“اليوم هو يوم خسارة آخر الأساطين العرب” هكذا نُعي المفكر الدكتور محمد عدنان سالم، “شيخ كار الوراقين” في سوريا والعالم الإسلامي، فقد توفي المفكر سالم في دمشق أمس الجمعة بعد رحلة طويلة قضاها ساعيًا من أجل قضية الفكر والثقافة والتغيير في العالمين العربي والإسلامي، وتجلى ذلك كله في مؤسسته التي دخلت الكثير من البيوت وهي دار الفكر للنشر التي تأسست قبل 65 عامًا في دمشق.
استطاعت دار الفكر التي أسسها الراحل محمد عدنان سالم أن تنظم عمل النشر في سوريا، فالراحل لم يكن أول من اهتم واعتنى بنشر الكتب وخدمتها، لكنه كان سباقًا في طريق مأسسة العمل في هذا المجال، الأمر الذي جعله كبير الناشرين وعميدهم، لم يكن هم سالم جمع المال من خلال عمله في خدمة الكتب والنشر، بل أراد نشر الوعي والثقافة بين أبناء المجتمع، وهو ما أكد عليه مرارًا من خلال قوله: “لا مناص من الاعتماد على وعي القارئ، وقدرته على النقد، ومستوى المناعة الفكرية عنده”.
نذره والده للعلم
ولد الراحل في دمشق عام 1932، وكان والده التاجر الحاج حسن عبد القادر سالم، قد نذر إن كان ولده البكر صبيًا أن يفرغه للعلم وخدمة الأمة، نشأ الراحل محمد عدنان سالم في حارات دمشق وأحيائها القديمة واكتسب الكثير من بيئتها الاجتماعية التي تمتاز عن غيرها من البيئات الأخرى، ومما يتذكره الراحل من طفولته، مجلسًا كان يعقده أبوه في منزلهم ويدعو إليه أصدقاءه، وكان الاجتماع مخصصًا لقراءة القرآن على أحد الشيوخ، ويروي سالم آن هذه الاجتماعات كانت بداية حبه لطريق العلم وسلوكه.
كان والد المفكر سالم، متدينًا، كثير الحضور لدروس الشيخ علي الدقر، ويذكر الراحل أنه استفاد من مكتبة والده حيث قرأ منذ صغره وقبل دخوله المدرسة كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وقد تنبه والده لذكاء الطفل وبراعته، فبعد وضعه لمدة سنة في الكتّاب أدخله إلى مدرسة “سعادة الأبناء” التي كانت تشرف عليها “الجمعية الغراء” بإشراف الشيخ علي الدقر التي كان يدرّس فيها أهم علماء دمشق مثل عبد الكريم الرفاعي وعبد الوهاب الحافظ، ويقول الراحل عن هذه المدرسة إنها كانت – آنذاك – متطورة وتسابق المدارس التبشيرية من حيث التطور والمناهج.
تابع سالم دراسته في المدرسة حتى الصف الثامن، لينتقل بعد ذلك للدراسة في معهد العلوم الشرعية التابع للجمعية ذاتها، ثم حصل على الشهادة الثانوية بفرعيها العلمي والشرعي أعوام 1949 و1950، وبعدها التحق بكلية الحقوق وتخرج فيها عام 1954، صقلت هذه الفترة محمد عدنان سالم، إذ وضعته في مواجهة محتدمة مع التيارات ذات الاتجاهات المختلفة آنذاك، وفي غمرة التوترات التي كانت تشهدها البلاد من انقلابات وحياة سياسية ضبابية مارس سالم مهنة الحقوق لمدة لا تتجاوز 6 أشهر.
اتجه سالم إلى أداء الخدمة الإلزامية العسكرية، لكنه في هذه الفترة لم ينقطع عن الثقافة والتبحر في العلم، ويذكر سالم أن فترة العسكرية جعلته يخمّر فكرة الإعداد لمشروعه الذي سيتجسد لاحقًا بدار النشر، بالتزامن مع ذلك تأثر سالم بأفكار الشيخ محيي الدين القليبي التونسي الذي نزل بدمشق، وكان القليبي دائم الحث على الفكر والثقافة، الأمر الذي دفع بسالم أن يعدل عن مزاولة المحاماة والقانون والاتجاه لمضمار النشر والاهتمام بالكتب.
اهتم سالم بإنتاجات مالك بن نبي، فقد كان “عاشقًا له” وتجلى ذلك بوضوح حينما تبنى نشر كل كتبه من داره رغم أن بن نبي لم يكن مقبولًا من الأطراف كافة في سوريا، فالإسلاميون يعتبرون فكره علمانيًا والعلمانيون يقولون إنه إسلامي وفقًا لما يذكر سالم، كما اهتم سالم بإنتاجات المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري وغيره من أساطين الفكر.
نشاط فكري واسع
يذكر الدكتور نزار أباظة في كتابه مدارس دمشق ومعاهدها، أن دار الفكر كانت في بدايتها عبارة عن مدرسة، ويروي أن هذه المدرسة لم تستمر طويلًا، فقد انصرف أصحابها ويقصد محمد عدنان سالم وشريكه محمد الزعبي إلى افتتاح شركة دار الفكر للنشر عام 1957، حاول سالم من خلال دار النشر إدخال مفكرين جدد إلى الساحة العربية واهتم بالنقل من اللغات الأخرى، فقد كان يوجد فقر واضح لدى دور النشر في هذا المجال.
يروي سالم أنه نقل أحد كتب المفكر أبو الأعلى المودودي من الأردية إلى العربية بعد 25 عامًا من تأليفه، وكتب في مقدمته اعتذارًا للقارئ عن تأخر النقل هذه المدة الطويلة خاصة أن ذلك الوقت كان يشهد ثورة في النقل وسرعة المعلومات كما يقول، وفي هذا السياق يقول الكاتب والباحث السوري محمد الربيعو إن محمد عدنان سالم الذي نشأ في وسط ديني تقليدي بين جماعة مسجد زيد ومسجد أبو النور والمدارس الإسلامية المختلفة “استطاع أن يكون مجددًا ضمن هذه المدارس، فأدخل كل جديد إلى عالم المعرفة والثقافة والنشر بعيدًا عن التقليد، وكان الأمر قبل ذلك مقتصرًا على بعض دور النشر التابعة لتلك الجماعات التي تنشر بطريقة تقليدية بحتة”.
وإن كان في دمشق ثمة مصلح فلعله يكون عدنان سالم، وهو ما يؤكده الربيعو في حديثه لـ”نون بوست” فيقول: “سالم كان مصلحًا من المصلحين الكبار في مدينة دمشق على الأصعدة كافة، الفكرية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى مساهمته في إصلاح طريقة طرح الخطاب الديني السائد”.
وعن ميزة دار الفكر عن غيرها من دور النشر قال الربيعو: “سالم كان يحترم صناعة الكتاب، ما جعلها من أهم دور النشر العربية”، مشيرًا إلى أن سالم “لم يغرق في الجانب التجاري، بل كان مساهمًا في التنمية الثقافية من خلال إعداده لأسبوع ثقافي سنوي في دمشق يستضيف فيه كبار المفكرين ومنهم أبو يعرب المرزوقي وأحميدة النيفر وغيرهم”.
ومن خلال بحث بسيط على موقع “يوتيوب“، يجد المشاهد محاضرات من هذا الأسبوع الثقافي مليئة بالمفكرين وغنية بالأفكار المطروحة في قضايا تخص المسلمين وتجديد خطابهم، كما تبحث بأفكار جديدة وتناقش القديمة.
تخطى سالم دار نشره ليصل إلى دور النشر السورية كلها، ففي عام 2008 بدأ حملة لرفع دور النشر وأسس أول معرض متخصص بدور النشر السورية بعيدًا عن معرض الكتاب الشامل الذي يقام سنويًا، وشاركت في ذلك المعرض أكثر من 50 دار نشر من مختلف التوجهات، إلا أن بعض الدور أصدرت بيانًا في الراحل سالم تتهمه بأنه يعمل على أسلمة عالم النشر السوري وفقًا لما يروي محمد الربيعو، مشيرًا إلى أن سالم كان يساهم بإخراج دور النشر من قوقعتها التقليدية.
وضع محمد عدنان سالم نهجًا جديدًا لدار نشره، فقد أصدرت سلسلتها “حوارات لقرن جديد”، بهدف “إيجاد صيغة تفاعلية بين مفكريْن من اتجاهيْن مختلفيْن، ولاستيلاد فكر ثالث منهما ينتجه القارئ”، بالإضافة إلى أنها أصدرت سلسلتها “حوار مع الغرب”، وتهدف إلى “مد جسور مع الفكر الغربي، تعزز التعارف بين الحضارات، وتتيح التفاعل الإيجابي معها”.
وهنا يقول الكاتب محمد الربيعو: “كان له دور مهم على صعيد مدينة مثل دمشق قبل وبعد الحرب، فخلال نهاية التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي العشرين، كان الرجل بالتعاون مع فريقه يطلع المجتمع الدمشقي المحافظ على قراءات جديدة في الفكر العربي، ويتيح لهم فرصة النقاش عن الإسلام وإصلاحه من خلال تبنيه لسلاسل عديدة، أهمها سلسلة حوارات لقرن جديد، التي من خلالها تمكن من نشر كتابات مفكرين كبار في العالم العربي”.
تقلد سالم خلال مسيرته عدة مناصب بالتزامن مع إداراته لمؤسسته دار الفكر، فقد عمل رئيسًا لاتحاد الناشرين السوريين بين عامي 1991 و2011، كما كان رئيسًا للجنة العربية لحماية الملكية الفكرية بين عامي 2006 و1995، بالإضافة إلى ترؤسه الجمعية السورية للملكية الفكرية بين 2008 و2010، ولم تخل هذه الطريق الطويلة للراحل سالم من إنتاجات أسهمت في بناء المكتبة العربية، فقد ألف العديد من الكتب التي تدور حولها اهتماماته من النشر والفكر والاقتصاد الإسلامي.
ولعل من أهم الكتب التي ألفها الراحل، كتاب “هموم ناشر عربي” الذي أصدره عام 1994، وفي هذا الكتاب يبث سالم همومه التي تعتريه من وراء الأزمات التي تخلفها مشاكل نشر الكتب في العالم العربي، ويقترح في كتابه حلولًا ويدعو إلى تضافر جهود المؤلفين والناشرين والموزعين والقراء لاستعادة الكتاب احترامه، وإلى القراءة أولًا، ذلك أن القارئ هو حجر الأساس.
ومما قاله سالم: “في عصر المعرفة الذي تتحول البشرية اليوم إليه بتسارع مذهل؛ سوف تتغير معايير تقدم الأمم وتفوقها، فلا تقاس بمقدار ما تملكه من ثروة المال وقوة السلاح، بل بما تملكه من وفرة في المعلومات وقوة في الأفكار. وإن مخزوننا الفكري الكامن، وقيمنا الإنسانية العليا لهي الأرجح في موازين عصر المعرفة. والفرصة متاحة لنا في عصر المعرفة الوشيك إذا عرفنا كيف نمتح مخزوننا الفكري الوفير، وكيف نبلغه بإعلام متطور ومؤثر”.
رثاء
رُثي الشيخ والمفكر على لسان الكثير من الشخصيات السورية والعربية، فقال المفكر والأديب السوري عصام العطار: “رَحِمَكَ اللهُ تعالَى يا أخي الحَبيب الجَليل الأستاذ محمد عدنان سالِم، ما أعظَمَ ما قَدَّمتَ لِدينِكَ ولُغَتِكَ وأمَّتِكَ وبلادِكَ والثَّقافَةِ والفكر وما قدَّمتَ بينَ يديكَ من عَمَلٍ صالِح رَحِمَكَ الله رَحِمَكَ الله”.
بدوره نعي الكاتب العراقي أحمد خيري العمري الراحل سالم بقوله: “توفي الأستاذ عدنان سالم.. توفي المثقف الرقيق المهذب الكريم الجبل حامل هم الأمة وصناعة الكتاب فيها، إنا لله وإنا إليه راجعون، تيتم الكتاب رسميًا وأنا أيضًا”.
الباحث والكاتب السوري الدكتور عبد الرحمن الحاج قال: “كان للأستاذ عدنان سالم صاحب دار الفكر االفضل في نشر مؤلفات مالك بن نبي وحفظ تراثه بالعربية، سعى في فترة التسعينيات إلى خلق حوار بين مختلف التيارات الفكرية ضمن سلسلة حوارية لقيت وقتها نجاحًا كبيرًا في سوريا ومحيطها، كان يسعى لشق طريق مختلف في دور النشر الإسلامية والخروج من دائرتها المغلقة رحمه الله”.
إذًا، انتهت رحلة من العطاء مع رحيل شيخ الناشرين و”آخر الأساطين” في دمشق، توفي محمد عدنان سالم وكان لآخر لحظة في حياته مصرًا على العمل من أجل مشروعه ودمشق والأمة، ظل حتى النفس الأخير يسعى إلى التغيير والوصول إلى مدارك الفكر والثقافة والوعي لدى الشباب عبر الأدوات المتاحة وابتكار كل جديد.