نون بوست
عملت روسيا على تحديث سياستها البحرية الوطنية لتعزيز أسطولها البحري – خاصة بعد ضم شبه جزيرة القرم – وكان ذلك من خلال زيادة دعم قواتها البرية والجوية. استخدمت أسطول البحر الأسود لدعم أسطولها في البحر الأبيض المتوسط بشكل خاص، كما حسّنت القدرة الاستيعابية لأساطيلها البحرية في المحيط الهادئ والمحيط المتجمّد الشمالي.
تشير التحليلات إلى أن القوات البحرية الروسية باتت أقوى مما كانت عليه في سنة 2016، لذا، يُنظر إلى حادثة غرق سفينة “موسكفا” – السفينة الرئيسية لأسطول البحر الأسود التي تُعدُّ أقوى لبِنة في الأسطول البحري – على أنها نجاحٌ فاق التوقعات بالنسبة لأوكرانيا.
تمثّل هذه الحرب إلى حد ما اختبارًا لمدى قوة البحرية الروسية. ومع ذلك، تعتبر حقيقة أن هيمنة روسيا تزيد في بحر آزوف اليوم وأن أوديسا هي أيضًا جزء من الصراع علامة على تنامي التهديد الروسي.
وأصبحت منطقة البحر الأسود أكثر بروزًا بسبب النزاعات التي شهدتها خلال فترة وجيزة، بما في ذلك نزاع ترانسنيستريا في مولدوفا والحرب الجورجية الأبخازية والحرب الأهلية الجورجية والحرب الروسية الجورجية والحربين الشيشانية الأولى والثانية، والحربين الروسية الأوكرانية في 2014 و2022 وكذلك الحربين بين أرمينيا وأذربيجان. ولسببٍ ما، كان لروسيا تأثير في معظم هذه الحروب.
في هذا السياق، قد يؤدي اقتراح “نشر أسطول بحري لحلف الناتو على مدار السنة من خلال البنية التحتية البحرية الداعمة التي توفر أقصى تواجد بحري أمريكي في البحر الأسود” إلى تأجيج التوترات في المنطقة. وحتى لو تنزّل هذا الاقتراح “في إطار معايير اتفاقية مونترو” فقد تعتبره روسيا “إعلان حرب” بالنظر إلى أنها تريد ضمان وجود دولٍ محايدة بينها وبين دول حلف الناتو. والحال أن الاقتراح المذكور يعكس بشكل مثالي فكرة تحويل البحر الأسود إلى بحيرة للناتو، وهو يعكس الرغبة في تحييد روسيا عن تلك المنطقة. وفي هذه الحالة، تعتبر هذه الخطوة بالنسبة لروسيا، التي تعتقد أنها محاطة بحلف شمال الأطلسي، المرحلة الأخيرة في جهود تطويقها بالكامل. وعلى هذا النحو، سيتحول البحر الأسود إلى ساحة حرب.
في مقال بعنوان “10 طرق لتقوية دفاع الناتو في البحر الأسود” بالاشتراك مع لورين سبيرانزا، كان من بين المقترحات التي قدمها القائد الأمريكي السابق للقوات البرية الأوروبية فريدريك بنجامين هودجز فكرة إنشاء “خطة مارشال لمنطقة البحر الأسود” بهدف زيادة الاستقرار والاستثمار على المدى الطويل وتطوير البنية التحتية وزيادة الأمن والازدهار.
يمكن اعتبار الميزانية البالغة 33 مليون دولار التي تقدم بطلبها الرئيس الأمريكي جو بايدن من الكونغرس الأمريكي من أجل أوكرانيا بمثابة خطوة أوليّة نحو ذلك، مع العلم أن الكونغرس وافق على حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 14 مليون دولار.
لكن اقتراح هودجز يتضمن أيضًا خلق فرص استثمارية في جورجيا وأذربيجان، مما يشير إلى أن خطة مارشال تستهدف مساحة جغرافية أوسع. في الواقع، ستحتاج كل من رومانيا وبلغاريا كذلك إلى الدعم بشكل جدي من أجل إنشاء قوة فعالة في البحر الأسود. وبالتأكيد، سيكون الثمن في المقابل خلق تهديد بحرب وشيكة بالنسبة لجميع الدول المطلة على البحر الأسود.
إن اقتراح وجود دائم للولايات المتحدة الأمريكية والناتو في رومانيا ليس حديث العهد ولا توجد أمامه أي عقبات، لأن رومانيا لطالما أرادت ذلك
من بين اقتراحات هودجز، إعادة بناء العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي وتركيا. وتحقيقًا لهذه الغاية، هناك إشارة إلى دعم دفاع تركيا عن مصالحها الوطنية. وستكون إزالة العقبات الأمريكية أمام دفاع تركيا عن مصالحها الوطنية خطوة تاريخية عظيمة. ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تطور يتجاوز ما حدث قبل سنة 2016.
تضمّن المقال عبارة “دعم دفاع تركيا عن مصالحها الوطنية لفرض السيطرة على الممرات المائية التي توصل إلى البحر الأسود لردع روسيا”، إلا أنه من الواضح أن تركيا تتحكم في الممرات المائية بدقة وعزم وفقًا لنظام مونترو ولابد من إعطائها حقها في هذه المسألة. ولا يوجد أي تلميح في هذا المقال بشأن خروج تركيا عن نظام مونترو.
حتى لو كان من الممكن إعادة تفسير اتفاقية مونترو، من الواضح أنه ليس هناك نسخة أفضل من النسخة الحالية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية نظرًا لأن روسيا تُشكل أحد الأطراف فيها. لذلك، لا يمكن اعتبار هذا الاقتراح إلا “دعمًا لتركيا في الدفاع عن مصالحها الوطنية”.
إن اقتراح وجود دائم للولايات المتحدة الأمريكية والناتو في رومانيا ليس حديث العهد ولا توجد أمامه أي عقبات، لأن رومانيا لطالما أرادت ذلك وهي تمتلك نظام صواريخ باليستية في قاعدة ديفيس الو والتي تستهدف بها تدمير الصواريخ القادمة من إيران وروسيا، بالإضافة إلى موافقتها على إنشاء قوة للناتو في البحر الأسود.
كان أحد مواضيع القمة الاستثنائية للقادة التي عُقدت في بروكسل في آذار/ مارس 2022 تحويل القواعد في رومانيا إلى قواعد دائمة، وقد قُبل ذلك ومن المتوقع الموافقة عليه رسميًا في قمة قادة الناتو في حزيران/ يونيو 2022. ومن خلال مشروع بناءٍ مموّل من الولايات المتحدة الأمريكية بقيمة 152 مليون دولار، سيتم تحويل القاعدة السوفيتية السابقة “كامبيا تورزي” في وسط رومانيا إلى مقر رئيسي جديد لطائرات الناتو في منطقة البحر الأسود.
وفي حين أن رومانيا لديها قاعدة ديفيس الو الجوية التابعة لحلف الناتو والقاعدة الجوية الكبيرة في ميهايل كوغالنيتشيانو الواقعة بالقرب من البحر الأسود، فإن تخصيص كامبيا تورزي لحلف الناتو أيضًا، يُفسَّر على أنه زيادة في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الرد على التهديدات المحتملة وردع روسيا في المنطقة.
بالنظر إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية قد أنهت بالفعل إلى حد كبير جهود الاتحاد الأوروبي في وضع جدول الأعمال الخاص به، فإن مسألة إنشاء أسطول للناتو في البحر الأسود باتت أقرب إلى أن تتحقق هذه المرة.
إن الوجود العسكري الأمريكي في رومانيا في تزايد. وقد كانت بوخارست من أشد المرحبين بذلك وهي تأمل سد فجواتها الأمنية أمام التهديد الروسي. بالنسبة لرومانيا، تعد شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية ذات أولوية، يليها في ذلك حلف الناتو وأخيرًا الاتحاد الأوروبي.
بغض النظر عن المسألة الأمنية، فإن تشكيل منطقة حظرٍ مركزها شبه جزيرة القرم يُقيد حرية تنقل السفن الرومانية في البحر الأسود. وعلى الرغم من بدء التنقيب عن النفط في المناطق الاقتصادية المحددة التي فازت بها في محكمة العدل الدولية ضد أوكرانيا في جزيرة سيربنتس (جزيرة الثعبان)، إلا أنه قد تم إبطال قرار المحكمة جزئيًا بسبب عدم اعتراف روسيا به. وبعد ذلك، احتلت روسيا جزيرة الثعبان في 24 شباط/ فبراير 2022.
إن منع روسيا للاستكشافات المحتملة لرواسب الهيدروكربون وإجبار الشركات الرومانية على الانسحاب وعرقلة التدفق التجاري من نهر الدانوب إلى البحر الأسود، يسبب إزعاجًا لرومانيا. كما أن رومانيا وقبل فترة طويلة من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في سنة 2014 كانت تدعو الناتو إلى نشر قواته في البحر الأسود، في حين كانت تركيا مترددة شأنها شأن بلغاريا حول التعامل مع هذه القضية التي تظهر على المشهد الرئيسي بمتوسط مرة كل 10 سنوات.
وفي قمة وارسو سنة 2016، حيث اقترحت رومانيا إنشاء أسطول لحلف الناتو في البحر الأسود، أعلن رئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف أنه يريد “السلام والمحبة” في البحر الأسود وليس الحرب. ولكن بالطبع، قد يكون الوضع مختلفًا الآن. فبعد عام واحدٍ على الأقل من نشوب مظاهرات الشوارع والاحتجاجات والأزمات السياسية في بلغاريا، تغيرت الإدارة. وقبل حلول 2022 مباشرة، تم إنشاء حكومة تتصرف بانسجام مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي مكان حكومة بوريسوف التي دعمت العمل المستقل للاتحاد الأوروبي.
بالنظر إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية قد أنهت بالفعل إلى حد كبير جهود الاتحاد الأوروبي في وضع جدول الأعمال الخاص به، فإن مسألة إنشاء أسطول للناتو في البحر الأسود باتت أقرب إلى أن تتحقق هذه المرة.
هل يجب أن يتحوّل البحر الأسود إلى بحر صراع أم بحر سلام؟
من بين مقترحات هودجز، فكرة إنشاء مقر مشترك متعدد الجنسيات من فئة ثلاث نجوم يكون مسؤولاً عن تخطيط وإعداد وتطبيق وتنسيق جميع الأنشطة العسكرية في منطقة البحر الأسود الكبرى.
وتجدر الإشارة إلى أن كل هذه المقترحات وكل ما يدعمه الحلف كانت في الواقع مسائل عملت عليها تركيا وحققتها وواصلت نشاطها فيها وبذلت جهودًا من أجلها ما قبل سنة 2014. أنشأت تركيا تشكيلاتٍ عسكرية مختلفة لضمان أمنها في البحر الأسود وضمت بذلك روسيا التي لها سواحل على البحر الأسود. وتم تأسيس منظمة مؤسسية بالكامل سميت بمنظمة “التعاون الاقتصادي للبحر الأسود” تعنى بتنفيذ مهام وظيفية اقتصادية وسياسية، بالإضافة إلى تأسيس “بلاك سي فور” وهي فريق العمل التعاوني البحري للبحر الأسود، و”بلاك سي هارموني” وهي عملية انسجام البحر الأسود، و”بي سي إس إف” وهي منتدى حدود الدول الساحلية للبحر الأسود وخفر السواحل، وغيرها من الأنشطة البحرية التعاونية. وقد ضمنت مشاركة روسيا في هذه التشكيلات وإجراء تدريبات مشتركة.
لقد شاركت روسيا بانتظام في المسعى النشط لحلف الناتو، وفي أعمال الأمن الإقليمي لجميع الدول الساحلية المطلة على البحر الأسود، كما شاركت في الحد من التهديدات الأمنية مثل التهريب. واصلت الدول المشاركة التدريبات المشتركة على الرغم من انتكاسة سنة 2008. ولكن مع فرض العقوبات على روسيا منذ سنة 2014، تعطلت هذه الأنشطة وبدأت الدول تتخلف عن إرسال سفنها إلى التدريبات.
كانت وحدات التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري التي أنشأتها تركيا من خلال بذل الجهود الكبيرة وأخذ زمام المبادرة لضمان مشاركة دول البحر الأسود تدحض جميع التبريرات التي كانت تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة فرض وجودها في البحر الأسود.
وفيما يتعلق بالنقطة التي وصلنا إليها اليوم، إذا تمت مناقشة اقتراح “إنشاء تواجد بحري لحلف الناتو على مدار 365 يومًا في السنة دون انقطاع من خلال البنية التحتية البحرية الداعمة التي توفر أقصى تواجد بحري أمريكي في البحر الأسود”، فإن عبارة “أقصى تواجد بحري أمريكي” تلفت الانتباه بلا شك.
الجغرافيا السياسية المتغيرة للبحر الأسود لن تشكل تهديدًا لروسيا وحسب، بل ستكون جميع الدول المطلة على البحر الأسود عرضةً للتهديد بسبب التغير في التوازنات العسكرية
مع وجود عددٍ من أنشطة التعاون البحري التي تشارك فيها جميع الدول الساحلية للبحر الأسود والمفتوحة أيضًا لمشاركة الناتو فيها، فإن القضاء عليها والانتقال إلى مؤسسة عسكرية تستهدف بوضوح إحدى هذه الدول الساحلية لن يجلب السلام والاستقرار للبحر الأسود وإنما سيؤدي إلى اندلاع سلسلة من الصراعات وربما الحروب مجهولة الأمد.
من المعلوم أن الرغبة في حل المشاكل التي أحدثها وجود القوة البحرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط يستوجب حل القوة البحرية الروسية المتواجدة في البحر الأسود. ويمكن تسمية رغبة دولة ليس لها ساحل على البحر الأبيض المتوسط بحظر دولة ليس لها ساحل على البحر الأبيض المتوسط بالجغرافيا السياسية، ويمكن أيضًا أن يطلق عليها المنافسة متعددة الأقطاب أو أحادية القطب. ولكن من الصعب فهم المخاطرة بأمن جميع دول حوض البحر الأسود في سبيل هذه القضية.
لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي تنظر إلى المنطقة بمفهوم “البحر الأسود الممتد” العديد من القواعد الجوية والبرية في كل من رومانيا وبلغاريا وجورجيا إلى جانب أنظمة الرادار والصواريخ. وعلى الرغم من أن هذه القواعد تُعرف باسم قواعد الناتو، إلا أنه يتم إنشاؤها في الغالب من خلال الاتفاقيات الثنائية ومذكرات التفاهم الموقعة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وليس الناتو. وهي واقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية وليس الناتو، تمامًا مثل القواعد الأمريكية في اليونان.
تتنقل سفن الناتو والسفن الحربية الأمريكية في البحر الأسود. وتم عسكرة البحر الأسود أكثر مما يجب. ومع ذلك، فإن اتفاقية مونترو تحد من أنشطة الولايات المتحدة الأمريكية في البحر الأسود والبلدان المطلة عليه وتجعلها خاضعةً لنظام محدد مسبقًا. ولكن إنشاء قوة للناتو أو قوة بحرية دائمة للناتو في البحر الأسود سوف يخفف من هذه القيود.
إن الجغرافيا السياسية المتغيرة للبحر الأسود لن تشكل تهديدًا لروسيا وحسب، بل ستكون جميع الدول المطلة على البحر الأسود عرضةً للتهديد بسبب التغير في التوازنات العسكرية. ولا تقتص القضية على القدرات المتزايدة لروسيا فقط، وإنما تشمل رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في إظهار تواجدها في البحر الأسود. وإطالة أمد الحرب في أوكرانيا لن يؤدي إلى تآكل قوة روسيا وحسب، بل سيسمح أيضًا بتقدم الجهود في سبيل تحويل البحر الأسود إلى منطقة نفوذ أمريكي.
المصدر: مركز الدراسات الأوروبية الآسيوية