في الوقت الذي كان العالم فيه مشغولًا بجهود احتواء فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) والعمل على قدم وساق لتطويق الجائحة، كانت بلدان إفريقيا تعاني من وباء آخر، لا يقل خطورة عن عائلة الكوفيد سيئة السمعة، حيث انتشار جدري القرود، واحد من الأجناس الفيروسة الجدرية التابعة لفصيلة فيروسات الجدري.
ونظرًا لما هو معتاد من خفوت الأضواء عما يحدث في بقاع العالم النامي طالما كان الأمر بعيدًا عن أصحاب الدماء الزرقاء، فلم يعر أحد اهتمامًا لهذا الوباء الجديد إلا بعد أن وطأت أقدامه ثرى أوروبا، ليبدأ مرحلة الانتشار السريع في عدد من بلدان القارة العجوز، ليفرض حالة من الذعر والقلق خوفًا من جائحة جديدة بينما لم يتعاف العالم بعد من كورونا.
الأيام القليلة الماضية شهدت إصابات عدة بهذا الفيروس في بعض البلدان الأوروبية، بريطانيا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا وإيطاليا فضلًا عن الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، بجانب “إسرائيل”، فيما وصفته برلين بأكبر تفش للمرض في أوروبا إلى الآن.
ويعود تسجيل أول حالة للمرض إلى عام 1970 في 11 دولة إفريقية، لكنه تفشى بشكل كبير منذ 2017 في نيجيريا، ليواصل انتشاره العام الحاليّ بعدما تجاوزت أعداد الإصابة 100 حالة اشتباه، بينها 15 حالة مؤكدة بحسب منظمة الصحة العالمية، فيما سجلت أوروبا أول حالة إصابة في 7 مايو/آيار الحاليّ.. فهل بات العالم على موعد مع جائحة جديدة؟
Nigeria confirms outbreak of Monkeypox with 558 cases, eight deaths.
Omo e don red o!
Please Avoid contact with animals that could harbor the virus (including animals that are sick or that have been found dead in areas where monkeypox occurs)https://t.co/1wkcBHVQT8
— OriginalBank (@DBankrichards) May 10, 2022
ما هو جدري القرود؟
سمي الفيروس بـ”جدري القرود” لأن أول حالة رصد له كانت في القرود، لذا سمي بهذا الاسم، وهو الحال كذلك في “جدري السناجب” و”جدري الجرذان” وهكذا، فيما تعد القوارض هي المستودع الأساسي له، وكان موطنه الأبرز غرب ووسط إفريقيا، حيث البيئة والمناخ الملائمين لذلك، لذا كان يستبعد انتقاله إلى خارج القارة.
ينتقل الجدري بحسب الخبراء عن طريقة مخالطة مباشرة لدماء الحيوانات المصابة أو لسوائل أجسامها أو آفاتها الجلدية أو سوائلها المخاطية، وقد وثقت بعض دول إفريقيا حالات عدوى ناجمة عن مخالطة القرود لسناجب أو جرذان مصابة بالفيروس فتم نقل العدوى.
كما يمكن للعدوى أن تنتقل عن طريق الاحتكاك بالحيوانات المصابة أو عن طريق دم الحيوانات وإفرازاتها كذلك من خلال تناول لحم القردة والتعرض لرذاذات الحيوانات، وفقًا لمعهد روبرت كوخ، فيما أشار عالم الأوبئة هونتر، في حديثه لـ”بي بي سي” أن العدوى “تحصل عندما تنتقل بثور المرضى إلى جروح أو أعين أشخاص آخرين، وقد تحدث أيضًا من خلال استنشاق رذاذ به جسميات من الشخص المريض”.
وتعد العلاقات الجنسية واحدة من أبرز أسباب انتشار جدري القرود بين البشر، ويشار إلى أن غالبية الحالات التي تم تسجيلها حتى الآن هي لرجال مارسوا الجنس مع رجال آخرين، فيما حذر المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض الأشخاص الذين يغيرون باستمرار شركائهم الجنسيين من خطر الإصابة.
وفي هذا السياق كشفت كبيرة المستشارين الطبيين في وكالة الأمن الصحي البريطانية، سوزان هوبكنز، انتشار هذا الفيروس بشكل ملحوظ بين “المثليين ومزدوجي الميول الجنسية” في كل من بريطانيا وأوروبا، لافتة في تصريحاتها لـ”ديلي ميل” البريطانية إلى أنه “تم تسجيل نسبة ملحوظة من الحالات الحديثة لمرضى جدري القرود في المملكة المتحدة وأوروبا بين المثليين من الذكور ومزدوجي الميول الجنسية”.
الأعراض والعلاج
تتراوح فترة حضانة جدري القرود، ويقصد بها الفترة بين الإصابة وظهور الأعراض، بين 6 أيام و16 يومًا، فيما ذكرت دراسات أخرى أنه يمكن أن تتراوح بين 5 أيام و21 يومًا، وتنقسم العدوى إلى فترتين، الأولى: فترة الغزو (صفر يوم و5 أيام)، ومن أبرز أعراضها الإصابة بحمى وصداع مبرح وتضخّم العقد اللمفاوية والشعور بآلام في الظهر وفي العضلات ووهن شديد (فقدان الطاقة).
الثانية: فترة ظهور الطفح الجلدي (في غضون مدة تتراوح بين يوم واحد و3 أيام عقب الإصابة بالحمى) وفيها يظهرالطفح الذي يبدأ على الوجه في أغلب الأحيان ومن ثم ينتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم، وتختلف شدته من منطقة لأخرى، إذ يتصدر الوجه المنطقة الأبرز انتشارًا لهذا الطفح بنسبة 95%، يليه اليدان والقدمان بنسبة 75%، فيما يتطور هذا الطفح في غضون 10 أيام من بقع سطحية صغيرة إلى حويصلات مملوءة بسائل، تستغرق 3 أسابيع كاملة لعلاجها واختفائها تمامًا.
أما عن الأعضاء الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس، فتأتي أغشية الفم المخاطية في المقدمة في 70% من حالات العدوى، تليها الأعضاء التناسلية بـ30% ثم العين (الملتحمة والقرنية) بنسبة 20%، بجانب الإصابة بتضخّم وخيم في العقد اللمفاوية قبل ظهور الطفح، وتعد أحد أبرز السمات التي تميّز جدري القردة عن سائر الأمراض المماثلة.
وهناك صعوبة بالغة في تشخيص الفيروس نظرًا لتشابه أعراضه مع بقية أنواع الجدري الأخرى، وعليه فقد ذهب الأطباء إلى أن التشخيص بجدري القرد لا يكون نهائيًا إلا بعد إجراء بعض الفحوصات في المختبر، أبرزها: المقايسة المناعية الإنزيمية، اختبار الكشف عن المستضدات، مقايسة تفاعل البوليميراز المتسلسل، عزل الفيروس بواسطة زرع الخلايا.
وفي المجمل وكما هو شائع تتمثل أبرز أعراض الإصابة بهذا الفيروس في آلام الحمى والصداع الشديد وتضخم العقد اللمفاوية وآلام في الظهر والعضلات بجانب وهن شديد، وهي أعراض ربما تتشابه مع غيرها من الفيروسات الأخرى، الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية إلى التأكيد على ضرورة إجراء الاختبارات السابقة لحسم أسباب تلك الأعراض.
وحتى كتابة تلك السطور، لا يوجد هناك علاج واضح ومباشر لجدري القرود، نظرًا لحداثة الاهتمام به كوباء رغم انتشاره منذ سنوات، غير أن التطعيمات التقليدية القديمة ضد الجدري من الممكن أن تكون ناجحة في الوقاية من هذا الفيروس بنسبة 85%، إلا أن المشكلة هنا تتمثل في عدم توافر تلك التطعيمات في الوقت الحاليّ، إذ تم إيقافها عقب استئصال الجدري من العالم قبل سنوات.
#Monkeypox has so far been reported from 11 countries that normally don’t have the disease. WHO is working with these countries & others to expand surveillance, and provide guidance.
There are about 80 confirmed cases, and 50 pending investigations. More likely to be reported. pic.twitter.com/YQ3pVJVNVQ
— World Health Organization (WHO) (@WHO) May 20, 2022
تاريخ معرفة العالم به
تعود معرفة العالم بجدري القرود كفيروس يصيب البشر، إلى عام 1970، حين أصيب طفل لم يتجاوز عمره 9 أعوام في إحدى المناطق بجمهورية الكونغو الديمقراطية، التي يعتقد أنها كانت الموطن الأساسي للفيروس، وكانت تلك المنطقة قد استؤصل منها الفيروس عام 1968، ومنذ ذلك الوقت بدأت تنتشر حالات الإصابة في بعض القرى الريفية والغابات الواقعة على حوض نهر الكونغو وغرب إفريقيا.
ومنذ عام 1970 وحتى 2002 بدأت حالات العدوى تتمدد في دول غرب القارة، لكنها بمستويات ونسب محدودة لم ترتق بعد إلى درجة الظاهرة ذات المخاطر الكبيرة التي تستدعي التحرك الدولي، وكذلك بحكم أن تلك البقاع الجغرافية ذات المواصفات البيئية الصعبة موطنًا للعديد من الفيروسات الأخرى.
وفي خريف 2003، تم الكشف عن وقوع حالات مؤكدة مصابة بجدري القرود في المنطقة الغربية الوسطى من الولايات المتحدة الأمريكية، وبالبحث تبين أن الحالات المبلغ عنها كانت قد خالطت كلاب البراري الأليفة، فضلًا عن بعض الحيوانات الأخرى الحاملة للفيروس التي في أغلبها إفريقية الموطن كالسناجب المخططة وسناجب الأشجار والجرذان الغامبية والفئران المخططة والزغبات والمقدمات.
وفي مايو/أيار الحاليّ ومع بداية انتشار العدوى في قرابة 11 دولة أوروبية بأعداد متزايدة، بدأت الأضواء تسلط بشكل كبير على الفيروس الذي تزامن تمدده مع جائحة كورونا، الأمر الذي أثار مخاوف البعض من تكرار ذات السيناريو الذي أصاب العالم بحالة من الشلل التام اقتصاديًا، على مدار العامين الماضيين، وهو ما يُدفع ثمنه حتى اليوم مع توقع استمرار الدفع لأعوام قادمة.
مخاوف من تحول فيروس جدري القرود إلى جائحة جديدة
مخاوف من جائحة جديدة
هل يمكن أن يكون جدري القرود جائحة جديدة على غرار كورونا؟ سؤال فرض نفسه على ألسنة الكثيرين خلال الأيام الماضية، وسط تحذيرات من خبراء بريطانيين ومن منظمة الصحة العالمية بأن القادم فيما يتعلق بهذا المرض لم يأت بعد، وهو ما أثار القلق من تحول الفيروس إلى وباء عالمي.
الخبير في معهد روبرت كوخ للأمراض المعدية، فابيان ليندرتس، برر تلك المخاوف وأنها واقعية إلى حد ما، لكنه استبعد استمرار تلك الجائحة طويلًا، منوهًا إلى حزمة من الإرشادات الواجب اتباعها لتجنب تجاوز الفيروس دائرته الآمنة، منها عزل الإصابات بشكل جيد عبر تعقب المخالطين، كذلك إعادة استخدام عقاقير وتطعيمات الجدري مرة أخرى، لا سيما بعد نجاح فاعليتها سابقًا.
وفي أول تحرك دولي رسمي للتصدي للوباء الجديد، عقدت منظمة الصحة العالمية، أمس الجمعة، اجتماعًا طارئًا بشأن تفشي المرض، لا سيما بعدما وصلت الحالات في إسبانيا فقط إلى 39 حالة، و20 آخرين في بريطانيا، الأمر الذي دفع كبيرة المستشارين الطبيين في وكالة الأمن الصحي البريطانية سوزان هوبكنز إلى التحذير مما هو قادم، داعية المتخصصين في الرعاية الصحية إلى “زيادة اليقظة”.
وفي الأخير.. رغم عراقيل تفشي هذا الفيروس بين البشر في ظل صعوبة ديناميكية عملية الانتقال مقارنة بالفيروسات الأخرى، بجانب توافر التطعيمات المختبرة سابقًا للوقاية منه، فإن تجربة كورونا المريرة وعدم وجود علاج رسمي للعلاج من جدري القرود حتى الساعة سيعزز من مخاوف الجميع بشأن ما هو قادم، فهل تسفر التحركات الأخيرة عن خطوات سريعة للقضاء على الوباء الجديد قبل تفشيه أم يحبس العالم أنفاسه ترقبًا لشبح جديد؟