“أنا مَلكُ الترحال.. وتاجُ التيجانِ على رأسي.. حبّةُ قَمْحٍ.. يَطردني الحكّامُ.. فأمضي مُبتسمًا.. هذي أرضٌ واحدةٌ.. لكنّ الحكامَ كثيرون”.
لم يكن شعر مظفر النواب نابعًا من حالة شعورية عاطفية أو صياغة نظمية، إنما كان تجسيدًا لكل معاني الألم والقهر التي من الممكن أن تعتري الإنسان، فكيف إن كان هذا الإنسان شاعرًا يقلّب القهر والألم فيحيله إلى كلمات تتجلى لدى كل فقير ومنفي ومظلوم؟
هاجرَ مظفر النواب اليوم إلى بيته الأخير، بعد رحلة من النفي والهجرة واللجوء والعذاب، كتب رحلته هذه بمداد الهمّ والأحزان على أمة لم يرَ فيها يومًا من الهناء، وهو كما كل إنسان عربي عانى من ظلم الأنظمة وجورها، ما دفعه أن يصبَّ غضب كلماته على هذه الأنظمة ويشتمها بأقذع الألفاظ، فالحكومات العربية كما يرى النواب هي أساس كل شرّ في هذا العالم كما صوّرها في قصيدته “الأساطيل”.
لم يشفع للنواب كبر سنّه وضعفه أن يموت على أرض بلده مكرّمًا معزّزًا، حيث رحلَ النواب في دولة الإمارات بعيدًا عن العراق موطن طفولته، وكانت حياته مليئة بالترحال والنفي والهجرة.
البدايات
تعود جذور الشاعر العراقي مظفر النواب الذي وافاه الأجل اليوم في دولة الإمارات إلى البيت الهاشمي، وولد في العاصمة العراقية بغداد عام 1934 لأسرة أدبية ثرية، حيث كان جدّه ينظم الشعر بالعربية والفارسية، ويُذكر أن أجداده هاجروا إلى الهند أيام العثمانيين، لكن الاحتلال الإنكليزي عملَ على ترحيلهم بسبب مقاومتهم، وتعدّ عائلة النواب من العوائل الأرستقراطية الغنية التي تربطها صلة كبيرة بالموسيقى والفن.
تأثّر شاعرنا الراحل النواب بأجواء عائلته فصار يحفظ الشعر منذ الصغر، اتّضح هذا التأثُّر في مدرسته، حيث كان معلمه يلقي بيتًا من الشعر فعاجله النواب وقال له الشطر الثاني من البيت، ليكتشف المعلم موهبته الفطرية في الشعر، ويومًا بعد يوم بدأت تبان علامات السلامة الشعرية لدى النواب، الأمر الذي دفعه بالمشاركة في إعداد مجلات الحائط المدرسية وكتابة أشعاره بها.
لكن دوام الحال من المحال، حيث تعرّضت أسرة النواب لأزمة اقتصادية جعلته يكمل حياته الدراسية في حالة فقر وعوز، إذ تعرّض أبيه لخسارة كبيرة جعلته يعلن إفلاسه ويخسر قصره الذي كان موئلًا للندوات الثقافية، ورغم هذه الحالة الصعبة أكمل الشاعر الراحل دراسته في كلية الآداب ببغداد.
تخرّج النوّاب من الجامعة وبدأ العمل في المؤسسات الحكومية، حيث تقلّد منصب مفتش فني في وزارة التربية في بغداد، وبالتزامن مع عمله اشتغل النواب على تنمية مهاراته الشعرية، وبدأ بإقامة العديد من الأمسيات الشعرية، وكان مهتمًّا بالقضايا القومية والاجتماعية والسياسية الخاصة بالعرب.
لكن ميوله السياسي كلفه كثيرًا بين سجن ونفي وتعذيب، والمعلوم عن النواب أنه كان مؤمنًا بالمبادئ الشيوعية ما دفعه إلى الانضمام لصفوف الحزب الشيوعي العراقي، وفي عام 1963 اضطرَّ لترك البلاد بعد احتدام الصراع بين القوميين والشيوعيين.
وبعد تسلُّم القوميين للحُكم كانت رحلة الهجرة الأولى للنواب، حيث اتجه صوب إيران في طريقه إلى روسيا، لكن الاستخبارات الإيرانية أمسكت به وسلمته لسلطات بغداد، ليُحكم عليه بالإعدام من قِبل المحكمة العسكرية العليا، وبعد ذلك خُفِّف الحكم إلى السجن المؤبد.
قضى فترة سجنه في جنوب العراق قبل أن يُنقَل إلى سجن منطقة الحلة القريبة من بغداد، إلا أن النواب تمكّن من الهرب من السجن الواقع في الحلة وأخفى نفسه وعمل في شركة هولندية، وقد أحدث فراره من السجن ضجة في العراق والدول العربية، حيث هرب مع بعض زملائه عن طريق نفق حفروه من الزنزانة إلى خارج السجن، وعاود الظهور بعد صدور عفو عام عن المعارضين عام 1969 ليعود إلى وظيفته الحكومية.
ملاحقات وتضييقات أمنية
اُعتقل النوّاب خلال موجة اعتقالاتٍ جديدة، وبعد إطلاق سراحه اتجه إلى بيروت ومن ثم إلى دمشق، وبدأ في التنقُّل بين عواصم العالم العربية والأوروبية، وفي اليونان عام 1981 تعرض لمحاولة اغتيال، بعد ذلك استقرَّ في العاصمة دمشق وكرّس وقته وأيامه للشعر والأدب.
وعن المضايقات والملاحقات التي تبعته حتى خارج العراق، يقول النواب في أحد لقاءاته الصحفية: “هم يتابعونني. ذات مرة التقيت بشخص من حراس صدام أثناء اختطافي في اليونان”، مضيفًا: “منذ أيام الهجوم على المفاعل النووي العراقي. سحب مسدسًا وعليه كاتم للصوت، وكان أحد الأسئلة التي وجّهها لي هو عن جواز السفر الذي أستخدمه. كانوا سينقلوني للسفارة لإجراء تحقيق طويل معي. فقلت له: جواز عراقي. ولم يكن هذا صحيحًا، حيث أنني استعملت عدة جوازات. فقال لي: دوختنا 13 سنة. كلما تبعناك إلى مكان ما تتحرك إلى مكان آخر. مما يعني أنهم كانوا يتابعوني”.
ويقول الشاعر الراحل عن لقائه بصدام حسين عندما كان قياديًّا في حزب البعث: “لم يكن صدام حسين لديه أي منصب. كان قياديًّا في الحزب. لم يكن متوترًا وكان دمثًا في الحوار رغم إجاباتي التي كانت واضحة جدًّا. مثلًا أحد الأسئلة التي سألها هو: ألا تثق بنا القيادة المركزية؟ وكنت أتكلم معه على أساس أنه ليست لي علاقة بأحد. فقال لي: حسنًا. أنت، مظفر النواب، هل تثق بنا أم لا؟ فقلت له: يمكنك أن تعيدني إلى الموقف. ليس عندي ثقة بكم. ضحك ولم يقل شيئًا. لا أدري. هو لديه تفكيره وأبعاده. لكن هذا ما دار”.
شتائم الحكّام العرب
اشتهر مظفر النواب في بداياته بقصيدة “قراءة في دفتر المطر”، وبعدها نظم الملحمة الشعرية “وتريات ليلية”، وكانت هذه القصيدة ملتزمة بقضايا العرب وهمومهم، ليُصبَغ النواب بصبغة رافقته حتى الممات، وهي الشعر السياسي المعارض للأنظمة العربية التي جعل منها أساس كل شرّ في هذه البلاد، كما كان النواب من الشعراء الأكثر جرأة بألفاظه المقرِّعة للحكّام العرب، ولا يُذكر أن عربيًّا لم يسمع بقصيدة “القدس عروس عروبتكم”.
قصائد النوّاب جعلت منه منفيًّا دائمًا، فعلى مدار 5 عقود جال شاعرنا الراحل بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم وسلطنة عُمان وإريتريا وإيران، وكذلك فيتنام وتايلاند واليونان وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، فضلًا عن فنزويلا والبرازيل وتشيلي.
وفي عام 2011 عاد النواب إلى وطنه العراق بعد غربة نالت منه ومن جسده الذي أصبح منهكًا ومتعبًا، ولعلّ من العبارات الخالدة التي قالها النواب على سرير مرضه: “متعب أنا مني.. ولا أقوى على حملي”.
كثيرة هي القصائد والأشعار والأبيات التي قالها النواب، ومن الأكيد أن أحدًا لا يستطيع أن يختار أجملها أو أكثرها تعبيرًا عن الواقع المعاش، فكل عربي يستطيع أن يحمل من أبياته شيئًا ويغنّي به همّه، سياسة وثقافة وعشقًا.
رغم عودته إلى العراق، إلا أن النواب قضى بعيدًا عن وطنه في أحد مستشفيات دولة الإمارات، وكأنه مات هناك لتبقى صفة النفي ملتصقة به، وهو الشاعر المنفي الذي حاولَ العودة إلى وطنه لكنه لم يستطع أن يموت فيه، ليُبقي لنا أشعارًا ترتسم في حياتنا، تروي وجعنا وقصصنا وحكايتنا مع الأنظمة العربية وقهرها لمواطنيها وحملهم على الذل والعوز، وكأننا كلنا مظفر النواب وهو ينطق بآهاتنا.
رثاء
ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية برثاء الراحل مظفر النواب، كيف لا وقد كانت قصائده تعبِّر عن غضب الناس وقهرهم، يقول الباحث السوري أحمد أبازيد: “رحل مظفر النواب، ترك السفينة إمام المغنين وسيد الغضب ومليك الحزن ورسول أسرار العشاق بعد أن وزع روحه تسعين عامًا قصائد وأغنيات إلى الذي قشر القلب كبرتقالة وفجّر اللغة قنابل وأحيا أرق ليالي العمر سنين، “يا حامل مشكاة الغيب بظلمة عينيك ترنم من لغة الأحزان فروحك عربية”، وداعًا أبو عادل”.
رحل مظفر النواب، ترك السفينة إمام المغنين وسيد الغضب ومليك الحزن ورسول أسرار العشاق بعد أن وزع روحه تسعين عامًا قصائد وأغنيات
إلى الذي قشر القلب كبرتقالة وفجر اللغة قنابل وأحيا أرق ليالي العمر سنين
“يا حامل مشكاة الغيب
بظلمة عينيك
ترنم من لغة الأحزان
فروحك عربية”
وداعًا أبو عادل pic.twitter.com/7gj5K9rYhy
— أحمد أبازيد (@abazeid89) May 20, 2022
قال الصحفي السعودي علي الظفيري ناعيًا النواب: “ما أچذبكْ.. أنا ناسيك وبچيت مظفر النواب رحمك الله يا بو عادل، نشأنا على شعرك ورفضك ومنافيك وغضبك وعذوبة كلماتك، طاردناك في مكان، ولاحَقَنا شعرُك في كل لحظة من حياتنا”.
ما أچذبكْ.. أنا ناسيك وبچيت #مظفر_النواب
رحمك الله يابو عادل، نشأنا على شعرك ورفضك ومنافيك وغضبك وعذوبة كلماتك، طاردناك في مكان، ولاحَقَنا شعرُك في كل لحظة من حياتنا
*الصورة في مقهى الروضة
دمشق منتصف التسعينات pic.twitter.com/vq35lu5dLV
— علي الظفيري (@AliAldafiri) May 20, 2022
بينما الصحفي العراقي سيف صلاح الهيتي اقتبسَ بيتًا من شعر النواب: “أصابحُ الليلَ مصلوبًا على أملٍ أنْ لا أموتَ غريبًا ميتةَ الشبحِ”.
أصابحُ الليلَ مصلوبًا على أملٍ
أنْ لا أموتَ غريبًا ميتةَ الشبحِ .
لقد مات غريبا منفيًا ناقمًا كعادة كل مبدعي هذا البلد، لم تحتويه درابين عراقه ولم تنصفه حكوماته المتعاقبة، ظل يشعر بالحرمان طوال حياته، وظلت الحكومات إما مطاردة له أو متناسية مكانته ووجعه،
رحل #مظفر_النواب pic.twitter.com/sehJqzSXtA
— سيف صلاح الهيتي (@saifsalahalhety) May 20, 2022
وقال الهيتي: “لقد مات غريبًا منفيًّا ناقمًا كعادة كل مبدعي هذا البلد، لم تحتويه درابين عراقه ولم تنصفه حكوماته المتعاقبة، ظل يشعر بالحرمان طوال حياته، وظلت الحكومات إما مطاردة له أو متناسية مكانته ووجعه، رحل مظفر النواب”.