في نهايات 2011 وبعد استفحال بطش وإجرام قوات نظام بشار الأسد ضد شعبه المنتفض على حكمه، خرج الثوار السوريون السلميون حينها في مظاهرات للمطالبة بإقامة منطقة عازلة من دول العالم لحمايتهم، وكان الشعار حينها “المنطقة العازلة مطلبنا”، كانت المناداة بالشعار بسيطة، لكن دول العالم حينها لم تعط السوريين أي اهتمام، بل ساهمت في مفاقمة الأزمة وطول أمدها.
كانت فكرة السوريين من المطالبة بالمناطق العازلة، هي فرض حظر جوي على مناطق معينة يلجأ إليها السوريون الذين يفرون من مدنهم وقراهم المدمرة وتكون هذه المناطق بعيدة عن بطش الأسد وقصفه، بالإضافة إلى كونها مناطق عسكرية عازلة لمحاولة تنظيم أمورهم العسكرية والانطلاق نحو المناطق التي يسيطر عليها بشار الأسد، الفكرة هذه أتت بعد أن رأى السوريون أن تطبيق الحظر الجوي الشامل على البلاد كما حصل في ليبيا بعيد المنال في سوريا لاعتبارات إقليمية وتداخل المواقف الدولية بخصوص القضية السورية.
استمرار القتل والقصف بالإضافة إلى غياب ردع أو منطقة آمنة، حمل مئات آلاف السوريين على حزم حقائبهم والتوجه إلى بلاد النزوح واللجوء المختلفة، ففي البداية تركز اللجوء على دول الجوار وما لبث أن انتشر إلى دول العالم، منذ بداية المشوار، حملت تركيا على عاتقها استقبال السوريين الهاربين من بطش الأسد، ويومًا بعد يوم تزايدت أعداد السوريين في المدن والبلدات التركية.
بدايات الحديث عن المنطقة الآمنة
تزايد أعداد النازحين إليها، دفع تركيا للتصريح عن نيتها إقامة منطقة آمنة في سوريا، الأمر الذي قوبل برفض أمريكي بداية وعدم قبول دولي كونها “فكرة غير مجدية”، وكانت تركيا قد طرحت فكرة المنطقة الآمنة للمرة الأولى خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى واشنطن ولقائه الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما.
أوضح أردوغان حينها أن المقترح هدفه حماية المدنيين الفارين من النزاع السوري، وتوفير ملاذ آمن للاجئين من خلال منطقة آمنة وليس منطقة عسكرية عازلة، ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الدول كانت توافق على فكرة أنقرة مثل فرنسا وبريطانيا إلى حد ما.
الرفض الأمريكي لفكرة المناطق الآمنة في سوريا استمر، لكن أنقرة ظلت مصرة على موقفها، وفي عام 2014 أعادت أنقرة طرحها للفكرة بالتزامن مع بداية الحرب على تنظيم “داعش”، وربطت تركيا حينها انخراطها بالحرب على داعش بتنفيذ أهداف تتعلق بإقامة منطقة آمنة، بهدف توفير ملاذ آمن للاجئين السوريين الفارين من قصف الطائرات، ما يعمل على تقليص العبء عن دول الجوار التي يتدفق إليها اللاجئون، بالإضافة إلى مساعدة الفصائل الثورية على الانضواء تحت مؤسسة عسكرية واحدة ذات محددات واضحة.
مع مرور الوقت وتفاقم مشكلة اللاجئين في تركيا، باتت أنقرة تصر أكثر فأكثر على إنشاء المناطق الآمنة على حدودها من الطرف السوري، لكن الجدال مع واشنطن بهذا الخصوص لم يثمر، خاصة أن باراك أوباما حينها جعل الملف السوري ثانويًا بعد اتفاقه الذي عقده مع إيران من أجل البرنامج النووي ومحاولاته إرضاء إيران في الملف السوري، وفي عام نهايات عام 2016 بدأت تركيا عملياتها العسكرية في سوريا.
افتتحت تركيا عمليات جيشها داخل الحدود السورية بمعارك ضد تنظيم “داعش” وفي وقت وجيز سيطرت إلى جانب قوات المعارضة السورية على مناطق بريف حلب مثل أعزاز والباب والراعي ضمن ما أصبح يسمى اصطلاحًا “درع الفرات” نسبة إلى اسم العملية العسكرية، كانت هذه الجولة التركية هي الأولى، وقد أتت هذه العملية في ظل رفض أمريكي غير مباشر، لكن كانت أمريكا حينها على موعد مع الانتخابات الرئاسية، حين فاز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات.
لم يتغير الأمر كثيرًا في البداية بالنسبة لتركيا مع وصول ترامب وإن كان أكثر وضوحًا وسياسته اتسمت في سوريا بالانسحاب من هذا الملف إلى ناحية المصالح الاقتصادية فقط دون النظر إلى الوجود الإستراتيجي في هذه المنطقة، ما فتح الباب لروسيا بالتغلغل أكثر فأكثر، وهنا كان لا بد لتركيا من الحديث مع روسيا والتفاوض معها بشأن مناطقها الحدودية.
الدخول الروسي إلى سوريا عام 2015 عقد الحسابات التركية، لكن مع الانسحاب الأمريكي والأوروبي والعربي من الملف السوري، لجأت تركيا إلى التحالف مع روسيا في هذا الملف بالتحديد، وبالفعل بدأت أنقرة في تنفيذ خططها على أساس التفاوض مع روسيا فقط وفي بعض الأحيان توجد إيران.
بدأت فكرة المناطق الآمنة فعليًا اعتبارًا من 2017 حين اتفقت تركيا وروسيا وإيران بعد عدة مشاورات في جنيف وسوتشي وأستانة للتسوية السياسية في سوريا، وحينها تم تحديد مناطق كونها آمنة تحت شعار “مناطق خفض التصعيد”، وهي الغوطة الشرقية ومنطقة حمص وريفها الشمالي وإدلب وريفها وأرياف حماة وحلب واللاذقية، ومنطقة جنوب سوريا التي تضم درعا والسويداء والقنيطرة.
روجت تركيا لخطتها المتعلقة بالمناطق الآمنة أمام الدول وتتضمن هذه الخطة القضاء على التنظيمات التي تصنفها على أنها إرهابية وتهدد أمنها القومي في منطقة شرق الفرات، وحددت المنطقة الجغرافية المستهدفة وهي ذات امتداد 460 كيلومترًا وبعمق 32 كيلومترًا
ما سبق لم يكن حسب الرغبة التركية، فرؤية أنقرة للمنطقة الآمنة مغايرة تمامًا، لكن الظروف اختلفت والفاعلين تغيروا هناك ولم يبق لأنقرة إلا العمل على هذه الأسس، ومع الأيام نقضت روسيا وإيران اتفاقية خفض التصعيد ولم يكن لدى أنقرة أي آلية للتعامل مع هذه الخروقات، فمن المناطق المتفق على خفض التصعيد فيها لم يبق إلا إدلب وما حولها تحت قبضة المعارضة، وما تبقى سيطرت عليه قوات النظام بالتعاون مع روسيا وإيران.
اتفاقيات هشة
عادت فكرة المناطق الآمنة إلى الواجهة بداية 2018، حين أعلن الرئيس الأمريكي أنه سيسحب قواته من سوريا، لكنه هدد تركيا حينها بضرب اقتصادها حال قررت محاربة الأكراد، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استغل تصريحات ترامب ليرد عليه قائلًا: “القوات التركية مستعدة لإقامة منطقة آمنة شرقي سوريا بطول 32 كيلومترًا داخل الأراضي السورية”.
تمت هزيمة تنظيم “داعش” في كل سوريا على يد التحالف الدولي وقواته الحليفة من الوحدات الكردية وهي ذاتها العدو التركي الأساسي في سوريا، وبعد ذلك توصلت واشنطن مع أنقرة إلى اتفاق يقضي بتسيير دوريات مشتركة في المنطقة الحدودية مع تعهد أمريكي بأن تسحب قوات سوريا الديمقراطية “قسد” الأسلحة الثقيلة من الحدود التركية وتفكيك تحصيناتها هناك، كما تلقى الأكراد تعهدات من الجانب الأمريكي بأن تركيا لن تقوم بعملية توغل عسكرية في مناطقهم وأن الإدارة الأمريكية لن تتخلى عن الأكراد.
لكن المماطلة الأمريكية دفعت تركيا إلى أن تجد سيرها نحو العمل باتجاه الحدود السورية مرة أخرى بعد أن كان جنودها قد سيطروا على منطقة عفرين ودحروا الوحدات الكردية منها، وباتت أعينهم على مناطق شرق الفرات التي تمثل أهمية إستراتيجية لكل الأطراف الفاعلة في الشأن السوري.
روجت تركيا لخطتها المتعلقة بالمناطق الآمنة أمام الدول وتتضمن هذه الخطة القضاء على التنظيمات التي تصنفها على أنها إرهابية وتهدد أمنها القومي في منطقة شرق الفرات، وحددت المنطقة الجغرافية المستهدفة وهي ذات امتداد 460 كيلومترًا وبعمق 32 كيلومترًا، على طول الحدود التركية السورية، وجدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “إصرار بلاده على بدء إقامة المنطقة الآمنة شرق الفرات بشكل انفرادي حال عدم التوصل إلى توافق”.
بدأت أنقرة بتنفيذ وعودها عبر إطلاقها لعملية عسكرية سميت بـ”نبع السلام”، وسرعان ما توقفت بعد أن عقدت واشنطن اتفاقًا معها بشأن هذا الأمر، كما حصل اتفاق آخر بين روسيا وتركيا، جعل الخطوات التركية من أجل إنشاء المنطقة الآمنة المزمعة متوقفًا إلى يومنا هذا، وبقيت المناطق التي سيطرت عليها تركيا في هذه العملية بيدها لكنها غير متصلة بالمناطق الأخرى (درع الفرات وغصن الزيتون)، كما أن الاتفاقيات المنعقدة مع واشنطن وموسكو باءت بالفشل بخصوص ابتعاد الوحدات الكردية عن الخطوط المتفق عليها.
هل تستطيع تركيا إقحام الناتو؟
في كل محاولات تركيا السابقة كان حلف شمال الأطلسي الناتو يقف متفرجًا رغم أن تركيا عضو فيه، ولطالما كانت التطلعات التركية لحماية أمنها تتعارض مع ما تريده دول الناتو، إذ إن كثيرًا من الدول الأعضاء في هذا الحلف داعمة للوحدات الكردية ولا تستطيع شن حرب مع تركيا ضدها أو الموافقة على إقامة منطقة آمنة في سوريا على أنقاض هذه الميليشيات، وهو ما كان واضحًا في كل مناسبة، فلم يستطع الحلف مساعدة تركيا أو العمل على إمدادها بما يلزم في إطار حربها على الحدود مع سوريا، ولعل هذا الأمر اتضح في أوائل العام 2020 حين لم يتدخل الناتو رغم الطلب التركي المتكرر لمعارك تركيا في مدينة إدلب ضد جيش بشار الأسد.
سابقًا قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، إن حلف شمال الأطلسي لم يوفِ بمتطلبات المنطقة الآمنة في سوريا، رغم وضع بعض الخطط لإنشائها، وأضاف أن بلاده “هي دولة ناتو التي تحملت العبء الأكبر لتخفيف معاناة الشعب السوري، والقوات المسلحة التركية هي جيش الناتو الوحيد الذي قاتل ضد داعش وجهًا لوجه”، وقد اتفق أعضاء حلف شمال الأطلسي في 2019 على إنشاء منطقة آمنة شمال سوريا، على حدود تركيا الجنوبية، وإخلاء المنطقة من المقاتلين الأكراد لكن هذا الأمر لم ينفذ.
تعمل تركيا حاليًّا على استغلال الظروف التي تصب في صالحها في سوريا لاستكمال مشروعها المؤجل منذ سنوات، خاصة مع الحديث عن تخفيض القوات الروسية في بعض نقاط سوريا والضغوطات المتبادلة مع حلف شمال الأطلسي
واليوم، يعود الحديث عن المنطقة الآمنة إلى الصدارة، خاصة مع إعلان الرئيس التركي أردوغان خطته لإعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى المناطق الآمنة في سوريا، وقد دعا أردوغان دول الناتو إلى “دعم جهودها الرامية لإقامة منطقة آمنة على الحدود مع سوريا، لاستيعاب اللاجئين وضمان أمن حدود تركيا الجنوبية”، قائلًا: “لدينا أمور لها حساسيتها مثل حماية حدودنا من هجمات المنظمات الإرهابية، والدول الأعضاء بالناتو لم تدعم تركيا قط في حربها ضد الجماعات الكردية المسلحة”.
وأضاف أردوغان: “الآن بدأ توطين الناس في المناطق الآمنة داخل سوريا. معظم المناطق الآمنة التي تحدثنا عنها اكتملت، وبدأ الناس يسكنون فيها، وبدأ العمل فيها من جديد”، مؤكدًا “علينا أن نخاطب كل الحلفاء في المنطقة، وأيضًا الحلفاء في حلف الناتو فلتقفوا مع تركيا أمام هذه التحديات، ولا تمنعوها من السير قدمًا في إنشاء هذه المنطقة الآمنة، وإكمالها وتأمين الرفاهية فيها”.
أما الظروف الحاليّة التي يسعى أردوغان لاستغلالها من أجل إقناع حلف الناتو بالمساعدة في إقامة المنطقة الآمنة يبدو أنها في صالحه، خاصة مع طول أمد الحرب الأوكرانية والانشغال الروسي، بالإضافة إلى الطلب الفنلندي والسويدي الانضمام للناتو وهو ما تعارضه تركيا بسبب دعمهما للميليشيات الكردية وفتح أراضيهما لنشاطهم، وهنا تجدر الإشارة إلى أن تركيا تقايض ملف انضمام الدولتين إلى الناتو بدعمها باستكمال عملياتها شرق الفرات في سوريا والمساهمة في إنشاء المنطقة الآمنة.
وأوضحت تركيا أنها تريد ضمانات أمنية من فنلندا والسويد حال أرادتا تذليل العقبات أمام دخولهما إلى الناتو، وذلك بحسب ما أعلنه الوزير جاويش أوغلو، حين قال: “تركيا أكدت خلال الاجتماع مع الناتو أنها لن تقبل تهرب السويد وفنلندا من تقديم الضمانات لسحب دعمهما عن التنظيمات الإرهابية”.
إضافة إلى طلب الدعم من الناتو، يبدو أن تركيا اتجهت دوليًا إلى الأمم المتحدة، فقد قالت وسائل إعلام تركية إن الأمم المتحدة، بدأت بدراسة الصيغة التركية والمشاركة في آلية “العودة الطوعية” خاصة في الجانب المتعلّق برصد موارد مالية دولية لإنشاء مدن جديدة في المنطقة الآمنة شمالي سوريا.
تعمل تركيا حاليًّا على استغلال الظروف التي تصب في صالحها في سوريا لاستكمال مشروعها المؤجل منذ سنوات، خاصة مع الحديث عن تخفيض القوات الروسية في بعض نقاط سوريا والضغوطات المتبادلة مع حلف شمال الأطلسي من أجل انضمام الدول الجديدة إليه، وهو ما يمهد الطريق لأنقرة بالعمل في المناطق المحددة في سوريا في حال التوصل إلى اتفاق معين.