في ساعاتٍ تحبسُ الأنفاس، اتّجهت أنظار الشارع الفلسطيني شعبًا وفصائلَ وسلطةً تجاه جامعة بيرزيت، وانتخابات مجلس مؤتمر طلبتها بين الكتل الطلابية المتنافسة، والممتدة للأحزاب الفلسطينية حماس وفتح والجبهتَين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب.
لم يكن الفلسطينيون وحدهم من يترقّبون نتائج انتخابات بيرزيت، بل تفرّغت غرفُ الضباط في مخابرات الاحتلال ترصد عن كثب الأيام التي تسبق يوم الاقتراع، وأرسلت رسائل إلى ذوي الطلاب والطالبات تهددهم من انتخاب آبنائهم لكتلة الوفاء الإسلامية، الذراع الطلابي لحركة حماس، كما استنفر جيش الاحتلال، حتى قبل ساعات من بدء الاقتراع، حين اعتقل 7 من كوادر الكتلة الإسلامية في الجامعة.
هذا الاهتمام الكبير بانتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت ليس وليد اللحظة فحسب، بل هو حدث سنوي بامتياز، تتفرّغُ له المؤسسات الإعلامية المحلية، وتتّجه إليه أنظار الإعلام العبري، لمعرفة من سيختار الطلاب، وبلغةٍ أدق من سيختاره الشارع الفلسطيني.
متنفّس الديمقراطية الوحيد
في تاريخ الضفة الغربية الحديث، تشكِّلُ انتخابات جامعة بيرزيت نقطة فارقة كل عام، تقيس مؤشّرَ التوجه الشعبي الفلسطيني، في ظل غياب أي ممارسة ديمقراطية يحلمُ بها الشباب في فلسطين المحتلة منذ عام 2006، وما أفرزته الانتخابات التشريعية حينها من فوز كبير لحركة حماس، دفع السلطة في الضفة فيما بعد لإلغاء نتائجها، وأصبحت تُذكَر في الأخبار “الانتخابات الأخيرة” حتى هذه اللحظة.
وبينما انتخب الفلسطينيون مرتَين فقط في الانتخابات التشريعية عامَي 1996 و2006، كانت بيرزيت المتنفّس الوحيد لمزيد من هذه الممارسة الديمقراطية، حيث كانت دورة الانتخابات الأخيرة لعام 2022-2023 هي الدورة الانتخابية الـ 24 في تاريخ الجامعة، فازت فيها الكتلة الإسلامية 12 مرة، وفازت كتلة الشهيد ياسر عرفات (الشبيبة) 10 مرات، فيما امتنعت الكتلة عن المشاركة في الانتخابات مرتين احتجاجًا على تغييب شبه كاملٍ لكوادرها من قبل السلطة والاحتلال.
محليًّا، لم تحظَ أجيال كاملة تجاوز عمرها الـ 30 عامًا فرصة الاقتراع وانتخاب من ينوب عنها في تمثيل قضيتها ونضالها ضد الاحتلال بالمستوى الأول، وإدارة شؤون البلاد الاقتصادية والاجتماعية في المستوى الثانية، وحتى في الانتخابات البلدية التي تجري على مستوى البلديات والمجالس القروية، والتي حدثت مؤخرًا في الضفة الغربية، تعمّد الاحتلال اعتقال عددٍ من مرشحين منتمين للحركات الإسلامية التي قاطعت رسميًّا الانتخابات، فيما تكفلت السلطة الفلسطينية باعتقال الناخبين او الداعمين للكتل المعارضة.
عام 2021 شعرَ الفلسطينيون ببارقة أمل بأن يعيشوا انتخابات تشريعية ورئاسية بعد 15 عامًا على آخر مرة، وذلك حين أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسومًا رئاسيًّا يقضي بإجراء الانتخابات، وبالفعل بدأت حينها القوائم الانتخابية بالتشكُّل، وبدأت التحضيرات للدعاية الانتخابية، قبل أن يؤجّلها الرئيس إلى أجلٍ غير مسمى، حتى يسمح بإجراء انتخابات في القدس، التي تخلى عنها بموجب اتفاقية أوسلو عام 1993.
انتخابات نقابية على أُسُس سياسية
الأصل في انتخابات أي جامعة أن يكون البرنامج النقابي هو منطلق الترشح والانتخاب، وأن تكون استراتيجية العمل والوعود الانتخابية هي أصل ما يدفع الطالب لانتخاب من يفيده خلال حياته الأكاديمية، لكن الواقع الفلسطيني حتمًا مغاير، خاصة أن الكتل الطلابية هي امتدادات لأحزاب خارج أسوار الجامعة، وبالتالي يكون الانتخاب في معظمه على أساس الانتماء السياسي لا البرنامج النقابي.
تُترجَم هذه المعادلة جليًّا في المناظرة الطلابية قبيل يوم الاقتراع، حين تعيد الكتل الطلابية استحضار الأحداث والوقائع السياسية في المشهد الفلسطيني، وتعلو أصوات المناكفة بين أكبر الأحزاب وأشدّها معارضة لبعضها: حماس وفتح، أو بلغة بيرزيت الكتلة والشبيبة.
ففي المناظرة الأخيرة، استحضرت الكتلة الإسلامية ومن جانبها الجبهة الشعبية، في تحالفٍ ضمني، ما فعلته حركة فتح ممثَّلة بالسلطة الفلسطينية خلال العامَين الأخيرَين، اللذين لم يشهدا انتخابات مجلس طلبة بفعل الإجراءات الصحية وفايروس كورونا.
فاستذكرَ كل من الكتلة الإسلامية والقطب الطلابي تأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية، واغتيال الناشط نزار بنات، والفساد في صندوق “وقفة عز” المخصَّص لدعم المتضررين من فايروس كورونا، والتنديد الرسمي للسلطة الفلسطينية بالعمليات الفدائية الأخيرة في الداخل المحتل، وملاحقة النشطاء والمقاومين في جنين، والاعتقال التعسفي الذي تنفّذه السلطة الفلسطينية بحقّ أبناء الفصائل المعارضة، والاجتماعات بين السلطة وحكومة الاحتلال في رام الله وتل أبيب.
إن “محور المقاومة” -إن صحّت تسميته هكذا- كان لا بدَّ له أن يؤكد خلال مناظرته على لسان طلبة الجامعة على الفارق الكبير بين رؤيتَين: المقاومة والتنسيق الأمني، وكان لا بدَّ من استحضار ثوابت أصبحت راسخة في السياسة الفلسطينية بين حلفِ من يقاوم، وحلفِ من يسعى لسلام على أنقاض الدماء الفلسطينية منذ النكبة وحتى اللحظة.
في المقابل، كان أمام كتلة الشهيد ياسر عرفات (فتح) أن تحاول بوضوح الانسلاخ عن أفعال السلطة الفلسطينية، التي تموِّل دعايتها الانتخابية كاملة، وأن تتبرَّأ منها وتلصق نفسها مع المقاومة والعمليات الفدائية، التي أدانها رئيسها محمود عباس وشدّد على السلام بين الفلسطينيين والمستوطنين، وككل عام كان لا بدَّ من الإشارة إلى انتهاكات حركة حماس في قطاع غزة.
المقاومة “تكتسح” والشارع يختار
لم يخفَ على أحد من المراقبين والمحللين خلال يوم الاقتراع أن الفوز سيكون من نصيب الكتلة الإسلامية (حماس)، لكن الفارق الكبير الذي حدثَ لأول مرة في تاريخ الجامعة بفارق 10 مقاعد بين الكتلة (28 مقعدًا) والشبيبة (18 مقعدًا) كان مفاجئًا للجميع، إلا أن هذا الفارق الكبير وجد في عمق السياسة ما يبرِّره.
فحركة حماس، التي خاضت والمقاومة الفلسطينية معركة “سيف القدس” في مايو/ أيار 2021، والتي انتصرت حينها لصرخات المقدسيين، ضاعفت من رصيد حضورها في الشارع الفلسطيني، وتصاعدت شعبية قياداتها العسكرية مثل خالد الضيف، القائد العام لكتائب القاسم الذراع العسكري للحركة، الذي أصبح الهتاف باسمه واجبًا شعبيًّا في المظاهرات ضد الاحتلال، وأبو عبيدة الناطق الرسمي باسم الكتائب، الذي رفعَ خلال معركة “سيف القدس” من الروح المعنوية والنضالية للشعب الفلسطيني أجمع.
في المقابل، كانت حركة فتح والسلطة الفلسطينية تتخذُ مسارًا بعيدًا عن الحاضنة الشعبية، وقد تغوّلت ممارسات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية خلال العامَين الأخيرَين كما لم تتغوّل من قبل، ولم تقف فقط في وجه امتداد المقاومة في الضفة الغربية بحكم التنسيق الأمني، بل لاحقته جنبًا إلى جنب مع جيش الاحتلال، فضلًا عن الانشقاقات الكبيرة في صفوف الحركة، ما بين معسكرَي الأسير مروان البرغوثي المتواجد بقوة في الحاضنة الشعبية ومعسكر محمود عباس.
تداعيات فوز الكتلة الإسلامية، ومحافظة القطب الطلابي (الجبهة الشعبية) على مقاعده الخمسة بدأت بالفعل منذ إعلان النتائج، أدّتا إلى تقديم عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، موفق سحويل، المسؤول عن ملف الشبيبة الطلابية في الحركة، وأعضاء آخرون استقالتهم نتيجة “الهزيمة المدوية” كما وصفوها، وقد دعا إلى فتح لجنة تحقيق عاجلة حول هذه النتائج الصادمة، وما ادّعاه من التحاق أبناء قيادات في السلطة الفلسطينية بركب الكتلة الإسلامية.
على الصعيد الشعبي، أفرزت انتخابات بيرزيت التفافًا شعبيًّا حول خيار المقاومة، بعيدًا عن خطابات السلام واستجداء الرحمة من العالم، كما أكّدت على الغضب العارم شعبيًّا تجاه ممارسات السلطة وحركة فتح، في دعوة لهما إلى العودة للإجماع الوطني الذي يرى في الاحتلال عدوًّا لا صديقًا يمكن أن نصافحه في السلام.