقة بالأفراد والتمويل والمشتريات خلال الأعوام القادمة، مع ذلك يقرون بأن تلك الإصلاحات قد أدت لقفزات هائلة، حيث ورد في تقرير مؤسسة الدراسات الإستراتيجية أن “ليس هناك شك بأن روسيا ما بعد التحول العسكري سوف يكون لديها قوة مختلفة تمامًا عن تلك التي دخلت بها معركة جورجيا في 2008، قوة أكثر فعالية ومرونة وقابلة للتكيف والتطوير لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية”.
ما الذي تعتبره روسيا تهديدًا؟
يعلم قادة روسيا أن التهديد بغزو بري واسع من قِبَل قوات الناتو أصبح ضعيفًا – وهو الذي كان على قمة مخاوف الحرب البادرة – ولكنهم يداومون على انتقاد توسعات الحلف شرقًا بما في ذلك خططه لنشر منظومة درع الدفاع الباليستي عبر أوروبا، وتقول الولايات المتحدة الأمريكية التي طورت تلك التقنية إن هذا النظام مصمم فقط للحماية ضد الهجمات الصاروخية المحدودة من الدول “الشريرة” مثل إيران، ولكن موسكو تعتقد بأن تلك التقنية يمكن أن تُحَدّث؛ مما يخل بالتوازن النووي الإستراتيجي، كما أعرب بوتين وقادته العسكريين مرارًا عن مخاوفهم من تطوير منافسي روسيا للأسلحة الهجومية التقليدية الدقيقة.
تعتقد موسكو أن مايسمى بالثورات الملونة – سلسلة من الانتفاضات الشعبية في دول الاتحاد السوفييتي السابق – ما هي إلا محاولات رتبت لها الولايات المتحدة وحلفاؤها لتقليص النفوذ الروسي في المنطقة، “يبدو أن السياسة الخارجية الروسية ترتكز على مزيج من المخاوف من الاحتجاجات الشعبية ومعارضة هيمنة الولايات المتحدة على العالم، كلاهما يبدوان كتهديدات لنظام بوتين” وفقًا لديمتري جورنبرج خبير العسكرية السوفيتية لدى مركز التحليلات البحرية في فرجينيا.
ويعتقد العديد من المحللين الغربيين والروس أن مخاوف موسكو من الناتو عادة ماتكون مبالغة وتصرف الانتباه عن مخاطر حقيقية أخرى مثل التي تلوح في محيط روسيا الجنوبي والتي تتضمن تمردات عرقية في شمال منطقة القوقاز وانتشار السلاح والعودة المحتملة لطالبان في أفغانستان.
ماهى أهداف روسيا الاستراتيجية في المنطقة؟
تحديث الجيش سوف يُمَكِّن الدولة ذات المساحة الأكبر في العالم (وإحدى أقل الدول كثافة سكانية) من الدفاع عن أراضيها الشاسعة ومصالحها القومية بشكل أفضل، ولكن الصراع في أوكرانيا وجورجيا زاد المخاوف بشأن عدوانية روسيا، وتحديدًا رغبة بوتين في استخدام القوة العسكرية بشكل منفرد للحفاظ على مجال النفوذ الروسي التقليدي.
قبل ضم كريميا بوقت قصير في مارس 2014 قال بوتين إنه سوف يدافع عن حقوق الروس في الخارج، وفي أبريل أشار إلى مساحة واسعة من الأراضي الأوكرانية بـ “نوفوروسيا” أي روسيا الجديدة، وهو المصطلح الذي كان مستخدمًا إبان الإمبراطورية الروسية، ووفقًا للناتو وللمسئولين الأوكرانيين فقد أمدت موسكو المتمردين من العرق الروسي في شرق أوكرانيا بالتدريب والأفراد والتسليح الثقيل بما في ذلك الدبابات والصواريخ المضادة للطائرات، وفي نوفمبر اعترفت روسيا بالانتخابات التي أجراها المتمردون في المناطق المنفصلة دونتسك ولوهانسك، وهي الخطوة التي كررت الاعتراف الروسي المنفرد بالحركات الانفصالية في أبخازيا وجنوب أوستيا بعد الحرب في جورجيا في 2008.
ولكن الإصرار الروسي كان له ثمن؛ حيث قامت مجموعة الثمانية (والتي أصبحت الآن سبعة) بطرد موسكو من نادي النخبة في مارس، كما يواجه المسئولون والبنوك ورجال الأعمال الروس سلسلة من العقوبات الغربية التي يمكن أن تدفع الاقتصاد للركود، وسوف يعاني الجيش الروسي أيضًا، فقد أخرت فرنسا تسليم أول مركبة برمائية من اثنتين من طراز ميسترال وأصبح التعاون الصناعي – الدفاعي بين روسيا وأوكرانيا في خطر.
كما يقول الخبراء إنه ربما يكون هناك عواقب سياسية داخلية في المستقبل، “فالتصنيف العرقي الذي يستند إليه بوتين والذي تفوح منه رائحة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين هو سلاح ذو حدين” كما كتب “ستروب تالبوت” رئيس مؤسسة بروكنجز في أغسطس 2014؛ فقد تتقلص بسببه الأراضي الروسية حيث إن مساحات شاسعة من البلاد تسكنها مجموعات عرقية غير روسية والذين من غير المتوقع أن يرحبوا أو – على المدى البعيد – يتسامحوا مع الشوفينية الروسية في الكرملين.
ماهى استراتيجية الولايات المتحدة والناتو نحو روسيا؟
الصورة: خريطة توسع الناتو في أوروبا: الأصفر سنة 1940الأزرق الباهت 1952الأخضر الغامق 1955البرتقالي الفاتح 1982الأخضر الفاتح 1999 البرتقالي الغامق 2004الأزرق الغامق 2009
يعيد قادة التحالف تقييم الدفاعات في أوروبا خاصة في الشرق، ومنذ ضم الروس لكريميا ضاعف الناتو طائراته الحربية التي تراقب البلطيق لـ 16، طائرة وقد شهدت تلك الطائرات زيادة ضخمة في الاستفزازات التي تشترك فيها الطائرات الروسية، كما أعلن الناتو عن خططه لإنشاء قوة جديدة للرد السريع (قوة المهام المشتركة عالية الجاهزية) المكونة من حوالي 5000 جنديًا، ويقول الخبراء إنها سوف تكون جاهزة بالكامل في أوائل 2016 وسوف تخدم كوحدة نخبة فرعية لقوة الرد الخاصة بالناتو والتي تتكون من 13000 جنديًا.
بعض المحللين ينصحون التحالف بتبني إستراتيجية مختلفة للاحتواء عن تلك المستخدمة في الحرب الباردة، “التخلي عن أي أمل للعودة للعمل العادي، زيادة قوة الدفاع عن دول البلطيق وبولندا، فضح الفساد الروسي في الغرب، فرض عقوبات شاملة على سفر النخبة الروسية، مساعدة أوكرانيا وإعادة إطلاق التحالف الأطلنطي” كما كتب الصحفي الإنجليزي الخبير في الشئون الروسية “إدوارد لوكاس”.
تقول “جانين ديفيدسون” الخبيرة في الإستراتيجيات العسكرية والدفاعية لدى مجلس العلاقات الخارجية إنه يجب على دول الناتو التحضير لتكتيكات حرب العصابات التي استخدمتها روسيا في شرق أوكرانيا، “يجب على الناتو الأخذ في الاعتبار ما قد يحدث إذن ومتى ظهر أولئك الرجال المسلحون جيدًا والغير مميزين (مثل قوات العمليات الخاصة) والمنضبطين بشكل مريب في إحدى دول الناتو مثل إيستونيا أو لاتفيا (تحتوي الأولى على 24% والثانية على 27% من المواطنين ذوي الأصل الروسي) ثم بدأوا في الزحف لغزو آخر”.
المصدر: ديفنس وان