تخضع مناطق إدلب وريفي حماة وحلب لسيطرة هيئة تحرير الشام بعد أن وسعت مساحة نفوذها عسكريًا على حساب عدد من الفصائل العسكرية بين عامي 2017ـ2019، وأنهت فعليًا سيطرة باقي الفصائل على تلك المناطق وألحقت المنطقة إداريًا بـ”حكومة الإنقاذ”، وهي الجهاز الإداري المدني التابع للهيئة، التي سهلت لها بدورها الدعم المادي واللوجستي والخدمي.
نحاول في هذا التقرير تسليط الضوء على واقع الحوكمة في مناطق نفوذ “حكومة الإنقاذ”، مع التعريج على مستقبل هذه الحكومة في ضوء المعطيات السياسية الحاليّة التي ترسم المشهد العام في الشمال السوري.
سياق تشكيل حكومة الإنقاذ
تشكلت حكومة الإنقاذ عام 2017 كأحد مفرزات المؤتمر السوري العام الذي ضم شخصيات معارضة وأكاديميين تربطهم صلات وثيقة بهيئة تحرير الشام، بهدف إنشاء تشكيل مرجعي خدمي مؤسساتي، وتم تعين محمد الشيخ رئيسًا للحكومة، لتضم الحكومة 11 وزارةً و4 هيئات مركزية هي: هيئة شؤون الأسرى وهيئة الرقابة والتفتيش وهيئة التخطيط والإحصاء واتحاد نقابات العمال.
ترتبط حكومة الإنقاذ مباشرة بهيئة تحرير الشام، وتوصف بأنها ذراع الهيئة المدنية في المنطقة، فقد تمكنت الإنقاذ من بسط نفوذها الإداري على محافظة إدلب وريف حلب الغربي بعد عام ونصف من تأسيسها، وسعت لاحتكار القرار الخدمي والتنظيمي، وأحدثت مكاتب تعليمية واقتصادية وزراعية وخدمية، كما أنشأت مشاريع خدمية في مختلف المناطق بإدلب، معلنةً أنها ستعمل على توفير الخدمات وتحسين واقع البنية التحتية في الشمال السوري، وأصدرت في مرحلة مبكرة إنذارًا للحكومة المؤقتة طالبها بوجوب إخلاء مقراتها ومكاتبها ومغادرتها خلال مدة أقصاها 72 ساعة أو دمجها مع الحكومة الجديدة.
كما عملت على تطويع المجالس المحلية التابعة للحكومة السورية المؤقتة وإعادة هيكلة بعض المجالس لتصبح جزءًا من “حكومة الإنقاذ”، وذلك بالتزامن مع توسيع الهيئة نفوذها على باقي المناطق المحررة، وتمكينها – الإنقاذ – إداريًا في المناطق الجديدة التي أخضعتها لسيطرتها العسكرية، عقب اتفاق بينها وبين الجبهة الوطنية للتحرير، يقضي بجعل المنطقة كاملة تابعة لها، وتسليمها إدارة الملف الخدمي والقضاء والشرطة تباعًا بعد أن كانت تحت السلطة المباشرة للهيئة.
ويمكن القول إنَّ تأسيس حكومة الإنقاذ يأتي ضمن محاولات “هيئة تحرير الشام” الحثيثة والمستمرة لتقديم نفسها كفصيل محلي معتدل، بعد سلسلة من التحولات والتقلبات الفكرية والهيكلية والتغييرات في الخطاب والهوية التي مرت بها الهيئة، التي لامست أحيانًا قضايا جوهرية قام عليها التنظيم في مرحلة من المراحل، بدءًا بإعلان مؤسس التنظيم أبو محمد الجولاني بيعة تنظيم القاعدة، مرورًا بانقلاب الجولاني على المشروع القاعدي وتحوله من جبهة النصرة إلى تنظيم جبهة فتح الشام، معلنًا فك ارتباطه بالقاعدة، وصولًا إلى الإعلان عن هيئة تحرير الشام مع فصائل أخرى كحركة نور الدين الزنكي، ثم انفصال الزنكي عنها والاقتتال معها.
وانتهاءً بمحاولات الهيئة المستمرة لإعادة التموضع في سياق البحث عن الشرعية الدولية من خلال فرض وجودها ونفوذها كفاعل أساسي محلي في بيئة سياسية فوضوية، وكانت آخر هذه المحاولات تشكيل ودعم “حكومة الإنقاذ” كواجهة محلية قد تمّكن الهيئة من المشاركة في العملية السياسية أو بقاء سلطتها كسلطة أمر واقع في المنطقة.
تعاني المنطقة أساسًا من مشكلات حوكمية جوهرية وتضارب الصلاحيات بين الهيئات الإدارية، فضلًا عن تدخل واضح وهيمنة مباشرة لـ”هيئة تحرير الشام” على قرارات وتوجهات حكومة الإنقاذ
هذه التحولات النوعية التي أحدثتها الهيئة في منظومتها الفكرية والتنظيمية، من تبني شعارات عابرة للحدود وأجندات خارجية متناقضة مع تطلعات الشعب السوري، ومن ثم قيامها ببلورة خطاب جديد بشعارات محلية وممارسات عملية، التي كان آخرها تشكيل “حكومة الإنقاذ”، تنم عن براغماتية الهيئة وانتهازية قائدها – الجولاني – في سبيل الحصول على مكاسب آنية كعدم رغبته في خسارة السلطة في إدلب، وفي خدمة أهداف سياسية تكتيكية مصلحية بحتة.
ولطالما كانت هذه التحولات والتغييرات رسائل موجهة للمحيط الإقليمي والدولي، ولم تكن تنطلق من مراجعات حقيقية خدمة للقضية السورية، وهو ما أفقد الهيئة المصداقية والثقة لدى الشارع السوري، ما انعكس بطبيعة الحال على العلاقة بين حكومة الإنقاذ والسوريين، خاصة مع فرض الهيئة لهذه الحكومة بعد إقصائها القوى المعارضة العسكرية والمدنية وتفكيك بعضها.
ملامح الواقع في مناطق “الإنقاذ”
رغم أن الوجود العسكري التركي في إدلب ساعد في الاستمرار النسبي لوقف إطلاق النار وشكّل رادعًا ضد قوات نظام الأسد بعد التفاهمات التركية الروسية عام 2020، ما زالت منطقة إدلب تعاني من إشكالات أمنية مركبة من جهة تعرضها الدوري لعمليات قصف بري وجوي أوقعت أعدادًا كبيرةً من الضحايا المدنيين، واستمرار عمليات الاغتيال والانفلات الأمني، وهو ما أثر نسبيًا على مسار الحوكمة في منطقة إدلب، نظرًا لافتقار المنطقة لعوامل الاستقرار والأمن الدائم الذي يعدُّ بندًا أساسيًا لنجاح أي حكومة أو إدارة في منطقة ما.
وإلى جانب ذلك، تعاني المنطقة أساسًا من مشكلات حوكمية جوهرية وتضارب الصلاحيات بين الهيئات الإدارية، فضلًا عن تدخل واضح وهيمنة مباشرة لـ”هيئة تحرير الشام” على قرارات وتوجهات حكومة الإنقاذ، خاصة فيما يتعلق بالجانب الأمني والمدني.
على سبيل المثال، حضرت الهيئة بداية جميع اجتماعات الهيئة التأسيسية للمؤتمر السوري العام التي انبثقت منه “حكومة الإنقاذ”، وحرص الجولاني باستمرار على تصدّره كمسؤول عن الإدارة المدنية بحضوره اجتماعات لمجلس الشورى العام ومجلس الإفتاء ووزراء من الإنقاذ عام 2021، وإعلانه عن عدد من الإجراءات لدعم مادة الخبز في إدلب، وتدشينه الطريق الواصل بين سرمدا والدانا شمالي إدلب عام 2022، رغم أنَّ هذه الإجراءات والقرارات تعد من اختصاص الحكومة نفسها.
علاوة على ذلك، تسيطر حكومة الإنقاذ بشكل كامل على المحاكم الأمنية والقضائية والعدلية في منطقة إدلب، وأنشأت وزارة العدل التي اعتمدت الشريعة الإسلامية – بحسب وصفها – مصدرًا للحكم دون تقنين أو ضبط أو تأطير لأحكام الشريعة، ودون وجود أي مواد قانونية واضحة تغطي القضايا المختلفة، تاركة المجال لاجتهادات القضاة والشيوخ الذين يفتقرون في الغالب للكفاءة، وفرضت تطبيق الحدود غير مرة، واتُهمت بالتطرف في كثير من الأحيان، وتلقى استياءً كبيرًا من المجتمع المحلّي نتيجة السياسات المتطرفة التي تنتهجها والظلم الذي يقع منها على المدنيين والفصائل الأخرى بدعوى تحكيم الشريعة، مع انعدام الاستقلال القضائي والسياسي والعسكري خصوصًا في القضايا الجنائية.
ولا يبدو أن الواقع التعليمي أحسن حالًا مع عزوف حكومة الإنقاذ عن تحقيق تقدم ملحوظ على صعيد دعم الملف التعليمي كونه من القطاعات المستهلكة، مع انخفاض حجم الدعم الدولي لهذا القطاع بعد هيمنة مؤسسات الإنقاذ على الواقع الإداري في منطقة إدلب، ما دفع في كثير من الأحيان بعض المدارس والثانويات في إدلب لإغلاق أبوابها، فضلًا عن قيام كثير من المعلمين بالإضراب أو التحول نحو مهن أخرى.
وتعتمد حكومة الإنقاذ على مصادر متنوعة لتأمين مواردها ومستلزماتها المالية بمساعدة من هيئة تحرير الشام، وذلك عبر: عائدات المعابر الحدودية والداخلية التي تقع ضمن نفوذ الهيئة والاستثمار في تجارة المحروقات عبر شركة وتد، إلى جانب احتكار بعض المواد الغذائية وامتلاكها لعدة محلات صرافة تديرها، وقيامها بمشاريع تجارية تدر عليها عوائد مالية ضخمة.
على الصعيد الاقتصادي، تحاول حكومة الإنقاذ جذب الاستثمارات من خلال القيام بحزمة من المشاريع المتعلقة بإنشاءات البنية التحتية وتعبيد الطرقات، لكن الارتباط الجوهري بهيئة تحرير الشام المصنّفة على قوائم الإرهاب، قد شكل عائقًا كبيرًا أمام تحقيق أي نمو فعلي أو تخطيط اقتصادي فعّال، وجعل عملية تطوير الاقتصاد ومواجهة الأزمات أمرًا متعسرًا، بعد عزوف الدول المانحة والمنظمات الدولية العاملة عن التعامل مع سلطة الأمر الواقع ودعم المشاريع الحيوية في إدلب، هذا عدا عن انتشار الفساد وغياب الرقابة الفعالة لضبط الأسواق والأسعار والأجور، وسط تسلّط الهيئة وتدخلها في بعض المفاصل الاقتصادية.
وإذن، فقد تسبب الأداء الهزيل لـ”حكومة الإنقاذ” وتبعيتها لهيئة تحرير الشام بتوترٍ مستمرٍ في العلاقات مع المجتمع المحلي، وتكّرر الرفض الشعبي لها بطرق ومناسبات شتى، واعتبرت كجهة غير رسمية لدى فئات من المجتمع السوري في منطقة إدلب، وهو ما يُعزى لافتقارها القدرة على نسج روابط تمتد إلى شرائح مجتمعية تستطيع الاعتماد عليها كحاضنة شعبية ترتكز عليها في سبيل تحقيق طموحاتها، وفشل هيئة تحرير الشام في تقديم رؤية تتوافق مع هوية المجتمع السوري وتطلعاته طوال مسيرتها، الأمر الذي انعكس على أداء الإنقاذ الحوكمي في مناطق نفوذها.
لا يبدو أن هيئة تحرير الشام على استعداد في المدى القريب للتنازل عن قضايا الأمن والعسكرة ولا حتى عن الأمور التنظيمية والإدارية لصالح أي جهة منافسة
في المحصلة، يرتبط مستقبل حكومة الإنقاذ بمستقبل هيئة تحرير الشام نفسه، وبمشروعها السياسي ككل، وبإمكانية اتخاذ الهيئة خطوات من شأنها بناء الثقة والمصداقية وإعادة تشكيل إدارة مدنية في المنطقة، وانفتاحها لمشاركة القوى المنافسة الأخرى، والانطلاق حقًا من مبادئ الثورة السورية ومصالح الشعب السوري، بما يساعد على إفساح المجال للانتقال لممارسات الحوكمة الرشيدة.
ولا يبدو أن هيئة تحرير الشام على استعداد في المدى القريب للتنازل عن قضايا الأمن والعسكرة ولا حتى عن الأمور التنظيمية والإدارية لصالح أي جهة منافسة، مدنية أو عسكرية، في ظل غياب الضغوطات المحلية والدولية التي قد تجبرها على التنازل عن بعض الملفات، ليبقى مستقبل الهيئة وحكومتها رهن التوافقات الدولية والإقليمية، وتحديدًا التركية الروسية، لما في نجاح أي نموذج حوكمي، إن كان في مناطق نفوذ حكومة الإنقاذ أو حتى في مناطق نفوذ الحكومة السورية المؤقتة، من تأثيرٍ محتمل على مجريات الحل السياسي النهائي في سوريا، وعلى مصالح مختلف القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في المشهد السوري.