لم يكن السودانيون بحاجة إلى مغامرة متهورة وطائشة مثل الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، فالبلاد كانت تعيش وضعًا اقتصاديًا وأمنيًا ضاغطًا بالفعل، رغم أن رداءة الوضع الاقتصادي كانت المحرك الأول لثورة دسيمبر/كانون الأول 2018، ثم تحولت بعد ذلك إلى تظاهرات تطالب برحيل حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير نهائيًا “تسقط بس“، كما يقول الشعار الأبرز في الثورة التي أطاحت بالبشير.
وللأسف، استمرت الأوضاع الاقتصادية في التردي بعد سقوط الرئيس المخلوع، حتى وصل سعر الدولار إلى نحو 400 جنيه سوداني، ارتفاعًا من 70 جنيهًا في أواخر عهد البشير، وعندما تجاوز سعر الدولار حاجز الـ400 جنيه، في أوائل العام المنصرم، قررت الحكومة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، اتخاذ خطوة جريئة قضت بتعويم سعر الجنيه جزئيًا، وبالفعل نجح القرار في تثبيت سعر الصرف في حدود 440 جنيهًا لفترة قاربت العام، منذ فبراير/شباط من العام الماضي، إلى أن نفذ الجنرال عبد الفتاح البرهان انقلابه على المكون المدني في 25 من أكتوبر/تشرين الأول 2021.
ردت الولايات المتحدة والمانحون الغربيون على انقلاب البرهان بتجميد كل المساعدات التنموية التي تعهدوا بها سابقًا لدعم التحول الديمقراطي في السودان، كما علّق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تعاملاتهما مع السودان، وبذلك خسر الاقتصاد السوداني أكثر من 3 مليارات دولار كانت مبرمجة لمساعدة البلاد على تحسين الأوضاع الاقتصادية وتنفيذ مشروعات تنموية ضخمة لدعم البنية التحتية مثل السكة الحديد والطاقة الكهربائية، إذ يعاني السودانيون من تدهور التيار الكهربائي وكثرة قطوعاته في شهور الصيف، ما يتسبب في خسائر فادحة للمنتجين خاصة الذين يعملون في القطاعين الصناعي والزراعي.
لماذا نفذ البرهان انقلابه رغم التحذيرات؟
رغم أن التحذيرات كانت التي تلقاها البرهان قبل انقلابه كانت واضحة للغاية من الشارع السوداني متمثلًا في تظاهرات 21 أكتوبر/تشرين الأول الواسعة النطاق، كما تلقى تحذيرات مماثلة من الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مضى في تنفيذ انقلابه على الحكومة المدنية، ليزيد المشهد السوداني تعقيدًا وضبابية.
أغلب الظن أن البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي” وشركاءهما من فلول حزب البشير والحركات المسلحة، اعتمدوا داخليًا في المقام الأول على إفادات جهاز المخابرات السوداني الذي تردد أن قادته رفعوا إلى البرهان تقارير تفيد بأن الشارع لم يعد يكترث بالحكومة المدنية المُنقلب عليها، بسبب ضعف الحكومة وفشلها في إصلاح الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، أما خارجيًا فيبدو أن البرهان وحميدتي اعتمدا على دولة الاحتلال الإسرائيلي في الترويج للانقلاب، ولتفادي العقوبات الغربية، اعتقادًا منهما بأن اللوبي الصهيوني يمكنه أن يوفر لهما الغطاء اللازم.
فاتورة اقتصادية باهظة
وفقًا لتقرير نشرتهBBC ، خسر السودان خلال أول 24 ساعة من انقلاب البرهان، مليار ونصف المليار دولار من جملة المساعدات التي كانت مقررة للبلاد قبل الانقلاب المفاجئ وشملت هذه المساعدات التالي: 700 مليون دولار من المساعدات الأمريكية، بالإضافة لـ 150 مليون دولار من صندوق النقد الدولي و500 مليون دولار من وكالة التنمية الدولية بالإضافة إلى 100 مليون دولار من الاتحاد الأوروبي.
كما عاد سعر الدولار إلى الارتفاع بعد الاستقرار الذي استمرّ 9 أشهر، فمن 440 جنيهًا وصل سعر الدولار الواحد حاليًا إلى 580 جنيه سوداني، وارتفعت معه بطبيعة الحال كل السلع الاستهلاكية اليومية، وخير مثال على ذلك ارتفاع سعر قطعة الخبز إلى 55 جنيها بدلًا من 5 جنيهات قبل الانقلاب، فباتت الأُسر المتوسطة مطالبة بإنفاق ما لا يقل عن 2000 جنيه يوميًا لشراء الخبز فقط.
وارتفع سعر الوقود عدة مرات بعد الانقلاب، حيث وصل أخيرًا إلى 672 جنيه للتر الواحد مقابل 242 قبل الانقلاب، فتضاعفت كذلك أسعار المنتجات الغذائية وتعرفة المواصلات العامة، فعلى سبيل المثال ارتفعت تكلفة النقل العام للخطوط القريبة من الخرطوم مثل خط الصحافة وبحري من مائة جنيه إلى 300، أي أن التكلفة تضاعفت 3 مرات في ظل الانقلاب الذي قال قائده إنه كان “تصحيحًا للمسار“، وذكر أن من أهدافه “تحسين الأوضاع الاقتصادية”.
ولتعويض التمويل الدولي الذي تم تجميده عقب الانقلاب، نفذّت سلطة الأمر الواقع في السودان مطلع العام الحالي زيادات هائلة في أسعار الخدمات العلاجية، فاقت نسبة 1875%، حيث كشفت رابطة الأطباء الاشتراكيين “راش”، عن زيادة رسوم الولادة الطبيعية من 600 جنيه إلى 11250 جنيه بزيادة قدرها (1875%)، بينما بلغت رسوم العمليات القيصرية لنحو 30 ألف جنيه بعد أن كانت في السابق 5250 بزيادة بلغت 705%.
وأضاف بيان الرابطة “كما حدثت زيادات في أسعار الدخول للعيادات المحولة من 150 جنيه إلى 1050، وسعر صور الأشعة من 500 الي 1500 جنيه بزيادة 300% والموجات الصوتية من 300 جنيه إلى 2000 بزيادة 666%”.
الرابطة شبهت زيادة أسعار الخدمات الصحية بـ”الحرمان من الحياة”، ولاحقًا تحت الضغط الشعبي المكثف تراجعت السلطة الانقلابية عن تخفيض بعض الزيادات في أسعار الخدمات العلاجية لتلافي الغضب الشعبي.
بسبب الانقلاب أيضًا، هوَت الصادرات السودانية بنسبة 85% لتصل إلى 43 مليون دولار في شهر يناير الماضي مقارنة بالعام السابق
كما طبقت وزارة الطاقة بعد الانقلاب، زيادة جنونية في أسعار الكهرباء للقطاع السكني بلغت 600%، إذ بلغ سعر المائة كيلو واط الأولى 500 جنيهًا، بينما يرتفع سعر المائة الثانية نحو 1100 جنيهًا، فيما يبلغ سعر الكيلو للاستهلاك بعد المائة كيلو واط الثالثة إلى 3100 جنيه.
كان من نتائج الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش البرهان، توقف برنامج إعفاء ديون السودان الخارجية التي بلغت نحو 60 مليار دولار قبل رحيل البشير، كما أوقفت مؤسسات تمويل دولية خططها لدعم الاقتصاد السوداني ومنها البنك الدولي، هذا الأخير وبمعاونة بعض المانحين كان يخصص مساعدات مالية شهرية لنحو 1.3 مليون أُسرة سودانية عبر برنامج “ثمرات”.
البرنامج كانت قد أطلقته حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في العام 2020، لتقديم دعم نقدي مباشر لنحو 32 مليون سوداني من بين 40 مليونًا، هم جملة سكان السودان، من أجل مواجهة الظروف المعيشية القاسية التي تفاقمت عقب تطبيق الحكومة إصلاحات اقتصادية أدّت إلى ارتفاع كلفة الحياة مع زيادة أسعار كلّ السلع الضرورية والخدمات، حيث قدّر البنك الدولي أن حوالي 30 في المائة من السودانيين لم يعودوا قادرين على شراء احتياجاتهم الضرورية بعد تطبيق الإصلاح الاقتصادي.
على الرغم من بطء إجراءات التسجيل للبرنامج بسبب الأسباب التقنية والإدارية، فإن أكثر من 2.5 مليون مواطن سوداني تم تسجيله في البرنامج، منهم نحو مليون وثمانية من الذكور و600 ألف من الإناث، فيما تسلّمت في الأشهر القليلة الماضية 1.3 مليون أسرة مستحقاتها المالية بواقع 2250 جنيهًا سودانياً “نحو 5 دولارات أميركية”، لكلّ فرد، في حين استعدّت بقية الأسر لاستلام مستحقاتها في شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي. لكن انقلاب البرهان أطاح بآمالهم، حيث قام البنك الدولي بتعليق كلّ عمليات الدعم والتعاون مع السودان، ما جعل برنامج “ثمرات” لدعم الأسرالسودانية أوّل المشاريع المتأثّرة بالمواقف الدولية، وعُلّقت كلّ الأنشطة المرتبطة بالبرنامج بما في ذلك عمليات التسجيل والدفع النقدي المباشر للأسر، وقد فشلت كل الاتصالات التي أجرتها السلطة الانقلابية مع البنك الدولي وبقية المانحين بهدف استئناف الدعم الدولي لـ”ثمرات”.
بسبب الانقلاب أيضًا، هوَت الصادرات السودانية بنسبة 85% لتصل إلى 43 مليون دولار في شهر يناير الماضي مقارنة بالعام السابق، وفقًا لبيانات التجارة الحكومية التي اطلعت عليها وكالة “بلومبرغ” وأكدها مسؤول بوزارة المالية، كما ظلّت إيرادات البلاد في انخفاض دائم من الانقلاب، إثر تراجع عدد أيام العمل لنحو 16 يومًا شهريًا، بسبب أيام العطلات والمظاهرات التي يتعطل فيها العمل في المؤسسات والمناطق الحيوية، حيث تقوم السطات العسكرية بإغلاق الجسور والطرق الرئيسية لعرقلة تدفق المتظاهرين.
تنميط الأخبار وبث الإشاعات لتخدير الشعب
ومن المثير للسخرية أن السلطات الانقلابية أصبحت تلجأ إلى اتباع تكتيك الإشاعات وتحوير الأخبار ربما بهدف تخدير الرأي العام، وإثارة البلبلة والجدال في مواقع التواصل الاجتماعي للتغطية على حدث ما، رغم أن الرأي العام السوداني أصبح أكثر قدرة على التعاطي بذكاء مع الإشاعات التي تبثها أجهزة السلطة الانقلابية، فعندما تنشر منصات الانقلابيين خبرًا يتعلق بشأنٍ خارجيٍ، تجد أن الشباب السوداني يترقب صدور البيان الصادر من الطرف الآخر، حيث يكون فيه اختلاف كبير عن الصيغة التي يبثها الإعلام الانقلابي وقد يكون الخبر مفبركًا من الأساس.
المثال الأكثر وضوحًا في هذا الشأن، كان الخبر الذي أعلنته سفارة النظام بواشنطن، عن استئناف البنك الدولي لبرنامج دعم الأسر الفقيرة “ثمرات” المشار إليه سابقًا، وقامت بنشره وكالة الأنباء الرسمية “سونا” التي تناقلت عنها الخبر عدة وكالات مرموقة أخرى مثل الأناضول وشينخوا وغيرهما، لكنّ مراسلة وكالة رويترز أفسدت على إعلام الانقلاب الإحساس بالنشوة المؤقتة إذ علقت على الخبر المزعوم قائلة: أكثر من مصدر مطلع نفى صحة هذا الخبر.
نفي مراسلة وكالة رويترز دفع الصحفيين السودانيين إلى الاستقصاء عن الموضوع، وقد تمكنت صحيفة السوداني من الوصول إلى وزير الخارجية المكلف من قبل السلطة الانقلابية الذي اعترف بأن خبر إعادة البنك الدولي لبرنامج ثمرات، بأنه خبر “غير دقيق”، وأضاف: “المباحثات جارية في هذا الشأن؛ ولم تصل بعد إلى الغاية المرجوة”.
المبادرات الخيرية تتصدى للفقر والتجويع
من أهم ما يتميز به الشعب السوداني التكافل المجتمعي، حيث يبادر ميسوري الحال إلى مساعدة أقاربهم من الفقراء وذوي الدخل المحدود، كذلك لا يتردد المغتربون في الخارج في إرسال الأموال إلى داخل البلاد لمساعدة أقاربهم المحتاجين، خاصة اليتامى والأرامل والمطلقات والمرضى.
وفي ظل تقاعس السلطة الانقلابية عن القيام بواجباتها نحو الأسرة الفقيرة، تجد الجيران يتفقدون بعضهم البعض، فقبل شهر رمضان المعظم ــ كل عام ــ تتسابق مئات المبادرات الخيرية في تلقي التبرعات بهدف شراء المواد التموينية لتوزيعها على الأسر المستحقة ومن أشهر هذه المبادرات: صدقات، نفير، حاضرين، مبادرة طارق، أسر الشهداء وغيرها. كما يخرج الناس بطعامهم إلى الشوارع يوميًا قبل آذان المغرب، لأجل إفطار المارة وكل مَن لا يجد ما يُفطِر به في هذا الشهر الكريم.
هناك أيضًا مبادرات لعلاج المرضى الذين لا يملكون قيمة العلاج والدواء، ومن أشهر هذه المبادرات مبادرة منظمة شارع الحوادث التي أنشأت فروعًا لها في معظم مدن السودان، تقدم خدماتها لكل من يعجز عن توفير تكلفة العلاج الذي أصبح باهظًا للغاية بعد انقلاب البرهان، كما أسلفنا، ومعظم هذه المبادرات الخيرية تنشط على وسائل التواصل الاجتماعي وتجد إقبالًا جيّدًا من الجمهور السوداني الذي عُرف بتكافله وحبه لعمل الخير.
هذه المبادرات وإن كانت تقوم بدور عظيمٍ خاصة بعد الكوارث التي خلّفها انقلاب البرهان وحميدتي، فإنها غير كافية نسبة لكثرة عدد المحتاجين ولتعفف كثير منهم عن اللجوء إلى منصات التواصل الاجتماعي لعرض أزماتهم وحتى مجرد الشكوى للأقارب والجيران، فلا بديل إذًا عن شبكات الأمان الاجتماعي، التي كاد برنامج ثمرات أن يكون نموذجًا لها رغم سلبياته المعروفة وقلة المبلغ المالي الذي يقدمه، فقاعدة البيانات التي يمتلكها لا يُستهان بها.
نصف سكان السودان مهددون بالجوع
ما يدعو إلى الرُعب، أن كلًا من منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) وبرنامج الأغذية العالم حذّرا في تقرير مشترك من أن التأثيرات الناجمة عن النزاع والأزمة الاقتصادية وضعف الحصاد تؤثر بشكل كبير على إمكانية حصول الناس على الغذاء ومن المرجح أن تضاعف عدد الأشخاص الذين يواجهون “الجوع الحاد” في السودان إلى أكثر من 18 مليون شخص بحلول سبتمبر 2022، أي ما يقارب من نصف سكان السودان الذين يقدّر عددهم بنحو 40 مليون نسمة.
يضيف التقرير أن انخفاض قيمة الجنيه السوداني بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف الغذاء والنقل، أديا إلى زيادة الصعوبة بالنسبة للأسر لتوفير الطعام على موائدهم. ومن المرجح أن يؤدي عدم إمكانية الحصول على العملات الصعبة إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الجنيه السوداني.
هذا التقرير الذي نشرته منظمتان موثوقتان تعملان على الأرض في السودان يشير إلى حجم الكارثة الاقتصادية التي يعاني منها السودان وتعبير “الجوع الحاد” الذي ورد في تقرير الفاو وWFP هو تعبير ملطف بدلًا عن لفظ “مجاعة”.
فما ذا الذي يُصدق أن البلد الذي كان يُطلق عليه “سلة غذاء العالم”، لما يمتلكه من أراضٍ شاسعة خصبة وصالحة للزراعة، أوصله الديكتاتوريون إلى هذه المرحلة، فالسودان هو الدولة الوحيدة التي تُحكم بشكلٍ عسكريٍّ شبه متواصل منذ استقلاله عام 1956، عدا أعوام بسيطة حَكمَ فيها المدنيون، غير أن الانقلابات العسكرية لم تمنحهم فرصة كافية لإدارة البلاد، وآخر تلك الانقلابات انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان الذي تحدثنا – في هذا التقرير – عن فاتورته الاقتصادية على المواطنين السودانيين.