لم تتوقف معاناة اللبنانيين عند الأزمة الاقتصادية التي تحاصر لبنان، بل تعدتها حتى بلغت جواز السفر، إنها وثيقة التنقل والحق الذي بات ممنوعًا على اللبناني، فتحول البلد اليوم إلى سجن كبير محروم فيه مواطنوه من حرية السفر والتنقل بين البلاد.
كانت المديرية العامة للأمن العام اللبناني قد أعلنت أنها أوقفت العمل بمنصة حجوزات جوازات السفر المسبقة، بسبب بدء نفاد كمية الجوازات التي تملكها، وعدم تمكّن الدولة من إيفاء قيمة العقد للشركة المتعاقدة معها لتأمين الجوازات، وبالتالي تأخر الحصول على جوازات تكفي حجم الطلبات المقدمة.
لم يعلن الأمن العام متى سيعود إلى إصدار جوازات السفر اللبنانية من جديد، ما يزيد الضغط على اللبناني الراغب بالهروب من الأزمات غير المنتهية.
طلاب لم يعودوا إلى جامعاتهم في الخارج، كذلك عقود عمل لم تكتمل ومرضى لم يعالجوا بسبب حاجتهم للمغادرة، والعائق كان جواز السفر غير الموجود، وعلى ما يبدو أن أزمة الجوازات اليوم تعد وجهًا من أوجه إفلاس الدولة اللبنانية وفشلها في إدارة البلاد حتى صار الهروب عن طريق البحر المنفذ الوحيد للسفر وأضحت الطائرة حلمًا بعيد المنال.
أصل الأزمة
سابقًا كان استخلاص جواز السفر لا يتطلب ذلك المجهود، فبمجرد التقديم يمكن الحصول عليه بعد أسبوع وإذا كان مستعجلًا يمكن استلامه في اليوم ذاته بعد دفع رسوم إضافية، أما اليوم وفي خضم الأزمة تعقدت الإجراءات فصار واجب على اللبناني التقديم لطلب جواز السفر عن طريق المنصة أو الموقع الرسمي للأمن العام وبعدها ينتظر دوره بموعد محدد.
تهافت اللبنانيون على تقديم طلب استخراج جواز السفر، فتفاقمت الأزمة وتعقدت، وصار ضمن شروط الطلب إرفاق حجز طائرة وفندق وحتى يتطلب وجود تأشيرة، وأخيرًا وصل الأمر إلى منع إصدار جواز السفر كليًا. تبرر المديرية العامة للأمن العام بأنها شهدت اعتبارًا من عام 2020 ضغطًا كبيرًا على طلبات جوازات السفر، فاقت عشرات أضعاف الأعوام السابقة، ما أثر على مخزون جوازات السفر لديها.
وجاء قرار الأمن العام رغم إقرار مجلس النواب في 7 أبريل/نيسان 2022 اعتماد استثنائي بقيمة 300 مليار ليرة لبنانية لتغطية نفقات تحقيق مليون جواز سفر لبناني، إلا أن مصرف لبنان لم يعمد إلى تحويل الأموال إلى الشركة المتعاقدة بسبب خلاف على سعر الصرف الذي يجب اعتماده.
مع تعقيدات لبنان وحالة المد والجذر بين الأحزاب والطوائف يبدو أن أزمة جوازات السفر سترقد في أدراج الحكومة طويلًا
فقد وقع الخلاف على اعتماد سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة لبنانية للدولار) أو سعر الصرف السوق السوداء (بين 22 و23 ألف ليرة لبنانية للدولار)، ورغم الاتفاق على اعتماد سعر السوق السوداء، لم يحول مصرف لبنان الأموال إلى الشركة حتى تاريخه، ما منعها من تسليم جوازات سفر جديدة للأمن العام.
باختصار لا يمكن للمواطن الحصول على جواز سفر إلى حين فتح اعتمادات مطلوبة للشركة الفرنسية التي تطبع جوازات السفر، إذًا الموضوع أصبح في ملعب الحكومة اللبنانية لتأمين الاعتمادات، ولا حل آخر في جعبة المديرية، لأنه لا يمكنها طباعتها بنفسها نظرًا للمعايير المطلوبة، وهي في الأصل لا تملك الأموال ومرتبطة بعقد مبرم مع شركة فرنسية.
تتفاقم الأزمة بين الأمن العام والمصرف المركزي لتصل أخيرًا إلى أدراج الحكومة التي ستصدر قرارًا بالقضية المتعثرة هذه، لكن الحكومة اليوم باتت حكومة تصريف أعمال بعد الانتخابات التي حصلت مؤخرًا التي سينتج عنها حكومة ورئيس مجلس وحتى رئيس جمهورية.
لكن مع تعقيدات لبنان وحالة المد والجذر بين الأحزاب والطوائف يبدو أن أزمة جوازات السفر سترقد في أدراج الحكومة طويلًا.
جواز السفر اللبناني من الأغلى عالميًا
حتى 2021 كانت تكلفة جواز السفر لا تزيد على 60 ألف ليرة صالحًا لمدة سنة، و300 ألف ليرة إذا كان صالحًا لمدة ثلاث سنوات، أما اليوم تضاعفت الأرقام، وبحسب ما ذكرته المديرية العامة للأمن العام اللبناني، بلغت كلفة تجديد جواز سفر المقيمين في لبنان نحو مليون و200 ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل 795 دولارًا على سعر الصرف الرسمي، ويستطيع الوافدون توقع دفع 600 دولار عند تجديد جوازات سفرهم في القنصلية اللبنانية.
وخلص تقرير حديث لشبكة “سي إن إن” الأمريكية جمع متوسط أسعار استخراج جواز السفر للبالغين لمدة صلاحية 10 سنوات كمتوسط للمقارنة بين أسعار تجديد جوازات السفر المختلفة، إلى أن جواز السفر البناني هو الأغلى عالميًا بعد أن كان جواز السفر السوري متقدمًا عليه ثم جواز السفر الكوبي في المرتبة الثالثة.
وجاء في تقرير “سي إن إن أن متوسط تكلفة الحصول على جوازات سفر في أغلب دول العالم يتراوح بين 100 و160 دولارًا، مؤكدة أنه ثمن بسيط بالنسبة للكثير من المواطنين، في المقابل يدفع اللبنانيين الذين يجددون جوازاتهم في قنصليات بلادهم نحو 600 دولار، وهو ما يعتبر مبلغًا باهظًا جدًا مقارنة مع جوازات سفر عالمية أخرى.
لا تنتهي الأزمة في المبالغ الباهظة التي يدفعها الللبنانيون، بل أيضًا في الأوراق القانونية التي تستخلصها السفارة، فورقة قيد بسيطة أو ملكية أو ثبوتية يمكن أن تصل إلى 80 دولارًا.
تلاحق الأزمة اللبناني في كل مكان يوجد فيه، طالما هناك سفارة، التي ضاعفت أسعارها في إجراء معاملات وجوازات السفر، حتى أخيرًا منعت كليًا عنه جواز السفر بحجة عدم وجود أوراق أو عدم وجود أموال، فأين تذهب كل تلك الأموال التي يدفعها المواطنون؟
جواز السفر اللبناني من الأضعف عالميًا
لا يتمتع جواز السفر اللبناني بالكثير من المميزات بل لطالما كان وثيقة ضعيفة، ورغم ذلك حرم منه اللبنانيون، ومع تدهور الحال في البلاد، صار الحصول على تأشيرة من المستحيلات، هناك عدة مواقع تعطي إحصاءات لترتيب جوازات السفر في العالم، أبرزها ما يسمى “مؤشر هينلي“، ويستند المؤشر على البيانات التي تقدمها هيئة النقل الجوي الدولية (IATA)، ويغطي 199 جواز سفر و227 وجهة سفر، ويتم تحديث القائمة على مدار العام.
بحسب قائمة Henley Passport Index الذي يحدد بشكل دوري ترتيب جوازات السفر في العالم، صنفت منذ عام 2018 لبنان بالإضافة إلى العراق وسوريا واليمن في ذيل القائمة من حيث قوة جوازات السفر، ويحتل جواز السفر اللبناني المرتبة الـ13عربيًا والمرتبة الـ100 عالميًا بحسب القائمة.
جواز السفر اللبناني يسمح لحامله السفر إلى 43 وجهة دون تأشيرة سفر أو تأشيرة عند الوصول، وتشترط 186 دولة من حاملي جوازات السفر اللبنانية تقديم طلب للحصول على تأشيرة سفر.
ويتم تحديد ترتيب جواز سفر لبنان بالنسبة إلى جوازات سفر دول العالم الأخرى عن طريق احتساب مجموع عدد الدول التي تسمح لحاملي جواز سفر لبنان بالدخول إليها دون تأشيرة (أي الدول التي لا يحتاج مواطنو لبنان إلى تأشيرة للسفر إليها) بالإضافة إلى الدول التي تسمح لحاملي جواز سفر لبنان بالدخول إما عن طريق الحصول على تأشيرة عند الوصول أم من خلال الحصول على تصريح سفر إلكتروني.
توجد حاليًّا 15 وجهة سفر تتيح لحاملي جواز سفر لبنان السفر إليها دون تأشيرة، و27 وجهة سفر تمنح مواطني لبنان تأشيرة عند الوصول، ووجهة سفر واحدة يمكن لمواطني لبنان السفر إليها من خلال الحصول على تصريح سفر إلكتروني.
يسير لبنان بخطوات ثابتة نحو انهيار الدولة والإفلاس، وتجلى ذلك في أزمة جوازات السفر التي تعتبر سابقة في تاريخه وربما في تاريخ دول العالم، فجواز السفر هو الوثيقة الأقوى التي تربط كل مواطن بوطنه الأم وأرضه، ورغم ضعف هذه الوثيقة وغلائها، حرم اللبنانيون منها، ما يزيد من دوافعهم نحو الهجرة ومغادرة البلاد مهما كلف الأمر.