ترجمة وتحرير: نون بوست
كل ست ليالٍ في الأسبوع، يجمع فلاديمير سولوفيوف، أحد الأصوات المهيمنة في الدعاية الروسية، ستة نقاد لأكثر من ساعتين فيما بدا أنه حديث متبادل سياسي غير مكتوب. تم تخصيص الجزء الأخير من الاجتماع للسخرية من أوكرانيا وحلفائها – وخاصة الولايات المتحدة والرئيس جو بايدن – ومناقشة خيارات روسيا. وتساءل سولوفيوف خلال عرضه في 29 نيسان/ أبريل “هل علينا فقط تحويل العالم إلى غبار؟” ضحك ضيوفه من أعماق قلوبهم؛ حيث كانوا سبعة رجال في منتصف العمر.
في وقت لاحق، أصبح سولوفيوف كئيبًا، وقال: “أود أن أذكر الغرب ببيانين لهما أهمية تاريخية. لقد تساءل رئيس الاتحاد الروسي “ما الهدف من عالم لا توجد فيه روسيا؟” وقد تم اقتباس هذا التصريح من مقابلة أجراها سولوفيوف بنفسه مع فلاديمير بوتين، في سنة 2018، والتي رد فيها بوتين على سؤال حول احتمال نشوب حرب نووية. وجاء التصريح الثاني الذي اقتبسه سولوفيوف أيضًا عن بوتين في سنة 2018 “إذا بدأوا حربًا نووية، فسنرد. لكننا، بصفتنا من الصالحين، سوف نذهب مباشرة إلى الجنة، بينما يكتفون بالنعيق”. ويقتبس سولوفيوف هذا التصريح كثيرًا، وأحيانًا كنوع من الاتصال والاستجابة مع ضيوفه.
تخضع جميع وسائل البث التلفزيوني في روسيا لسيطرة الدولة، وتغطي نشرات الأخبار المسائية الرئيسية على القناتين الحكوميتين الرئيسيتين، “القناة الأولى” و”روسيا الأولى”، نفس القصص تقريبًا أو أقل، بنفس الترتيب تقريبًا. على سبيل المثال؛ في 30 نيسان/أبريل، بثّت القناة الأولى تقريرًا من قرية “تحررت من النازيين الجدد”؛ بدأت قناة “روسيا الأولى” نشرتها الإخبارية بتحديث عام عن المكاسب التي حققتها القوات الروسية؛ فقالت: “تم تصفية المئات من النازيين الجدد، وضرب عشرات الأهداف المحمولة جوًّا، والعديد من الضربات ضد مراكز القيادة ومخزونات المعدات”.
وسلطت نشرتا الأخبار الضوء على الفظائع التي ارتكبتها القوات الأوكرانية ظاهريًّا، وزعمت قناة “روسيا الأولى” أن “الجيش الأوكراني قصف أهدافًا مدنية مرة أخرى”، وقد نقلت القناة الأولى اعترافًا مفصلاً يُفترض أن أسير حرب أوكراني أدلى به؛ حيث قال إنه اغتصب امرأة روسية وقتل زوجها. ونقلت القناتان تقارير من مستشفى عسكري؛ حيث حصلت مجموعة من الشبان يرتدون أزياء مخططة على ميداليات لأدوارهم البطولية في “تحرير” البلدات والقرى الأوكرانية.
لا تكون التغطية متكررة من يوم لآخر فحسب، ومن قناة تلفزيونية إلى قناة تلفزيونية أخرى؛ بل تظهر قصص مماثلة تقريبا في وسائل الإعلام المطبوعة وعبر الإنترنت أيضًا، ووفقًا لعدد من الموظفين الحاليين والسابقين في المنافذ الإخبارية الروسية، هناك تفسير بسيط لذلك: الاجتماعات الأسبوعية مع مسؤولي الكرملين، ومحرري وسائل الإعلام التي تخضع لسيطرة الدولة، بما في ذلك المذيعون والناشرون، وتنسيق المواضيع ونقاط الحوار، وكل خمسة أيام؛ تصدر شركة استشارية خاضعة لسيطرة الدولة قائمة أكثر تفصيلًا بالمواضيع. (ولم ترد المنظمة على طلب للتعليق.)
لم أر هذه القوائم بنفسي – فيما قال الأفراد الذين يمكنهم الوصول إليها إنهم خائفون جدًا من التعرض للمقاضاة بموجب قوانين التجسس الجديدة لمشاركتها معهم – لكنهم وافقوا على تحليل القوائم خلال أسبوعين. وقالوا إن القوائم تحتوي بشكل عام على ستة إلى عشرة مواضيع في اليوم، والتي يبدو أنها مصممة لاستكمال تحديثات الحرب لوزارة الدفاع والتي تشكل تغطية إلزامية، ويعمل المطلعون على هذه القوائم لدى وسائل الإعلام غير الإذاعية، ولكن نقاط الحوار التي وصفوها ظهرت دائمًا في قوائم الأخبار على القناة الأولى وروسيا الأولى.
تنقسم الموضوعات إلى أربع فئات رئيسية: اقتصادية، استكشافية، وعاطفية، ومثيرة للسخرية. ويجب أن تُظهر القصص الاقتصادية أن العقوبات الغربية ضد روسيا جعلت الحياة في أوروبا أصعب مما هي عليه في روسيا: لا يستطيع الناس في بريطانيا تحمل الحرارة، وقد يضطر الألمان إلى ركوب الدراجات لأن أسعار الغاز آخذة في الارتفاع، وأسواق الأسهم آخذة في الانخفاض، وربما قد تواجه أوروبا الغربية أزمة غذائية.
وتركز المواضيع الاستكشافية على التضليل الإعلامي والمعلومات المضللة في الغرب، وقد يشمل ذلك قصصًا عن اللاجئين الأوكرانيين الذين كشفوا ذواتهم الإجرامية الحقيقية من خلال سرقة المتاجر في إحدى دول أوروبا الغربية، أو مقطعًا عن أوستن تايس، الصحفي الأمريكي الذي تم اختطافه في سوريا، في سنة 2012، حيث روى أنه عوقب لقول الحقيقة عن الولايات المتحدة.
وتركز الروايات العاطفية على الروابط بين الروس المتواجدين في روسيا وشرق أوكرانيا، مثل زواج في بيرديانسك “المحررة حديثًا”، ووصول المساعدات الإنسانية من روسيا إلى منطقة دونيتسك، والأطباء الروس الذين يقدمون العلاج الطبي للأطفال المصابين في أوكرانيا. وأخيرًا، تركز القصص المضحكة على السخرية من الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وفي كثير من الأحيان، تركز أيضا على التدهور العقلي المزعوم لجو بايدن.
في الأيام الأولى من الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، كنت في موسكو أشاهد التلفاز وأذهلتني الطرق التي قللت بها القنوات من أهمية الحرب؛ حيث كانت اللهجة واقعية ولم تتغيّر طول نشرات الأخبار. بالتالي افترضتُ أن هذه كانت إستراتيجية لزيادة اهتمام الروس بما كان الكرملين يسميه “عملية عسكرية خاصة”. في المقابل، ووفقًا لمصادري، ما لاحظته لم يكن إستراتيجية متعمدة بل افتقارًا إلى الإستراتيجية.
لم يكن بعض مديري وسائل الإعلام في الكرملين على علم بأن الغزو قادم، واليوم التلفزيون لا يبث سوى أخبار الحرب في كل الأوقات. وبالإضافة إلى البرامج الحوارية ونشرات الأخبار؛ هناك تقارير خاصة تدعي فضحها للدعاية الغربية والأوكرانية أو فضح جذور ما يسمى بالفاشية الأوكرانية، والدراما الخيالية التي تتعلق بالحرب الوطنية العظمى، وهي التسمية الروسية للطرف السوفييتي من الحرب العالمية الثانية.
في الماضي؛ كان يُطلب من الصحفيين في التلفزيون ووسائل الإعلام المطبوعة متابعة القصص من زوايا محدّدة، لكن الأشخاص الذين اطلعوا على القوائم يشيرون إلى وجود عملية أقل إلزامية اليوم، وقال أحد مصادري: “يجب اختيار هذا وليس ذلك، على سبيل المثال، يجب التحدّث عن ماريوبول، وليس بوتشا، ويمكنك إجراء مناقشة في حدود هذه المساحة”
يُعتبر سولوفيوف، الذي يُبث عرضه على قناة روسيا وان، بارعًا في تنظيم ما يبدو أنه نقاش ضمن المساحة الضيقة التي تحددها السلطات. ففي 26 نيسان/أبريل، ناقش هو ومارغريتا سيمونيان، التي تدير كلًّا من روسيا سيغودنيا، وهي شركة إخبارية محلية تابعة للدولة، وآر تي، اليد اليمنى الدولية لآلة الدعاية التلفزيونية، مؤامرة مزعومة لاغتيالهم وناقشوا العديد من الدعاية الأخرى التي أُحبطت ظاهريًا من قبل الشرطة السرية في اليوم السابق.
بدت لقطات المداهمة وكأنها محاكاة ساخرة، ومن بين الأدلة التي زعمت الشرطة أنها عثرت عليها كانت قلادة بها صليب معقوف من جانب ورمح أوكراني متعدد الرؤوس على الجانب الآخر، وقنابل مولوتوف في زجاجات بلاستيكية وثلاث أسلحة لألعاب فيديو، وقدّرت سيمونيان أنه قد تم التخطيط للاغتيال بناءً على أوامر من السياسي المعارض أليكسي نافالني، بالتعاون مع زيلينسكي، لأن كلاهما من النازيين الجدد.
في عام 2020؛ نجا نافالني من محاولة اغتيال يبدو أنها نُفذت من قبل جهاز الأمن الروسي “إف إس بي”، علما وأنه كان في السجن منذ أكثر من عام، فيما قالت سيمونيان: “هل يمكنك تخيل الأشياء التي كان سيفعلها هنا، لو لم يتم سجنه؟”. وقبل أن أتعمق في مشاهدة الدعاية الروسية، أخبرني ليف جودكوف، عالم اجتماع مستقل، أن الخطاب التلفزيوني كان بكل بساطة يقوم على “إسناد سماته الخاصة إلى الخصم”.
يبدو سولوفيوف وضيوفه، إلى جانب مذيعي الأخبار والمراسلين والمضيفين الآخرين على قناة شانيل وان وروسيا وان، مثل الأطفال المظلومين في ساحة اللعب مردّدين هذه الكلمات: “لا، أنت النازي!”؛ “أنتم تقصفون الأحياء السكنية!”؛ “إنك تقتل الصحفيين!”؛ “إنك تغتصب المدنيين وتقتلهم!”؛ “أنت تشن إبادة جماعية!” (طلبت من سولوفيوف وسيمونيان إجراء مقابلات معي؛ لكن سولوفيوف لم يرد، بينما استخدمت سيمونيان قناتها على تيليغرام، التي تضم حوالي ثلاثمائة ألف مشترك، لتعلن أنها لن تتحدث معي.)
صاغ المؤرخ في جامعة ييل، تيموثي سنايدر، مصطلح “الفاشية الفصامية” لوصف الفاشيين الفعليين الذين يطلقون على أعدائهم اسم “الفاشيين”؛ حيث قال سنايدر إن هذا التكتيك يتبع توصية هتلر بقول كذبة كبيرة للغاية ومخيفة لدرجة أن التكلفة النفسية لمقاومتها ستكون مرتفعة للغاية بالنسبة لمعظم الناس، وهو ما ينطبق على الوضع الحالي في أوكرانيا؛ حيث يشن أحد المستبدين حرب إبادة جماعية ضد دولة ديمقراطية يترأسها رئيس يهودي ويدعو الضحايا بالنازيين.
يقر المتحدثون في التلفزيون الروسي بانتظام بالعبثية الظاهرة للوضع الذي يزعمون أنهم يصفونه. قال ديمتري دروبنيتسكي، وهو عالم في السياسة، في برنامج سولوفيوف في 29 نيسان/أبريل: “لقد جن جنون العالم، وأصبح الروس معادين لروسيا، ويظهر اليهود كأنهم أسوأ المعادين للسامية”، وبعد أيام قليلة، كرر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مقابلة على التلفزيون الإيطالي، نفس الكلام الكاذب عن اليهود المعادين للسامية، مضيفًا أن جزءًا من هتلر كان يهوديًّا، كما وصف سولوفيوف، وهو يهودي، زيلينسكي بأنه “يهودي مزعوم”.
تشكلت ثقافة التلفزيون الحكومي بشكل تدريجي خلال العقدين الماضيين، ففي سنة 2000، استأنف بوتين فترة ولايته الرئاسية الأولى من خلال استيلاء الدولة على القناة التلفزيونية الإذاعية الخاصة الرائدة في البلاد. وفي غضون سنوات قليلة كانت جميع محطات البث التلفزيوني، بما في ذلك المحطات المحلية، تحت سيطرة الدولة. وتلقى التلفزيون الحكومي، الذي كان يعاني في التسعينيات، أموالًا هائلة من الحكومة، وهذا ما دفع العديد من الصحفيين والمحررين والمنتجين الذين عملوا في القنوات الخاصة للانضمام إلى القنوات الحكومية. وفي عام 2004 – أثناء الانتخابات الرئاسية الثانية لبوتين – جلستُ لأتحدث مع إيفجيني ريفينكو، نائب رئيس تحرير الأخبار في شركة عموم روسيا للراديو والتلفزيون الحكومية، وهي شركة تضم ما يُعرف الآن باسم روسيا 1، وقد قال لي “إنها سلسلة منطقية بسيطة، نحن تلفزيون تابع للدولة تخضع لنظام جمهوري رئاسي. وبالتالي، نحن ينبغي علينا تجنب انتقاد الرئيس”. وقد انتقل ريفينكو، الذي عمل سابقًا كمراسل ومذيع أخبار على التلفزيون المستقل لرئاسة العملية الإخبارية للشركة القابضة.
وبدأت فريدة كوربانجاليفا، مذيعة الأخبار النهارية السابقة، العمل في قناة روسيا 1 في ربيع سنة 2007، عندما كانت في السابعة والعشرين من عمرها. وقالت لي عبر مكالمة عبر تطبيق زووم من براغ؛ حيث تعيش الآن: “كانت تلك أوقات معتدلة للغاية”، مضيفة: “كان يمكننا أن نبدأ نشرة أخبار بقصة عن مصادم الهدرونات الكبير أو وفاة مصمم الأزياء جيانفرانكو فيريه، فهذه الأنواع من القصص تجلب اهتمام الرأي العام. وكان يعتبر من غير اللائق استئناف الأخبار بقصة عن بوتين. لكن بحلول سنة2013، أوضحت كوربان جاليفا أنه بات يمكن نشر قصص الاهتمام العام، وخاصة الدولية، وتم نشر تقارير عن التدريبات العسكرية الروسية. ووصفت لي كوربان جاليفا عملية التحرير قائلة عندما تكتبين نسختك في برنامج خاص، ورؤسائي – أي ريفينكو والشخص الذي كان بيني وبينه – يفتحونها على شاشاتهم، ومن ثم يرن الهاتف على الفور “غيّر هذا…امحي ذلك””.
وأوضحت أنها في خريف 2013، كانت تكتب نسخة لقصة عن الاحتجاجات التي اندلعت في أوكرانيا – والتي في غضون بضعة أشهر، ستتحول هذه الاحتجاجات إلى ثورة – وقد كتبت كلمة “متظاهرون”، وعلى إثر ذلك؛ اتصل بي ريفينكو ليقول “متى ستتوقفين عن إطلاق اسم المتظاهرين عليهم؟”. (رفض رفينكو، وهو الآن عضو في البرلمان الروسي وأحد قادة حزب بوتين روسيا المتحدة، التحدث إليَّ بعد هذا المقال). بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، تم توجيه المراسلين والمراسلين ليطلقوا على هذا الفعل “إعادة التوحيد” وليس “ضم”، وأخبرتني كوربان جاليفا أنها فعلت كل ما في وسعها، على سبيل المثال، باستخدام مصطلح “السلطات الأوكرانية” حتى عندما تستخدم النسخة التي تلقتها كلمة “المجلس العسكري”، وحتى عندما قيل إن القوات المدعومة من روسيا في شرق أوكرانيا أسقطت طائرة ركاب ماليزية في سنة 2014 باستخدام صواريخ روسية، صرحت كوربان جاليفا على الهواء أن طائرة مقاتلة أوكرانية أسقطت الطائرة، وبعد فترة وجيزة، استقالت وغادرت البلاد.
لقد تحدثتُ إلى العديد من الأشخاص الذين استقالوا؛ حيث قال كل منهم إنه كان ينبغي عليهم المغادرة عاجلاً أو آجلًا، وقال أحد المراسلين السابقين إن الأمر استغرق عدة سنوات من العلاج حتى يتمكن من الاستقالة، وأخبرتني كاتبة إخبارية أخرى عملت في قناة روسيتا لأكثر من عقد من الزمان، أنها حاولت لسنوات وفشلت في القيام بشيء آخر. وفي هذا الشأن، أوضحت لي: “أدرك الآن أنني عاملة مثالية في التلفزيون الحكومي. عليَّ أن أكون غير مسيسة، وليس لدي أي انتماءات سياسية على الإطلاق. هذا هو نوع المواطن الذي يسعى هذا النظام إلى إنشائه”. وقد استقالت بمجرد بدء الغزو الشامل لأوكرانيا وهي الآن تدرس لتغيير مهنتها.
واستبدلت زانا أغالاكوفا، مذيعة الأخبار السابقة في وقت الذروة للقناة الأولى، منصبها بوظيفة مراسل أجنبي في سنة 2005. وحيال هذا الشأن، أوضحت “اعتقدتُ أنني سأقدم تقارير عن انتخابات واحتجاجات حقيقية وسأنقذ نفسي من الاضطرار إلى الكذب بشأن ما كان يحدث داخل البلاد”، لكن في سنة 2016؛ عندما كانت أغالاكوفا في الولايات المتحدة، تقدم تقريرًا عن الانتخابات الرئاسية، كانت مهمتها تصوير هيلاري كلينتون على أنها مريضة، ولقد استخدمت بشكل متكرر حالة واحدة تعثرت فيها كلينتون، ظهرت فيها مريضة أثناء الحملة الانتخابية.
وفي سنة 2019؛ عندما كانت أغالاكوفا تقدم تقارير عن الاحتجاجات الفرنسية، طلب منها محررها قطع سبب الحقيقي الذي يتمثل في إصلاح نظام التقاعد لأن روسيا في ذلك الوقت كانت تجري إصلاحًا غير شعبي لنظام المعاشات التقاعدية، وأشارت أغالاكوفا: “كان من المفترض أن أركز بدلاً من ذلك على حقيقة أن كل احتجاج انتهى باشتباكات مع الشرطة”، وأضافت قائلة: “لم يوضحوا ذلك، لكنهم كان يريدون إلى ترك انطباع لدى المشاهدين بأن الاحتجاجات تؤدي دائمًا إلى الدمار والخراب”.
وفي نفس السنة؛ كشفت أغالاكوفا الستار عن نصب تذكاري للمواطنين السوفييت الذين شاركوا في المقاومة البلجيكية خلال الحرب العالمية الثانية.، وقد أجرت مقابلة مع امرأة بلجيكية تذكرت المقاتلين، قائلة إن اثنين منهم كتبوا بطاقاتهم البريدية أثناء عودتهم إلى الاتحاد السوفييتي، لكن الاتصال انقطع بمجرد وصولهم إلى لينينغراد، وتكهنت المرأة بأن صديقاتها – التي اشتبهت أغالاكوفا في وجود علاقة حب مع أحدهما – قد انتهى بهما المطاف في غولاغ، وهو جزء قام محرر أغالاكوفا بحجبه، في حين أخبرتني أغالاكوفا: “ربما تضع الدولة حجر الأساس لمعسكرات الاعتقال”. وعندما بدأ الغزو الشامل؛ قدمت استقالتها وتخلت عن شقتها وسيارتها في باريس، وما تقدمه القناة الأولى من امتيازات، واستبدلت وضع المراسلة الأجنبية بالمنفى.
في هذه الأيام؛ بينما يظهر سولوفيوف واثنين آخرين بشكل خاص، لم يُنتج معظم محتوى التلفزيون بواسطة متعصبين، بل بواسطة طائرات بدون طيار، وأشخاص لديهم وظائف صغيرة جدًّا يعيدون كتابة نسخة تقدمها وزارة الدفاع، ويكتبون تعليقًا صوتيًّا للفيديو الصامت الذي توزعه مختلف الوكالات الحكومية؛ وهو ما يُعرف في التجارة باسم “سلطات الانتداب”، وهي القصص التي يجب عرضها. ويمتلك العديد من هؤلاء العمال جداول زمنية يسيرة – من ست إلى ثماني ساعات في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع، مع عطلة كل أسبوعين – مما يجعلهم يشعرون وكأنهم آلة فاسدة (موظفين إداريين)، وإن كان ذلك بأجر لائق.
بعد اثني عشر يومًا، أعلن بوتين عن بداية الغزو الروسي لأوكرانيا وأعلن أن هدفه بلاده هو “تجريد أوكرانيا من السلاح وإزالة النازية”.
وعندما سألتُ عن مدى دقة إشارتهم إلى القوات الأوكرانية على أنها نازية، قال لي محرر إخباري: “لا أعتقد ذلك. أنا لست سياسيًّا أو مؤرخًا، أنا فقط أتابع المصادر الرسمية. وإذا ما استخدم المسؤولون هذه المصطلحات، فهذا هو الحال”. (كان المصدر واحدًا من شخصين فقط يعملان حاليًا في قناة حكومية روسية ووافقا على التحدث معي مباشرة).
وقد أردت اختبار فرضيتي المتمثلة في أن الدعاية الروسية مصممة على تعكير صفو المياه وخلق الانطباع بأن لا شيء يجري بشكل صحيح، وليس لإقناع جمهورها بأن الأوكرانيين نازيين وأن روسيا تشن حربا دفاعية، عن طريق السؤال عن إمكانية وجود هذه الحقيقة؛ حيث قال محدثي: “من المؤكد وجود هذه الحقيقة”، ولكن كل ما في الأمر أنه غير معروف؛ وما لم يكن بإمكان المرء السفر شخصيًّا إلى بوتشا أو ماريوبول، فلن يستطيع معرفة ما حدث. وقال المحرر: “نحن نعيش في عصر مزيف يصعب فيه تحديد المعلومات الصحيحة. وهو بمثابة الإيمان بالفضائيين أو بالله؛ حيث يقرر الجميع بأنفسهم”.
وعلى عكس معظم الروس، يتمتع هذا الشخص بإمكانية الوصول غير المقيدة إلى الأخبار الغربية جنبًا إلى جنب مع المصادر الروسية، وقد قال المحرر: “من المستحيل معرفة أيهما أصح، إذ تمتلك كل دولة مصالحها الخاصة؛ روسيا مهتمة بحماية السكان المدنيين في دونباس، والغرب مهتم بالتدخل في ذلك، مهاجمة روسيا بالعقوبات، وتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا. وفي ظل هذه الظروف، يصعب التفكير في أي من القصتين أكثر واقعية من الأخرى”.
ووصف موظفون حاليون وسابقون التلفزيون الحكومي بأنه جيش يحتوي على عدد قليل من الجنرالات والعديد من المشاة الذين لا يشككون في أوامرهم أبدًا، وقد قال المؤرخ والصحفي الذي أمضى سنوات في استضافة برنامج تحليلي إخباري أسبوعي على قناة “روسيا وان”، نيكولاي سفانيدزه: “إنه يعمل على أساس الانضباط العسكري”. (لا يزال سفانيدزه، وهو أحد الليبراليين، تابعًا للقناة على الرغم من تعليق تعليقه الأسبوعي عندما بدأ الغزو الشامل). ويعلم الجميع أنهم جزء من القوة، ومن الواضح أن الكمبيوتر المحمول الخاص به يحتوي على حرف “Z” كبير، وهو رمز الحرب الروسية في أوكرانيا. وفي القناة الأولى، كان مراسل صحفي من أوكرانيا “المحررة” يرتدي شارة بحرف “Z”؛ وكلمة صحافة على صدر سترته الواقية من الرصاص.
تشكل الدولة الروسية وآلتها الدعائية حلقة من ردود الفعل؛ ويشاهد بوتين تلفزيونه الخاص ويعيده إلى نفسه، ويضخم التلفزيون الرسالة، وما إلى ذلك. ويمكن أن تنشأ الرسائل في أي مكان على طول هذه الحلقة المغلقة، ففي 12 شباط/ فبراير، كتبت ماريا بارونوفا، وهي ناشطة معارضة سابقة ذهبت للعمل في خدمة اللغة الروسية في “آر تي” في سنة 2019، تدوينة طويلة غير متقنة على قناتها الشخصية على تطبيق تلغرام، بحجة أن الناتو وحلفائه يجب أن يكونوا “غير نازيين” (de-Nazified)، وسرعان ما سمعت من أحد كبار المحررين الذي أشاد بمنشورها وشجعها على الكتابة في مثل هذه الأشياء.
بعد اثني عشر يومًا، أعلن بوتين عن بداية الغزو الروسي لأوكرانيا وأعلن أن هدفه بلاده هو “تجريد أوكرانيا من السلاح وإزالة النازية”.
وفي منشورها على تلغرام، لم تستطع بارونوفا العثور على مثيل لمصطلح “إزالة النازية” الذي استخدمه الروس والذي لا يشير إلى ألمانيا؛ لقد دأبت آلة الدعاية على وصم الأوكرانيين بالنازيين لسنوات، لكن هذه الصفة كانت جديدة، فقد سمعتها بعد شجار مع صديق يتحدث الروسية في الولايات المتحدة. وقالت لي: “لقد اختلقت هذه القصة من أجل هذه الوظيفة. وبعد ذلك، عندما كانوا يجمعون الحشو في خطاب بوتين، اختاروها”.
إنها ليست نظرية مستبعدة؛ حيث تترابط الأيديولوجيات الأوتوقراطية بشكل عام وأفكار بوتين على وجه الخصوص بشكل وثيق سريعًا، والكلمات القابلة للاستخدام والاقتباسات القابلة للاقتباس قليلة ومتباعدة وهذا من بين أمور أخرى، وهو ما يدفع آلة الدعائية للاقتباس الكثير من أقوال بوتين، المتعلقة بالروس الذين يتجهون مباشرة إلى الجنة ولا يحتاجون إلى عالم توجد فيه روسيا من 2018.
كانت وظيفة بارونوفا تتمثل أساس في كتابة وتحرير القصص من هذا النوع، لجمع الأموال و نشر الوعي، وأخبرتني أنها لم تفعل الكثير لأنها لم تكن مضطرة لذلك، فقد كان التمويل سخيًّا وكانت التوقعات منخفضة، وخلصت بارونوفا إلى أنه “كلما زاد عدد الأشخاص الذين يحصلون على رواتب جيدة مقابل عدم القيام بأي شيء، كان ذلك أفضل”.
ينتهي فيلم “ستالينغراد”، أحد أكثر الأفلام الروسية تحقيقًا للأرباح على الإطلاق، بقيام بطله الوحيد الذي يقوم بالاتصال اللاسلكي بضربة جوية ضد المبنى الذي لجأ إليه
نجح النظام لأنه كان لديه جمهور واحد يتمثل في شخص بوتين الذي كان راضيًا به على ما يبدو، وقد تركت بارونوفا وظيفتها في 24 فبراير/شباط، وقالت لي “لقد عرفت لكن بعد فوات الأوان”.
في مطلع شهر أيار/ مايو، ذكرت المجلة الاستقصائية الروسية المستقلة “بروكت” أن الكرملين توقف عن استخدام مصطلح “إزالة النازية”، لأنه لم يكتسب زخمًا لدى الجمهور.
إذا كان المروجون الروس يعتبرون أنفسهم جنودًا مشاة وضباطًا في جيش ما، فهذا جيش شكلته أساطير الحرب الوطنية العظمى، فالنصر في هذه الحرب هو حجر الزاوية في التأريخ الروسي المعاصر وهو الحدث الوحيد الذي يبرر مطالبة روسيا بفعل ما تريد في العالم وخاصة في حربها ضد أولئك الذين وصفتهم بالنازيين، لكن قصة الحرب التي تعلمها الروس في المدرسة ومن الكتب والأفلام والمسلسلات التلفزيونية، تؤكد على التضحية التي قدمتها القوات السوفيتية أكثر من انتصار هذه القوات النهائي.
يحفظ تلاميذ المدارس الروس اليوم، مثلما فعل آباؤهم وأجدادهم، قصص الشهداء: زويا كوزموديميانسكايا، وهي من الحزبيين الذين أسرهم الألمان ورفضوا الحديث واختاروا الموت شنقًا، وألكسندر ماتروسوف، الذي توفي بعد أن ألقى بنفسه أمام مدفع رشاش ألماني.
ينتهي فيلم “ستالينغراد”، أحد أكثر الأفلام الروسية تحقيقًا للأرباح على الإطلاق، بقيام بطله الوحيد الذي يقوم بالاتصال اللاسلكي بضربة جوية ضد المبنى الذي لجأ إليه، حتى يتم قتله مع عدد كبير من القوات الألمانية؛ فأن تكون على استعداد للموت من أجل بلدك هو عنصر من أساطير أي جيش ولكن بالنسبة للجنود الروس، فإن الموت وقتل الآخرين معك؛ بل هو الشجاعة بعينها.
كل ليلة؛ يتم الترويج للأبطال وكأنهم انتحاريون يرتدون سترات ناسفة، يعيشون على الفراغ. خلال عرض 26 نيسان/أبريل، ناقش سولوفيوف وسيمونيان النتائج المحتملة للصراع الحالي؛ حيث قال سيمونيان: “أنا شخصيًّا أرى أن مسار حرب عالمية ثالثة هو الأكثر واقعية. التعرف علينا ومعرفة زعيمنا، فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، ومعرفة كيفية عمل الأشياء هنا. أعتقد أن النتيجة الأكثر احتمالًا – ألا وهي أن كل شيء سينتهي بضربة نووية – لا يزال أكثر احتمالية من الهزيمة. هذا يرعبني، من ناحية، لكن من ناحية أخرى أفهم أن هذا هو الوضع”، وقال سولوفيوف: “لكننا نذهب مباشرة إلى الجنة”، فرد سيمونيان: “نعم؛ وسوف يكتفون بالنعيق”.
المصدر: نيويوركر