ترجمة تحرير: نون بوست
بعد انتهاء الانتخابات اللبنانية، استيقظ البلد على فصل جديد في تاريخه السياسي المذهل؛ حيث انقلبت موازين القوى في البرلمان المؤلف من 128 مقعدًا ونظام تقاسم السلطة الطائفي الهش بعد نتيجة انتخابات يوم الأحد.
لقد أُطيح بالمشرعين الذين كانوا يسيطرون على السلطة في لبنان لعقود كثيرة، وصعد مرشحون جدد إلى منبر السلطة من مؤيدي انتفاضة 2019 في البلاد، مما بعث آمالا باستعادة النظام السياسي الهش لحيويته.
لكن المشاكل التي لا تزال تعصف بلبنان للعام الثالث بالفعل قد طغت على هذه الفرحة الانتخابية، وخاصة الأزمة الاقتصادية. فقد تراجعت قيمة الليرة اللبنانية أكثر من قيمتها المتدهورة بالفعل وانخفضت بنسبة 90 بالمائة مقارنة بالدولار الأمريكي، كما تتضاءل الاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي، بينما تستمر أسعار البنزين والغذاء في الارتفاع وسط مخاوف من نقص الوقود والقمح.
وقال الخبراء للجزيرة إنه على الرغم من أن نتيجة الانتخابات اللبنانية تمثّل لحظة حاسمة في تاريخ البلاد المضطرب، إلا أن ما ينتظرنا قد يحدد ما إذا كان لبنان أمامه فرصة للنهوض بنفسه وتحقيق النجاح أو الانهيار بالكامل.
الحلفاء خذلوا حزب الله
لم يخسر حزب الله الشيعي القوي المدعوم من إيران أيًّا من مقاعده، لكن الحلفاء السياسيين الذين ساعدوه في الحفاظ على أغلبية برلمانية تلقوا ضربات كبيرة، سواء من الأحزاب السياسية المنافسة التقليدية أو المعارضة الجديدة المناهضة للنظام.
والجدير بالذكر أن مرشحي المعارضة، الطبيب إلياس جرادة والمحامي فراس حمدان، فازا بمقعدين أرثوذكسي يوناني ودروزي في مناطق نفوذ رئيسية في جنوب لبنان.
ولم يعد التيار الوطني الحر، الحليف السياسي المسيحي الرئيسي لحزب الله، أكبر حزب مسيحي. ومع ذلك؛ لم يقر حزب الله ولا التيار الوطني الحر بالهزيمة، وأعلن كلاهما الانتصار في الانتخابات.
وفي حين أن التحالفات السياسية في لبنان يمكن أن تكون متقلبة، يقول الخبراء إن التصويت كان بمثابة ضربة كبيرة للحزب المسيحي الذي كان يهيمن على السلطة في يوم من الأيام.
من جانبه؛ صرح نديم حوري، المدير التنفيذي لمبادرة الإصلاح العربي، للجزيرة قائلًا: “أعتقد أنه يجب على العونيين (التيار الوطني الحر) الاعتراف بأنهم خسروا بشكل موضوعي، حتى لو كانوا يحاولون كسب التصويت لصالحهم”.
وأوضح الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، مهند حاج علي، أن تحالفات حزب الله الواسعة كانت “ضعيفة وهشة”، وقد ساهمت الانتخابات في إبراز الولاءات، مضيفًا بأن نتائج الانتخابات قد تشير أيضًا إلى تحولات في الرأي العام بين الناخبين الشيعة أيضًا، موضحًا أن “الأصوات الشيعية البديلة” ربما تكون قد اختارت مرشحين من خارج تحالف حزب الله السياسي.
وقال الحاج علي للجزيرة، مستشهدًا بتصريحات عديدة من مراقبي الانتخابات اللبنانيين حول الحزب الشيعي، إن “حزب الله لم يكن يريد التصويت لتيار سياسي آخر، وقد فعل كل ما في وسعه لترويع الناخبين والمرشحين وممثليهم في دوائرهم الانتخابية”.
شلل سياسي؟
على إثر التدهور المستمر للاقتصاد؛ لم يعد أمام البرلمان الجديد الكثير من الوقت للانعقاد وبدء عملية تعيين رئيس وزراء جديد وتشكيل حكومة جديدة. ولكن مع عدم وجود أغلبية برلمانية يمكن للفصائل التقليدية استخدامها لتولي السلطة معًا، يعتقد الخبراء أن الأمر قد يصل للجمود السياسي.
وقال حوري من مبادرة الإصلاح العربي للجزيرة: “من المرجح أن يكون في هذا السيناريو الواحد أولئك الموجودين في وسط المعارضة الذين يحاولون التوسط ولكن ليس بما يكفي لفرض أجندة”.
وفي حين أن رئيس الوزراء اللبناني سني، تنقسم الحكومة على مختلف الطوائف الدينية والقوى السياسية في البرلمان؛ حيث يمكن أن يؤدي نظام تقاسم السلطة الهش هذا بسرعة إلى الشلل، وهو ما علق عليه حوري بقوله: “مع وجود برلمان منقسم للغاية، من الصعب حكم لبنان”.
ومع فوز خصوم حزب الله، القوات اللبنانية المسيحية الموالية للسعودية والأمريكية، بمقاعد جديدة وربما تشكيل تحالف مناهض لحزب الله مع مرشحين آخرين، من المرجح أن يكون الاثنان في حالة ترقب في المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة. وهو ما يأتي بعد أقل من سنة من اشتباكات بين أنصار الطرفين في بيروت، مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص في مشاهد تشبه الحرب الأهلية في البلاد. وبعد حوالي سنة من الضربات التجارية في وسائل الإعلام والشوارع، سيتحدى الحزبان الآن بعضهما البعض في الساحة السياسية.
وقد أصر حزب الله بالفعل على “حكومة وحدة وطنية” تضم ممثلين عن جميع المصالح السياسية في البلاد. وفي المقابل، تريد القوات اللبنانية المسيحية المجحفة حكومة ذات تأثير ضئيل من خصومها السياسيين، وهو ما يجعل الشلل السياسي ليس غريبًا على لبنان، فقد استغرق السياسيون 13 شهرًا من التفاوض لتشكيل الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي.
ومع فشل الاقتصاد، وحكومة تصريف الأعمال التي لن تكون قادرة على سن قوانين جديدة أو فعل أي شيء يتجاوز الأساسيات، ستأتي المآزق السياسية الجديدة بثمن باهظ. وفي هذا الشأن؛ يقول حوري إن عدم وجود حل وسط من أي من الجانبين، من شأنه أن يحيل إلى “انسداد كامل” في النظام السياسي، وأضاف: “أعتقد أنه سيتعين على حزب الله تقديم بعض التنازلات. ولكن ما ثمن ذلك؟”.
وأشار حوري إلى إمكانية وجود حل وسط في بعض القضايا الداخلية، مثل الفساد، عوضًا عن البحث في القوة العسكرية لحزب الله أو التورط في صراعات إقليمية، قائلًا: “هناك مسألة أخرى وهي ما إذا كانت القوات اللبنانية وحلفاؤها سيقررون دفع الأمور أم لا – إذ لا يمكنك محاصرة حزب الله لأن لديك أغلبية في البرلمان. لا تعمل الأشياء بهذه الطريقة”.
في ذلك الوقت؛ كان هناك فصيلان في خلاف مستمر حول أسلحة حزب الله وحلفاء الحركة في سوريا وإيران، وقد اتسمت تلك الفترة بالشلل السياسي والاحتجاجات واسعة النطاق والاغتيالات وحتى بعض النزاعات المسلحة.
وحسب حوري: “قد يتكرر سيناريو ما بعد 2005؛ حيث إنهم إما سيسعون لوضع عراقيل مؤسسية أو يخرجون للشوارع”، ويضيف قائلًا: “الكرة في ملعب حزب الله؛ سواء قرر التساهل أم لا”.
أمل للمعارضة؟
ويخوض أكثر من عشرة أعضاء جدد في البرلمان، يطلق عليهم “قوى التغيير”، معركة سياسية نتيجة تصويت يوم الأحد؛ حيث تأمل الغالبية من الوجوه الجديدة في تمثيل سخط الانتفاضة الشعبية ضد الوضع الناجم عما حدث في أواخر عام 2019، حيث وعدوا بمكافحة الفساد، والدفع باتجاه سياسات حكومية سليمة، وبث حياة جديدة في المجال السياسي اللبناني، فيما اقتحم أكثر من عشرة مرشحين آخرين البرلمان للتنافس على برامج مماثلة إلى حد ما مناهضة للمؤسسات الحكومية.
في هذا الصدد، أوضح الباحث في كارنيغي الشرق الأوسط حاج علي: “ستحاول هذه الأصوات البديلة رفع المستوى عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تهم الناس حقًا”.
من جانب آخر؛ يعتقد الحاج علي أن حزب الله وبعض خصومه، لا سيما القوات اللبنانية المسيحية، يحاولون أن يجنحوا بسفينة لبنان نحو مستنقع الخلافات الطائفية، وقضايا السلاح والمزيد من “القضايا المجردة التي لا تلمس سوى القليل من مشاكل الحياة اليومية في لبنان”.
ويتوقع حوري أن التنوع الأيديولوجي لأعضاء البرلمان الجدد المناهضين للمؤسسة سيشمل تحديات ينبغي التغلب عليها. وفي شأن ذي صلة؛ يقول حوري: “أعتقد أنه ستكون هناك مجموعة أساسية ستتحد معًا… وستتشكل بعض تحالفات التي تدعم القضايا ذاتها”.
السياسة التي ستنتهجها القوات اللبنانية وحلفاؤها – ولا سيما حلفاؤها السنة – ستهدف إلى فرض المزيد من الهيمنة على المجال العام
ويؤكد بعض هؤلاء النواب الجدد لقناة الجزيرة أن “المناقشات ستُسأنف قريبًا لتشكيل كتل برلمانية على أساس برامج سياسية مشتركة، مع استكشاف إمكانية إنشاء تحالفات أخرى تتشارك الأجندة السياسية ذاتها”.
في الواقع، كل هذا قد يستغرق وقتا، ويمكن أن يعيق الجمود السياسي طريق مثل هذه الخطط”.
وحسب نديم حوري: “لتحقيق ذلك، ينبغي أولًا تشكيل حكومة ووضع جدول أعمال”، فيما يعتقد الحاج علي أن القوات اللبنانية المسيحية وحلفائها يمكن أن يحاولوا “إقصاء” المشرعين المعارضين للمؤسسة من النقاش السياسي، ثم التركيز على نطاق واسع على التصدي لهيمنة حزب الله، بدلاً من الإصلاحات الاقتصادية والمساءلة.
في هذا الصدد، يوضح الحاج علي: “أعتقد أن السياسة التي ستنتهجها القوات اللبنانية وحلفاؤها – ولا سيما حلفاؤها السنة – ستهدف إلى فرض المزيد من الهيمنة على المجال العام”.
وتابع قائلًا: “لن يسمح ذلك للمستقلين ومجموعات المجتمع المدني بأن يكون لهم موقف كبير في تغيير الواقع اللبناني… لكنني آمل في السنوات الأربع المقبلة، أن يحاولوا توجية دفة السفينة نحو الوجهة المناسبة للشعب اللبناني”.
المصدر: الجزيرة