ترجمة وتحرير: نون بوست
يمكن للقوة الدبلوماسية القطرية – التي تنامت مؤخرًا على المستوى الإقليمي من جهة وعلى المستوى العالمي من جهة أخرى – أن تساهم بشكل كبير في حل عقدة أمن الطاقة الأوروبي. ومؤخرًا، رفعت إدارة بايدن قطر إلى مرتبة “حليف مهم من خارج الناتو”. وإذا أرادت الدول الأوروبية اليوم إنهاء اعتمادها على روسيا في مجال الطاقة، فعليها اتخاذ خطوات جذرية في العديد من المجالات، لا سيما فيما يتعلق بالمفاوضات النووية الإيرانية والاستقرار السياسي في العراق وسوريا والعلاقات مع تركيا.
إن الحركة الدبلوماسية المذهلة التي اتبعها أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني في خضم الحرب الروسية الأوكرانية والمفاوضات النووية الإيرانية تستحق الدراسة. ومن المرجح أن يكون لزيارة الأمير القطري المفاجئة لإيران التي تلتها زيارة إلى تركيا وبعض الدول الأوروبية بما في ذلك المملكة المتحدة وألمانيا، نتائج هامة على المستوى الإقليمي والعالمي.
أزمة الغاز
من المعروف أن أوروبا تشهد “أزمة غاز” في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، خاصةً بعد الإعلان عن إغلاق الخط الذي ينقل الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا لينتج عن ذلك تصعيد التوتر في هذا المجال. ومن شأن المزايا التي تتمتع بها كل من إيران وقطر فيما يتعلق باحتياطي الغاز الطبيعي العالمي منح زيارات الأمير القطري اهتماما كبيرا على النطاق العالمي.
احتياطي الغاز الخليجي
تستخدم قطر وإيران، اللتان تحتلان المرتبة الثانية والثالثة عالميًا من حيث احتياطي الغاز الطبيعي بنسبة 17 في المئة و11 في المئة، الاحتياطي المشترك في حقل الشمال في الخليج العربي الذي يُعرف اليوم على أنه أكبر حقل للغاز غير المصاحب في العالم.
يعد احتياطي كلا البلدين أكبر من حجم احتياطي روسيا. وبالنظر إلى التقديرات التي تشير إلى أن العراق لديه أيضًا احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، تبرز منطقة الخليج العربي كمنطقة مهمة للغاية من حيث احتياطي الغاز الطبيعي على نطاق عالمي.
رغم امتلاكه احتياطيات كبيرة، تواجه دول الخليج صعوبات هامة في إيصال احتياطيات الغاز الطبيعي إلى مراكز الاستهلاك بسبب الظروف الجيوسياسية وعدم الاستقرار السياسي والعقوبات الدولية. فعلى سبيل المثال، إذا لم يتم احتساب الكمية الصغيرة من الغاز التي تبيعها قطر إلى الإمارات العربية المتحدة عبر خط أنابيب “دولفين”، يتعين على قطر بيع كل غازها الطبيعي تقريبًا عن طريق التسييل.
كانت قطر تخطط لتنفيذ العديد من مشاريع خطوط الأنابيب المتجهة إلى الهند وباكستان ودول الخليج منذ التسعينيات، لكن محاولاتها باءت بالفشل. ويتسبب بيع الغاز المسال في مشاكل عديدة من ناحية التكاليف والأمان للبلدان المصدرة والمستوردة على حد سواء. كما أن تكلفة الغاز المسال – التي تزيد بنسبة 30 في المئة عن الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب – تؤدي إلى إضعاف القدرة التنافسية لقطر في أسواق الغاز الطبيعي. أما من وجهة نظر البلدان المستوردة، فإن شراء الغاز المسال يستوجب بناء محطات تسييل جديدة مما يعني استثمارًا إضافيًا.
إيران والعقوبات
تواجه إيران – التي تحتل المرتبة الثانية بعد روسيا بنسبة 17 في المئة في الترتيب العالمي لاحتياطي الغاز الطبيعي – صعوباتٍ في إنتاج الغاز الطبيعي حتى بما يغطي احتياجاتها وذلك بسبب العقوبات التي تعرضت لها بعد سنة 2000.
كما أن إيران – التي تواجه صعوبات في توفير 10-15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي التي تعهَّدت بتزويد تركيا بها سنويًا عبر خط أنابيب الغاز الطبيعي التركي الإيراني الذي تم إنشاؤه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين – تعاني انقطاعات في الغاز الطبيعي الذي تبيعه إلى تركيا كل شتاء بسبب صعوبات الإنتاج.
بالنسبة للعراق، لا يمكن الحديث عن أي استثمار جدي للتنقيب عن الغاز الطبيعي حتى الآن. ومن المعروف اليوم أن هناك احتياطيًا ضخمًا من الغاز الطبيعي في البلاد يقع جزء كبير منه في المنطقة الشمالية بالقرب من الحدود التركية. ولكن بسبب استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد على مدى العقدين الماضيين، ظلت البلاد معزولة بشكل كبير عن أسواق النفط والغاز الطبيعي. واليوم، يتعين على العراق – الذي يتمتع باحتياطيات هامة – أن يفي باحتياجاته من الغاز الطبيعي من إيران.
خط قطر – العراق – تركيا
أدى ميل روسيا لاستخدام الطاقة كسلاح لأهدافها السياسية منذ أوائل القرن الحادي والعشرين إلى لجوء الدول الأوروبية إلى البحث عن مصادر للطاقة وتنويع إمداداتها. وفي هذه الفترة، يجري العمل على مشاريع لنقل الغاز الطبيعي من قطر وإيران إلى أوروبا عبر العراق وتركيا. لكن عدم الاستقرار السياسي في العراق وسوريا والعقوبات المفروضة على إيران والحظر الذي فرضته دول الخليج على قطر أدى إلى إرجاء هذا المشروع.
أعادت مشكلة أمن الطاقة المتزايدة في أوروبا في خضم الحرب الروسية الأوكرانية خط الأنابيب بين قطر والعراق وتركيا وأوروبا إلى المشهد الرئيسي، وهو مشروع تم التأكيد عليه بشدة في الماضي ولكن تم تأجيله بسبب حالات عدم الاستقرار التي سبق ذكرها. وبالنظر إلى احتياطيات الغاز الطبيعي العالمية ومتابعة مساراتها عن كثب، يتبين بوضوح أن السبيل الوحيد لأوروبا للتخلص من اعتمادها على روسيا في مجال الطاقة هو عن طريق نقل احتياطيات الغاز الطبيعي الموجودة في الخليج العربي إلى الغرب.
تبرز إيران وتركيا اليوم كعاملين مهمين في أمن طريق الغاز الطبيعي من الخليج العربي إلى أوروبا. تُعد إيران لاعبًا رئيسيًا بفضل احتياطياتها الهامة من الغاز الطبيعي إلى جانب حقيقة أن الاستقرار السياسي في العراق وسوريا لا يمكن أن يتحقق بدون إيران. وفي الوقت نفسه، تقف العقوبات الدولية المفروضة على إيران عقبةً أمام الاستثمارات التي ستُجرى في قطاع الطاقة الإيراني ذلك أنه وفق قانون الأنشطة النووية، سيتم إدراج كل شركة تستثمر أكثر من 20 مليون دولار في قطاع الطاقة الإيراني في القائمة السوداء للولايات المتحدة الأمريكية وسيتم فرض عقوبات على هذه الشركات.
تركيا، فاعل رئيسي
تعدُّ تركيا ـ تمامًا مثل إيران ـ ذات أهمية رئيسية لخط أنابيب الغاز الطبيعي الذي سيمتد من الخليج إلى أوروبا. وبالإضافة إلى أهمية تركيا للاستقرار السياسي للعراق وسوريا، فإن وجود العديد من خطوط الأنابيب الممتدة في البلاد إلى أوروبا، جعل تركيا لاعبًا رئيسيًا بين مراكز الإنتاج والاستهلاك.
يوجد اليوم ثلاثة طرق، في الشمال والجنوب والوسط، لنقل الغاز الطبيعي من القوقاز ومناطق الشرق الأوسط الغنية باحتياطيات الغاز الطبيعي إلى أوروبا.
لم يعد الخط الشمالي المار عبر شمال البحر الأسود موثوقًا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية واستخدام روسيا إمدادات الطاقة كسلاح لتحقيق غاياتها السياسية. أما خط شرق المتوسط – المقرر لنقل الغاز من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا مستبعِدًا تركيا – فَقد أهميته أيضًا بسبب وقف الولايات المتحدة دعمها للمشروع في الأشهر الأخيرة. وكل هذه التطورات جعلت من تركيا الفاعل الرئيسي الوحيد في حل مشكلة أمن الطاقة في أوروبا.
الحركة الدبلوماسية
للأسباب التي سبق ذكرها، فإن زيارة أمير قطر إلى إيران أولًا ثم إلى تركيا وأوروبا ثانيًا سيتم متابعتها بدقة. يمكن للقوة الدبلوماسية القطرية – التي تنامت مؤخرًا على المستوى الإقليمي من جهة وعلى المستوى العالمي من جهة أخرى – أن تساهم بشكل كبير في حل هذه العقدة في أمن الطاقة الأوروبي. وتجدر الإشارة إلى أن إدارة بايدن رفعت قطر مؤخرًا إلى مرتبة “حليف مهم من خارج الناتو”.
يمكن القول إن أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني يعتبر فاعلًا مهمًا في تخطي العقبات السياسية التي يواجهها “خط الغاز قطر – العراق – تركيا – أوروبا”، بفضل الاتصالات الوثيقة التي أقامها مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وتركيا والدول الأوروبية. وإذا أرادت الدول الأوروبية اليوم إنهاء اعتمادها على روسيا في مجال الطاقة، فعليها اتخاذ خطوات جذرية في العديد من المجالات المختلفة لا سيما المفاوضات النووية الإيرانية والاستقرار السياسي في العراق وسوريا والعلاقات مع تركيا.
تُعدُّ زيارة الأمير ذات أهمية حاسمة في التغلب على الأزمات متعددة الأبعاد بين الأطراف.
المصدر: ستار