كرواية فيكتور هوغو “البؤساء” تبدو “المنافي” في الوقت الحالي، فصفحات تلك الرواية العالمية الفرنسية الشهيرة لم تنطوِ بعد، وبؤس ما عاشته الشخصيات في الرواية يشبه مرارة حياة الملايين من اللاجئين حول العالم، يعيشون واقعًا قاسيًّا فيما يشبه سجونًا مفتوحة في العالم، لكن في ظل هذا المشهد يظهر الكثير ممّن يرفض أن يسيطر البؤس على أحوالهم والخوف حول المصير والمستقبل.
ففي مواطن اللجوء، هناك من يطاله التغيير، والبعض ينكفئ على نفسه أكثر فأكثر ويصبح أشدّ تعصُّبًا، والبعض الآخر تبقى حياته عادية وهادئة؛ هذه النماذج تبدو منفتحة على تغيير كبير، مستفيدة من القوانين والحماية التي تتوفر لها في المجتمع الجديد، حيث لم تكن لتتغير حتمًا لولا معرفتها بهذه القوانين التي كانت تجهلها في بلادها.
تمامًا كتجربة نور ملّاح وأنوار صالح، من لاجئتَين إلى مرشّحتَين عن حزب الألوان المختلفة (نيانس)، للانتخابات البلدية والإقليمية والانتخابات البرلمانية التي تنطلق في البلاد في شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، حيث رفضتا الواقع من خلال كسر حواجز العزلة، وخوض غمار السياسة في أكثر الدول الأوروبية احتضانًا للمهاجرين العرب: السويد.
وتتفق كلاهما على أن طريق تغيير المجتمعات ورفع الظلم فيها يمرُّ بمنعطفات ليست سهلة، بل بعقبات لا عدَّ لها ولا حصر، فرغم كون السويد تمثل نموذجًا عالميًّا للحرية والديمقراطية، إلا أن هناك جوانب نقص بحاجة إلى إصلاح.
تقول الكاتبة السورية، المهاجرة إلى السويد منذ عام 2015، نور ملّاح، لـ”نون بوست” إنها منذ قدومها بدأت تصطدم بالصورة المثالية التي رأتها في البدايات للبلد الديمقراطي الكامل الجميل، بواقع لا يخلو من التمييز والكراهية ضد المسلمين في مجالات العمل والسكن بل حتى في الحياة العامة.
ولمّا بات الوضع يسوء أكثر فأكثر، قررت ملّاح بعد أيام من حصولها على الجنسية السويدية الانضمام إلى حزب الألوان المختلفة السويدي (نيانس)، والترشُّح للانتخابات البرلمانية.
تستحضر نور نضال السود في أمريكا لنيل حقوقهم، الذين لم يقبلوا أن يعامَلوا كمواطنين من الدرجة الثانية: “ونحن أيضًا لن نقبل هذا أبدًا، ولقد قالوا: “لن ننحني للأكثرية!”، ونحن أيضًا لن نفعل ذلك إطلاقًا”، وفق تعليقها.
رغم المميزات الموجودة في السويد، فإنها لم تخلُ من التمييز العنصري ضد المهاجرين وخصوصًا من أصول مسلمة
وتسعى المرشحة السياسية نور ملّاح، عبر ترشُّحها للبرلمان، إلى زرع الوعي السياسي لدى الأقليات المسلمة والمهاجرة في المجتمع السويدي، وإقناعهم بالمشاركة في التصويت في الانتخابات لصالح المرشحين السياسيين الذين يمثلونهم، لما ستُحدثه مشاركتهم من إسهام بارز في الدفاع عن حقوقهم.
بينما ترى أصغر المرشحين، فلسطينية الهوية، أنوار صالح (19 عامًا)، أنه بما أنها ولدت ونشأت على الأراضي السويدية، فمن واجبها العمل لتحسين المجتمع، من أجل مستقبل الأجيال القادمة وعدالة حقوق الأقليات فيها.
وتؤمن الشابة صالح جيدًا بأن الخوض في السياسة هو المفتاح لإيصال صوت الأقليات، وللمطالبة بالحقوق التي لا تأخذ نصيبها عند الأحزاب الأخرى، مثل تسليط الضوء على أهمية وجود المدارس الخاصة لأنها تخدم شريحة كبيرة من الناس، المسلمين وغير المسلمين، حيث تقول: “أريد إيصال مطالب شريحة كبيرة من الشعب للبرلمان، والطريق الصحيح والسليم هو الخوض في السياسة”.
حظيت السويد باهتمام ورغبة غالبية المهاجرين العرب، وذلك بسبب سرعة إجراءاتها في منح الإقامة، وسهولة قوانينها فيما يخصّ سرعة لمّ الشمل، بالإضافة إلى راتب اللجوء الذي يُعتبر من أعلى الرواتب التي تُمنح للاجئين في أوروبا.
ويقدَّر عدد سكان السويد بما يقارب 10 ملايين نسمة، حيث يعيش في العاصمة ستوكهولم نحو مليون ونصف مليون نسمة، في حين أن ثانية وثالثة كبرى المدن هما غوتنبرغ ومالمو، التي يقطن بها أغلب الجاليات العربية.
رغم المميزات الموجودة في السويد، فإنها لم تخلُ من التمييز العنصري ضد المهاجرين وخصوصًا من أصول مسلمة، إذ أظهرت دراسة جامعية سويدية أن الباحثين عن العمل في السويد من ذوي الأصول المهاجرة، يتعرّضون للتمييز في مراحل مختلفة من عملية التوظيف، ويعامَلون بشكل مختلف عن غيرهم من السويديين الآخرين.
وتوضِّح الدراسة التي أعدَّتها جامعة لوند، أن هذا التمييز يبدأ مع مقابلات التوظيف الأولى، إذ تميل الأسئلة إلى أن تكون متّصلة بالمهارات غير المهنية والقيم الاجتماعية، كموقف المتقدّم إلى الوظيفة من الثقافة السويدية وعادات المجتمع، وكيفية التعاون مع الآخرين.
لماذا حزب نيانس تحديدًا؟
تصف نور ملّاح حزبها بالقول إنه “حزب لكل الناس في السويد، يطالب بقيمة متساوية لجميع مواطني السويد ويرفض تمييز أي شخص بسبب دينه أو عرقه أو لونه”.
وما يميز هذا الحزب عن غيره، بحسب ملّاح، هو تركيزه على قضايا الأقليات وحقوقهم، خاصة المسلمين الذين يعدّون أكثر هذه الفئات عرضة للتمييز في السويد، ويتمّ ذلك وفق رؤية هذا الحزب عبر التعاون مع مجتمع الأكثرية من أجل حلّ مشكلات الأقليات.
حول التغييرات التي يسعى حزب نيانس إلى تحقيقها، تؤكّد ملّاح أنه “يطالب بأن تكون الأقلية المسلمة محمية وفقًا للدستور السويدي، وأن تعترف الحكومة السويدية بالإسلاموفوبيا والعنصرية وكراهية الأفارقة ومعاداة الأجانب بوصفها مشكلات خطيرة تستوجب حلولًا”.
من جهتها، تقول المرشحة أنوار صالح إنها بادرت بمحاولات سابقة لأجل العمل والخوض ضمن الأحزاب، مستدركة: “لم أجد حزبًا يتوافق مع قناعاتي السياسة، منذ طفولتي تثير القضايا السياسية اهتمامي، مثل حقوق الإنسان أو القضية الفلسطينية أو قضايا حماية الأقليات، وقد حاولت إيجاد حزب يهتمّ بهذه القضايا، ولم أجد سوى أحزاب تتحدث عن العواقب والأحداث، ونادرًا ما تطرح حلولًا”.
وتكمل صالح: “عندما علمتُ عن مبادئ حزب نيانس، تشجّعت للانضمام، فهو الحزب الذي يرحّب بالجميع بغضّ النظر عن الدين أو الخلفية الاجتماعية، كما أنه يهتمّ بحقوق الأقليات، ولهذا عرفت أنه الحزب الذي يجب عليّ الانضمام إليه”.
يعمل حزب نيانس على تجريم الإسلاموفوبيا واعتبار حرق المصحف جريمة كراهية وتحريض ضد جماعة عرقية، كما يسعى إلى جعل المسلمين أقلية متجانسة رسمية، ومنحهم منزلة مميزة ومحمية أسوة باليهود والسومي، وهم سكان شمال الدول الإسكندنافية الأصليون، ويبدو أن له، وفقًا لتقارير إعلامية، حظوظًا جيدة في الفوز بنسبة لا بأس بها من مجمل الأصوات في انتخابات سبتمبر/ أيلول المقبل.
ما أبرز ما تعانيه اللاجئات العربيات في السويد؟
لا تزال مشاركة المرأة السياسية بابًا مغريًا للنقاش والكتابة من قبل جميع المعنيين بالشأن العام، لا سيما في أوقات تشهد حقوق النساء نكوصًا، غير أن إقدام “لاجئات” عربيات على الترشح لانتخابات برلمانية في السويد، قد يخدم مناحي كثيرة أولها دعم حقوق النساء المهاجرات ومنحهن الجرأة في المطالب، ومواجهة الأخطاء التي تحدث عند تطبيق الموظفين لقوانين مؤسسة “السوسيال” في سحب الأطفال من ذويهم في السويد، مع بدء تطبيق القواعد الخاصة برعاية القاصرين (LVU) عام 1990.
ويعدّ التميز في العمل بسبب الملابس أو الأسماء غير السويدية من أبرز المشكلات التي يواجهها المولودون خارج السويد، خاصة الإناث، وفق ما تؤكّده نتائج دراسة أجراها معهد تقييم سياسة سوق العمل والتعليم (IFAU) عام 2018.
في هذا السياق، أوضحت المرشحة السورية نور ملّاح لـ”نون بوست”، أن واقع اللاجئات العربيات في السويد يبدأ بتحديات المجتمع الجديد وتعلُّم اللغة ومن ثم الحصول على عمل مناسب، فالمجتمع هنا مصمَّم لتعمل المرأة والرجل بشكل عام، لذلك ما زال هناك أُسر تعيش صراعًا على خلفية صراع السلطة والأدوار، ما يؤثِّر سلبًا على الجوّ الذي يعيش فيه الأطفال، خاصة أن هناك من اعتاد اللجوء للعنف، الأمر الذي لا يُسمَح به أبدًا في السويد خاصة في وجود الأطفال، ما يهدِّد بتدخُّل “السوسيال”.
وأضافت: “كما يعاني الأهل، خصوصًا النساء المحجبات، من التمييز في سوق وأماكن العمل بحسب ما تظهره الدراسات ويبيّنه الواقع، لذلك إننا في حزب نيانس نجعل هدفنا الأول أن تعترف الدولة السويدية بمشكلة التمييز العنصري والإسلاموفوبيا، باعتبارها مشكلة مجتمعية، وأن يتمَّ تحسين الاندماج وتسهيل الحصول على عمل والمشاركة المجتمعية الفعّالة”.
مردفةً: “إن الهدف من كل هذا أن يعيش كل إنسان في السويد بحقوق وقيمة متساوية تضمن كرامته وحرية اختياره وعدالة الفرص، ليعيش الجميع معًا في سلام ووئام مهما كانوا مختلفين”.
سحب الأطفال من عائلاتهم
تتابع ملّاح: “كما أننا في الحزب ندرك بخصوص موضوع التطبيق الخاطئ لقانون رعاية الأطفال، حيث الكثير من حالات سحب الأطفال كانت مبنية على أُسُس واهية، وأن الأهالي يمكن جدًّا أن يكونوا قد تعرضوا للتمييز بسبب الأحكام المسبقة التي تؤثر، بحسب الدراسات المثبتة، على قرارات الموظفين، لذلك نطالب نحن في نيانس بتأمين معونة حقوقية مجانية تُمنح للأهالي الذين يعتقدون أنه تمَّ ظلمهم بسحب أطفالهم منهم، وأن يحصلوا على معاملة عادلة خالية من التمييز والعنصرية”.
على جانب مماثل، تؤكد المرشحة أنوار خلال حديثها لـ”نون بوست”: “عند وصولنا إلى البرلمان السويدي ستكون المطالب بحقوق الأقليات التي سلطنا الضوء عليها، مثل قضايا الاندماج وسياسة الإسكان والتعليم، من أولوياتنا، إلى جانب وجودي كفتاة محجبة هذا بحدّ ذاته دعم للاجئات وسيشجّعهن على الاندماج أكثر في المجتمع والخوض في السياسة، والاهتمام بالمشاركة السياسية والاطّلاع على القرارات التي تُتَّخذ”.
وتضيف: “كيف لا نخوض نحن (النساء) في السياسة؟ مجتمعنا يديره سياسيون ونرى اقتراحات مثل منع الحجاب أو غيره تُتَّخذ في البرلمان دون أن يتحدثوا إلينا، سأمنح بذلك الفرصة للسياسيين للحديث معنا عن قضايانا بدلًا من الحديث عنّا”.
وتكمل: “ومن القضايا المهمة لدي أيضًا هو ما يسمّى بالأفروفوبيا (الكراهية ضد الأفارقة) والإسلاموفوبيا، فحزب نيانس يسعى إلى اعتراف الدولة بالأفروفوبيا والإسلاموفوبيا كمشكلتَين اجتماعيتَين، كذلك أن تصنِّف الدولة الأفروسويديين والمسلمين كأقلّية في الدستور”.
الهجوم العنصري يلاحقنا
وتسرد المرشحة نور ملّاح التحديات التي تواجهها كامرأة مسلمة محجبة تدخل مجال العمل السياسي، وهي تحديات لا نهاية لها: “ابتداء من الجبهة من الناطقين بالعربية والمنتمين إلى بيئاتنا الأصلية، والذين يصعب جدًّا على بعض منهم رؤية امرأة مثقفة شجاعة تتقدم لمناصب قيادية، فيلجئون لأساليب غير محترمة لإعاقة هذا التغيير الذي يرونه يتحدى بناهم العقلية القديمة التي لا ترى للمرأة مكانًا خارج المطبخ، يصبرني على هذه المعاناة ما لقيَه كل مصلح في قومه على مدار التاريخ من أذى وحسد وافتراء، وهنا تُضاف جزئية أخرى بسبب كوني امرأة ومحجّبة”.
وتستطرد: “للأسف يعيش كثيرون من شريحة المجتمع المهاجر داخل فقاعة يجهلون فيها كثيرًا ما يحدث داخل السويد، ولا يريدون أن يسمعوا من يريد توعيتهم والخير لهم وللمجتمع السويدي، والذي لا نريده هو ألّا ينزلق المجتمع نحو مزيد من العنصرية ليشبه ألمانيا النازية شيئًا فشيئًا، لن نستطيع الوقوف في وجه هذا التحول من دون قوة سياسية توحّدنا وتفهم مشاكلنا وتسعى لحلّها”.
“هناك تحديات أخرى نابعة من نظرة المجتمع السويدي لكوني محجبة من أصول مهاجرة تنتقل من صفوف اللاجئين إلى صفوف السياسيين، فهو أمر غريب عليهم أيضًا، طبعًا الهجوم العنصري الفيزيائي واللفظي يلاحقنا باستمرار، وهو خطر موجود دائمًا، وكنت أعرف أنه سيرافقني طيلة مسيرتي السياسية، فرئيس حزبنا ميكايل يوكسل تصله تهديدات مستمرة بالقتل”، وفق تعبير المرشحة السياسية ملّاح.
تتفق مع ذلك المرشحة أنوار صالح، قائلةً: “كونها تجربة جديدة هنا في السويد أن تترشح فتاة محجبة للبرلمان، فمن المتوقع أن أواجه بعض العقبات والتحديات، ولكن هذه هي الحياة ويجب على الإنسان أن يكافح للوصول إلى غايته بإيمانه وبما يفرضه الواجب عليه اتجاه بلده ومجتمعه، كما أعطتنا هذه البلاد الكثير فمن واجبنا أن نردَّ الجميل بتطوير المجتمع، فأنا بنت هذه البلاد ويهمّني أن أراها تتقدم وتزهر بجهود الجميع دون إقصاء أي شريحة من المجتمع”.
وتخلص المرشحة البرلمانية ملّاح بالقول: “رغم خطورة وجسامة التحديات، ورغم أننا بدأنا بأعداد قليلة جدًّا من المرشحين والأعضاء، لكننا اليوم بعد إصرارنا على أهدافنا خلال العمل الذي لا يهدأ بدأنا نحصد تعاطفًا واضحًا، وصرنا نرى الناس في كل مكان يحيّونا ويدعمونا ويعرفونا ويعبِّرون عن تأييدهم ورغبتهم في جلب المزيد من التأييد لحزب نيانس”.
“سندخل مع هذا الحزب الانتخابات البلدية والإقليمية والبرلمانية في يوم 11 سبتمبر/ أيلول المقبل، آملين أن نستطيع هزّ الأرض تحت القوى العنصرية المتنامية وتوجيه دفة القيادة السياسية في السويد دون المزيد من التمييز ضد مواطنيها من أصول مهاجرة، لتبدأ برؤيتهم كرافد للمجتمع السويدي وليس كمشكلة وعقبة”.. تختتم الملاح.