ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ بداية الحرب في أوكرانيا كانت هناك مخاوف بشأن حصرها بين جهتين متحاربتين ضمن حدود جغرافية محددة، وأن القلق الذي يتم الإعراب عنه غالبًا هو ما إذا كان فلاديمير بوتين، بعد أن رأى إحباط طموحاته وهروب قواته، يهدد بغضب باستخدام الأسلحة النووية.
فبينما لا يجرؤ أحد على استبعاد القيام بأفعال جنونية، فإن استخدام الأسلحة النووية لن يحل أي مشاكل إستراتيجية لروسيا بل من شأنه أن يجرها إلى المزيد، كما لم يكن هناك أي مؤشر على أن بوتين يفكر بالفعل على هذا المنوال؛ فهو ليس مستعدًا للتصعيد من خلال الاعتراف بأنه يخوض حربًا حقيقية وليس مجرد “عملية خاصة” محدودة.
تم استدعاء جنود الاحتياط إلى الحرب بطريقة شبه سرية وليس من خلال التعبئة الكاملة، ووضع بوتين “خطًّا أحمر” في بداية الأعمال العدائية من خلال مطالبة دول الناتو بالامتناع عن التدخل المباشر في الحرب، وحتى الآن تم الالتزام بذلك. وفي الوقت الحالي؛ يتجلى تأثير الناتو ببساطة من خلال إبقاء أوكرانيا واقفة على قدميها اقتصاديًّا ونشطة عسكريًّا. ومع ذلك؛ هناك جانب آخر لهذه الحرب لم يحظ باهتمام كافٍ – رغم أنها أصبحت الآن موضع تركيز – هو أنه يمكن أن يتزايد الضغط من أجل عملية الناتو بسبب الحاجة إلى تخفيف الحصار الذي فرضته روسيا بنجاح على الموانئ الجنوبية لأوكرانيا في البحر الأسود؛ حيث يعتبر هذا أمرًا اضطراريًّا ليس فقط بسبب التأثير على اقتصاد أوكرانيا المنهك، ولكن أيضًا بسبب تأثيره على إمدادات المنتجات الزراعية الأساسية لبقية العالم.
وإذا استمرت القوات الروسية في التراجع ومع تكثيف الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب، فينبغي معالجة هذه المشكلة الحرجة التي يمكن أن تكون مرتبطة بالمطالب الروسية لتخفيف العقوبات. وإذا لم يكن الأمر كذلك؛ فقد تكون هناك مطالبات للقوى البحرية الكبرى لشن عمليات لاستعادة حرية الملاحة وكسر الحصار، لكن قبل التفكير في خوض الحرب في البحر، نحتاج إلى تذكير أنفسنا بحالة الحرب في البر لأن كل منها يؤثر على الآخر فنهاية المرحلة الثانية من الصراع تقترب.
في أواخر شباط/ مارس، غيرت روسيا بشكل كبير تركيز عملياتها بعيدًا عن المرحلة الأولى التي سعت من خلالها للسيطرة على كامل أوكرانيا وخاصة كييف وباتجاه دونباس، المنطقة التي قدمت للروس ذرائعهم لشن للحرب؛ حيث حققوا مكاسب في وقت مبكر. وفي المرحلة الثانية، استغلوا موقعًا قويًّا على ما يبدو لتطويق والقضاء على الوحدات الرئيسية للقوات الأوكرانية (القوات المشتركة) المتمركزة في المنطقة وبالتالي إكمال احتلال جزء معين يمكن الدفاع عنه من الأراضي الأوكرانية؛ كان هذا الإقليم قيد الإعداد بالفعل لضمه في نهاية المطاف إلى الإدارة الروسية. لكن لم تفلح هذه الجهود< فقد تم التصدي للهجمات الاستقصائية المستمرة التي تشنها القوات الروسية ولا تبدو خريطة الحملة مختلفة كثيرًا عما كانت عليه قبل شهر.
وقال الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إن أوكرانيا “يمكنها كسب هذه الحرب”، بينما أشارت استخبارات الدفاع البريطانية، بعد أن لاحظت أن الجيش الروسي فقد ثلث قوته القتالية البرية الأصلية، إلى أنها الآن “متأخرة بشكل كبير عن الجدول الزمني”.
تعد هذه قصة ذات أهداف متراجعة؛ فعندما بدأت المرحلة الثانية أشار المحللون إلى دنيبرو كهدف محتمل. ثم توجه التركيز إلى سلوفيانسك، والآن إلى سيفيودونيتسك ثاني أكبر مدينة في لوهانسك أوبلاست وهي أقرب بكثير إلى الوحدات الرئيسية للقوات الروسية، قد يكون الطموح الرئيسي هو استكمال الاحتلال حتى الحدود الإدارية لـ”أوبلاست”، على الرغم من أن القوات الروسية قد لا تكون قادرة على فعل الشيء نفسه بالنسبة لدونيتسك وهذا من شأنه أن يفضي إلى معركة كبرى ومكلفة لكلا الجانبين، فهناك بالفعل قتال في ضواحي سيفيرودونيتسك، فقد فجر الأوكرانيون جسرًا يربطها بروبيجني التي تحتفظ بها روسيا.
وحاولت القوات الروسية عبور نهر سيفركي دونيتس في 11 أيار/مايو، لكنها عانت من هزيمة كبيرة عندما سيطر الأوكرانيون على معبر ضعيف من الناحية التكتيكية وأدى ذلك إلى مقتل أو إصابة 485 جنديا (من أصل 550) وتدمير 80 قطعة من المعدات، وحتى لو استولت القوات الروسية على سيفيرودونيتسك وأكدت سيطرتها على لوهانسك، فإن قدرتها المحدودة على إجراء مناورات كبيرة ستظل تقودها إلى تبني موقف دفاعي بشكل أكبر، وكان التطور الأكثر أهمية في الأيام الأخيرة (بخلاف النهاية الحتمية ولكن المتأخرة كثيرًا للمقاومة في ماريوبول) هو تراجع روسيا عن مواقع حول خاركيف، المدينة التي عانت من القصف الروسي الشديد.
من الصعب أن نفهم لماذا يجب على الأوكرانيين قبول المحادثات مع استمرار احتلال روسيا لجزء كبير من أراضيهم، بينما يظل موقف الناتو المتفق عليه هو أن أهداف الحرب واتفاقيات السلام أمر تقرره كييف
يولد هذا خيارات جديدة للأوكرانيين بما في ذلك إمكانية تطويق القوات الروسية. وفي الوقت نفسه؛ كانت القوات الأوكرانية تحقق تقدمًا بطيئًا ولكن ثابتًا، حيث قامت بالابتعاد عن المواقع الروسية بالقرب من خيرسون، المدينة التي استطاع الروس الاستيلاء عليها في وقت مبكر من الحرب دون الكثير من القتال. لذلك ربما تتحول روسيا إلى موقف لتثبيت قواتها؛ فقد تحاول صد هجمات أوكرانية جديدة بينما تحاول سد النقص لديها إلى أن تصبح قادرة على بدء هجومها من جديد، أو حتى تسعى إلى تسوية سياسية من شأنها أن تبقيها تحتفظ بجزء كبير من الأراضي الأوكرانية.
ودفعت هذه التكهنات شخصيات مثل أفريل هينز، مدير المخابرات الوطنية الأمريكية، إلى الاعتقاد بأن الحرب ستطول وستستمر إلى العام المقبل وما بعده، مما يزيد الضغوط الاقتصادية والسياسية على أوروبا وبقية العالم بما في ذلك روسيا وأوكرانيا، ويفسر هذا الاحتمال الزيادة في الاتصالات رفيعة المستوى، بما في ذلك اتصال المستشار الألماني أولاف شولتز ببوتين ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في أول محادثات مباشرة له مع نظيره الروسي سيرجي شويغو، حول الحاجة إلى وقف إطلاق النار.
من الصعب أن نفهم لماذا يجب على الأوكرانيين قبول المحادثات مع استمرار احتلال روسيا لجزء كبير من أراضيهم، بينما يظل موقف الناتو المتفق عليه هو أن أهداف الحرب واتفاقيات السلام أمر تقرره كييف. ومع ذلك؛ فإن الرغبة في إنهاء الحرب واضحة حتى لو كان بوتين لا يزال متمسكًا ببعض المكاسب الملموسة.
تفضل أوكرانيا عدم الاندفاع إلى شن هجومها الكبير الذي لا يزال قيد التحضير؛ حيث ستكون هذا مهمة شاقة أكثر من العمليات الدفاعية، لذا ستتغير المخاطر وسوف تسعى لاستعادة مساحة كبيرة من الأراضي. ومع ذلك؛ لا يزال لدى أوكرانيا أسباب تدفعها للثقة، فقد تفوق جيشها باستمرار على الروس ولعبت تكتيكاتها دورًا في نقاط قوة وحداتها ومعرفتها بالتضاريس، ويتم تزويدها الآن بشكل كبير من قبل الغرب بمدفعية فعالة حديثة، في حين أن مخزونات روسيا مستنفدة بالمعدات القديمة وغير المعول عليها دائمًا. نظريًّا؛ هناك أعداد روسية كافية يمكن أن تقلب حياة القوات الأوكرانية رأساً على عقب إذا تمت قيادتها بكفاءة. ومع ذلك؛ فإن هذا يقلل من شأن مشكلة الحفاظ على الروح المعنوية للجيش الذي لم يحقق الكثير منذ الأيام الأولى للحرب وفقد أعدادًا كبيرة من الرجال والمعدات ومن المرجح الآن أن يتراجع ويوقف تقدمه.
كانت هناك تقارير عن وحدات ترفض الانضمام إلى القتال، وعن جنود أفراد يبحثون عن طرق للهرب لتجنب التواجد في الخطوط الأمامية؛ يمكنني أن أتفهم الحذر عند توقع تحقيق الجيش الأوكراني لانتصار ما، لكن من الصعب معرفة من أين يأتي الدافع للجيش الروسي.
بينما تستمر الحرب البرية؛ كان هناك نوع مختلف من المواجهة تجري في البحر، فلم يتم تسليط الضوء بشكل كبير على حجم المواجهة البحرية لأنه ظهرت فيها منافسة غير متكافئة، على الأقل في البداية؛ حيث استفادت البحرية الروسية إلى أقصى حد من مزاياها؛ فبدأ أسطولها الحرب في البحر الأسود ببعض الطرادات الصاروخية والفرقاطات والغواصات من طراز “كيلو” والطراد القديم “موسكفا” كقائد للأسطول وانضمت إليها سفن برمائية من أسطول بحر البلطيق والأساطيل الشمالية.
وكان التحرك الروسي لضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014 مدفوعًا جزئيًّا برغبتها في تجنب أي تحد لقاعدتها البحرية في سيفاستوبول واستحوذت أيضًا على ثلاثة أرباع البحرية الأوكرانية في عملية لتأمين هذه القاعدة. وفي بداية هذه الحرب في شباط/فبراير، كانت أعداد البحرية الأوكرانية لا تزال قليلة حيث ضمت 5000 بحار فقط بما في ذلك عدد كبير من الزوارق الدورية سرعان ما تم استهدافهم من قبل الروس، وتم إغراق أحدهم، وهو زورق سلوفيانسك الذي أهدته الولايات المتحدة لأوكرانيا في في الأسبوع الأول من آذار/مارس سنة 2018. وتمكنت روسيا من فرض حصار فعال من خلال إغلاق مضيق كيرتش الذي يربط بحر آزوف بالبحر الأسود وتمركزت السفن قبالة أوديسا والموانئ الأوكرانية الأخرى، وتم الإبقاء على هذه الحظر، كما تم استخدام السفن والغواصات لشن ضربات صاروخية على أهداف في أوكرانيا.
لخص “بي جيه أرمسترونج”، الأستاذ المساعد لدراسات الحرب والتاريخ البحري في الأكاديمية البحرية الأمريكية، النجاحات البحرية الروسية كالتالي: “تلا إنشاء قيادة البحر بشكل سريع، استخدام بحر آزوف والبحر الأسود للعمليات التي تؤثر على الأحداث على الشاطئ، وتم إغلاق بحر آزوف وتم إغلاق الموانئ الأوكرانية، مما أدى إلى إغلاق حركة المرور العسكرية والتجارية. واستخدمت البحرية الروسية بحر آزوف لتعزيز العمليات على الشاطئ وساهمت في الهجوم الوحشي والمستمر على ماريوبول. وأطلق أسطول البحر الأسود مئات الصواريخ في قصف واسع النطاق ساهم في كل من الآثار التكتيكية وكذلك التدمير العشوائي للأهداف المدنية.
وبغض النظر عن شرعية العدوان الروسي، وشرعية العمليات البحرية، والتحرك الواضح نحو جرائم الحرب، من منظور الإستراتيجية البحرية والمقارنة الدراماتيكية بإخفاقات الجيش الروسي، فإن البحرية الروسية قامت بعملها بفعالية”.
ومع ذلك؛ لم يجرِ كل شيء كما هو المراد، ففي ظل نظام المضائق التركي، الذي تم إنشاؤه بموجب اتفاقية مونترو لسنة 1936، يمكن لتركيا إغلاق مضيق الدردنيل والبوسفور أمام السفن الحربية المحاربة، ولقد فعلت ذلك بالفعل مع السفن الحربية الروسية، مما قلل من قدرة روسيا على تعزيز موقعها في البحر الأسود. بالإضافة إلى ذلك؛ بينما دعمت عمليات الإنزال البرمائية في وقت مبكر الهجوم على مدينة ماريوبول الساحلية، تعرضت جهود روسيا لنقل قوات إضافية للمعركة لضربة عندما أغرق الأوكرانيون السفينة البرمائية ساراتوف أثناء تفريغها في رصيف في بيرديانسك، وعلى الرغم من أن هجومًا برمائيًّا كان متوقعًا في وقت ما ضد أوديسا إلا أنه لم يتحقق أبدًا.
وكان هذا جزئيًّا لأن القوات الروسية لم تكن قادرة على الاقتراب بدرجة كافية في تقدمها البري، ووقه الحدث الأكثر خطورة في 13 نيسان/أبريل عندما قامت القوات الأوكرانية باستخدام صواريخ نبتون المضادة للسفن ومحلية الصنع بإغراق السفينة الحربية الروسية “موسكفا”.
أدت الحرب العدوانية التي شنتها روسيا دون مبرر ومع سبق الإصرار إلى تفاقم الآفاق الاقتصادية العالمية مع الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء والوقود والطاقة.
وقد شجع هذا على زيادة الحذر الروسي؛ حيث يجب أن يقلقوا من أن تصبح السفن الأخرى عرضة للهجمات التي تشمل الطائرات والطائرات بدون طيار والصواريخ المضادة للسفن، والتي يمكن إطلاقها من زوارق صغيرة نسبيًّا، وهذا هو أحد أسباب أهمية جزيرة الأفعى الصغيرة (التي تقع على بعد حوالي 30 ميلًا من الساحل الأوكراني)، حيث استولت عليها روسيا في بداية الحرب، وقدَّّمت اللحظة الشهيرة عندما كان الجنود الأوكرانيون الذين كانوا يسيطرون على الجزيرة يقولون لموسكفا: “سفينة حربية روسية، عليك اللعنة”، ويعتقد أن 13 جنديًّا أوكرانيًّا في الجزيرة قتلوا، لكن اتضح أنه تم القبض عليهم.
وانتقمت أوكرانيا بإغراق “موسكفا”، وفي غيابها أصبح دور الجزيرة أكثر أهمية، فإذا تمكن الروس من إنشاء أنظمة حرب إلكترونية وأنظمة دفاع جوي هناك، فيمكنهم تعويض خسارة السفينة الحربية من خلال المساعدة في الحفاظ على الحصار وربما الانضمام إلى العمليات مع الحامية الروسية في منطقة ترانسنيستريا الانفصالية في مولدوفا، القريبة من أوديسا؛ على الرغم من أن هذا الآن يبدو أنه يتجاوز قدرات موسكو.
ولكن كانت هناك معركة جارية من أجل جزيرة الأفعى، فقد أظهرت أوكرانيا أدلة على قيامها بهجوم على أسلحة مضادة للطائرات وسفينة دعم واثنين من زوارق الإنزال وطائرة هليكوبتر روسية أثناء إنزال مشاة البحرية الروسية؛ ومن جهتها زعمت وزارة الدفاع الروسية أنها أحبطت محاولة أوكرانية للسيطرة على الجزيرة وأسقطت طائرة. (كانت وسائل التواصل الاجتماعي الموالية لروسيا مليئة بالروايات حول مدى فظاعة ذلك بالنسبة لأوكرانيا.) عمليًّا من الصعب رؤية كيف يمكن لأي قوة أن تشعر بالأمان في مثل هذه المساحة الصغيرة والمعزولة، ففي 12 أيار/مايو أوضح كيريلو بودانوف، رئيس المخابرات الدفاعية الأوكرانية، أن من يسيطر على جزيرة الأفعى يتحكم في “السطح وإلى حد ما الوضع الجوي في جنوب أوكرانيا” ويمكنه “منع حركة السفن المدنية في جميع الاتجاهات إلى جنوب أوكرانيا. في أي وقت”/ وبينما أقر بأنه قد يكون من الصعب استعادة السيطرة على المنطقة، إلا أنه كان واثقًا من إمكانية حرمان الروس من هذه المنطقة.
وطالما استمر الحصار فإن المشاكل الحقيقية لن تحدث فقط لأوكرانيا ولكن لبقية العالم، فخلال الشهر الأول من النزاع تعرضت ثماني سفن تجارية على الأقل للهجوم في الموانئ الأوكرانية والبحر الأسود، وإحدى سفن الشحن العامة – كانت تسمى “هيلت” – غرقت قبالة ساحل أوديسا بعد أن اصطدمت على الأرجح بلغم، وهناك العديد من السفن التجارية العالقة في الموانئ الأوكرانية غير قادرة على المغادرة، وأصبحت أقساط التأمين على السفن التي تخطط للإبحار في المنطقة باهظة الآن. وفي 20 نيسان/أبريل؛ ذكرت المنظمة البحرية الدولية (آي إم أو) أن 84 سفينة تحمل 500 من أفراد الطاقم محاصرون (تم إعادة الطاقم الآخر إلى أوطانهم).
هذا له عواقب وخيمة؛ ففي سنة 2022؛ كان من المتوقع أن توفر أوكرانيا حوالي نصف صادرات زيت عباد الشمس في العالم، و16 بالمائة من صادرات الذرة، إلى جانب 18 بالمائة من الشعير و12 بالمائة من القمح، وأفادت وكالة الغذاء التابعة للأمم المتحدة في 6 أيار/مايو أن ما يقرب من 25 مليون طن من الحبوب عالقة في أوكرانيا. في حين أن أوكرانيا هي مصدر رئيسي للمنتجات الزراعية إلى أوروبا – والتي قد يُسعد موسكو أن تراها تعاني – فإنها تلعب أيضًا دورًا رئيسيًّا في إمداد دول مثل مصر ولبنان والجزائر، وقد وصلت الزيادات في الأسعار إلى نسبة تصل إلى 50 بالمائة في بعض البلدان النامية، وهذا هو نوع التضخم الذي يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات خطيرة. وفي غضون ذلك؛ اتُّهمت القوات الروسية بتدمير منشآت التخزين وسرقة معدات زراعية، ويُزعم أنها أرسلت شحنة تبلغ 27 ألف طن من الحبوب إلى سوريا، من إجمالي 440 ألف طن مسروقة من أوكرانيا المحتلة.
وعند استضافته لرئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، تشارلز ميشيل، في 9 أيار/مايو، أكد فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني، على أهمية أوديسا للصادرات الزراعية الأوكرانية، وبالتالي لإمدادات الغذاء العالمية، وقال: “هذه ضربة ليست لأوكرانيا فقط؛ فبدون صادراتنا الزراعية فإن عشرات البلدان في أجزاء مختلفة من العالم على حافة نقص الغذاء بالفعل، وبمرور الوقت يمكن أن يصبح الوضع – بصراحة – مخيفًا”، وأكد ميشيل هذا الوضع المؤلم؛ حيث علق قائلًا: “نحن بحاجة إلى استجابة عالمية”. ويستعد المزارعون الأوكرانيون الآن لحصاد المحاصيل التي زرعوها الشتاء الماضي لكنهم يفتقرون إلى مساحة التخزين.
وفي 14 أيار/مايو؛ صرح وزراء خارجية مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى بما يلي: “أدت الحرب العدوانية التي شنتها روسيا دون مبرر ومع سبق الإصرار إلى تفاقم الآفاق الاقتصادية العالمية مع الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء والوقود والطاقة. ومع قيام روسيا بإغلاق طرق الخروج من الحبوب الأوكرانية؛ يواجه العالم الآن حالة تزداد سوءًا من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية. ويترتب على ذلك عواقب وخيمة على بعض الأشخاص الأكثر ضعفًا، كما أن ارتفاع التكاليف يجعل من الصعب على الوكالات الإنسانية والإنمائية تقديم المساعدة لمن هم في أمس الحاجة إليها، وهذا في وقت كان فيه 43 مليون شخص على بعد خطوة واحدة من المجاعة “.
هل يمكن عمل أي شيء لتخفيف الأزمة؟ بعض الحبوب بالفعل يتم نقلها بالقطار، ويخطط الاتحاد الأوروبي لإنشاء ممر بري إلى موانئ بحر البلطيق في بولندا، لكن هذه عملية بطيئة وبالكاد يمكن أن تخفف من أزمة الغذاء العالمية المتطورة، فقد دعت المنظمة البحرية الدولية بضرورة إنشاء ممر بحري للسفن التي تقطعت بها السبل لتتمكن من المغادرة، لكن الألغام تجعل هذه إشكالية.
وفي 24 نيسان/أبريل ، قام “رينيه كوفود أولسن”، رئيس أكبر مدير للسفن في العالم بِمناشدة الناتو لتوفير الحراسة البحرية للسفن التجارية التي تمر عبر البحر الأسود، قائلًا: “يجب أن نطالب بأن تتم حماية حركة الملاحة البحرية لدينا في المياه الدولية. أنا متأكد من أن الناتو والآخرين لديهم دور يلعبونه في حماية الأسطول التجاري”.
وتم اقتراح هذا مؤخرًا من قبل الأدميرال جيمس ستافريديس، القائد السابق لحلف الناتو، في مقال نشره في موقع “بلومبرج” الاقتصادي: “يجدر التفكير في نظام مرافقة للسفن التجارية الأوكرانية (وغيرها) التي تريد الدخول والخروج من أوديسا، وسيكون هذا مشابهًا لعملية مرافقة إرنست ويل التي تم توفيرها للتجار في الخليج أثناء الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات.. البحر الأسود الشاسع هو في الغالب مياه دولية، وتتمتع سفن الناتو الحربية بحرية الإبحار إلى أي مكان تريده تقريبًا، بما في ذلك المياه الإقليمية لأوكرانيا والمنطقة الاقتصادية الوحيدة التي يبلغ طولها 200 ميل، والتنازل عن هذه المياه لروسيا لا معنى له، وبدلًا من ذلك ابحث عنها لتصبح الجبهات الرئيسية التالية في حرب أوكرانيا”.
إذا استمرت الحرب فهذه المشكلة لن تزول؛ وكلما زاد التهديد الذي تتعرض له الإمدادات الغذائية العالمية زاد الضغط من أجل اتخاذ إجراءات صارمة، ولهذا يجب أن تفكر القوى البحرية الرئيسية في المستقبل.
وكانت القضية متوقعة في الصيف الماضي عندما أرسلت المملكة المتحدة السفينة المدافعة “إتش إم إس” إلى البحر الأسود وبحر آزوف في مهمة تحرير الملاحة، الأمر الذي أزعج بالتأكيد الروس، الذين أطلقوا طلقات تحذيرية/ ثم أصر نائب وزير الخارجية الروسي “سيرجي ريابكوف” على أن القنابل الموقوتة القادمة ستُلقى “ليس فقط في طريقها، ولكن أيضًا على الهدف”.
حماية الشحن التجاري ليست بأي حال من الأحوال خيارًا بسيطًا؛ حيث سيحتاج المرافقون إلى تضمين كاسحات ألغام، فيمكن أن تعاني السفن الحربية المرافقة أيضًا من الألغام، ويجب أن يكون هناك إجماع في الناتو للسماح بالعملية؛ تركيا على وجه الخصوص ستحتاج أن تشترك، فبسبب معاهدة مونترو لديها حق النقض (الفيتو) الفعال لأنها ستحتاج إلى السماح لسفن الناتو الحربية بالتحرك عبر المضائق التركية من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود، ولا يمكن توقع تصرفات تركيا دائمًا.
كان الرأي حتى الآن هو أن هذه ستكون خطوة استفزازية بلا داعي، وتخضع لنفس الشكوك التي دفعت الناتو إلى رفض الدعوات إلى “منطقة حظر طيران” فوق أوكرانيا؛ حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى مواجهة مباشرة مع القوات البحرية الروسية. في حين أن الحيطة قد تكون مفهومة، إلا أن هذا سيكون مختلفًا تمامًا من حيث الغرض والسلوك، فمبدأ حرية الملاحة مهم، وستكون هذه في المياه الدولية أو الأوكرانية، ولن تكون هناك أسباب مشروعة للتدخل في المرور السلمي للسفن التجارية، ولم يعلن الروس حتى حصارًا رسميًّا، ولن تتطلع القوة المرافقة إلى بدء أي اشتباكات بحرية مباشرة. ومع ذلك؛ يبدو أن الناتو حذر بشأن اتخاذ مثل هذه الخطوة للتقدم.
وكانت هناك اقتراحات بأنه سيكون من المنطقي أن يتم تنظيم شيء مشابه تحت مظلة الأمم المتحدة – لكن روسيا يمكن أن تستخدم حق النقض ضد ذلك- حيث يمكن لتحالف عريض من الدول – بما في ذلك الدول غير الأعضاء في الناتو – تولي المهمة لكنه سيظل بحاجة إلى قدرات بحرية جادة، وستكون قضية تمكين أوكرانيا من تصدير منتجاتها الزراعية على رأس جدول أعمال أي مفاوضات لوقف إطلاق النار، وقريبًا ستربطها روسيا بالمفاوضات حول تخفيف العقوبات الاقتصادية؛ حيث سترغب في معالجة المشاكل المتعلقة بالتجارة الخارجية الخاصة بها، وخاصة بعدما أوقفت معظم شركات الشحن الكبرى عملياتها من وإلى الموانئ الروسية، وحظرت الدول الغربية السفن التي ترفع علم روسيا وتملكها وتشغلها من العبور في موانئها.
لكن إذا استمرت الحرب فهذه المشكلة لن تزول؛ وكلما زاد التهديد الذي تتعرض له الإمدادات الغذائية العالمية زاد الضغط من أجل اتخاذ إجراءات صارمة، ولهذا يجب أن تفكر القوى البحرية الرئيسية في المستقبل.
المصدر: ذي نيو ستيت مان