بعد أن مضى على تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” أكثر من عام ونصف، نجح فيها التنظيم في تثبيت أقدامه على أكثر من مائة وخمسين ألف كيلومتر مربّع من الأراضي السورية والعراقية، كما استطاع أن يحرّر نفسه من قيد التمويل الخارجي بعد أن نجح في بناء إمبراطورية اقتصادية ضخمة اعتمد في بنائها بالأساس على عائدات النفط الذي حصل عليه بعد استيلاءه على ثلث حقول النفط في سوريا والعديد منها في العراق فضلاً على حقول الغاز الطبيعى.
تضخّم تنظيم الدولة “داعش” إلى درجة أصبح عندها كدولة حقيقية تمتلك من القدرات العسكرية والاقصادية ما يُمكّنها من البقاء والدفاع عن نفسها، حتى أصبح من الصعب القضاء عليه، خاصة بعد أن بات واضحًا أن هناك صعوبة حقيقية تصل لدرجة الاستحالة أن يتم بلورة موقف مشترك بين الدول العربية وبعضها البعض خاصة تلك التى تستهدفها داعش مباشرة في ظل الاضطرابات التي تشهدها تلك الدول داخليًا، وكذلك بسبب التوازنات السياسية الإقليمية والدولية التي عجزت حتى اليوم عن القضاء على هذا التنظيم أو وقف تمدّده، فلم يعد من الممكن لتلك الدول أن تُعَوّل على المجتمع الدولي الذي كان أقصى ما فعله هو توجيه ضربات جوية للتنظيم ثمانين في المائة منها نفذتها السعودية والإمارات ولم يجروء أحد على الاقتحام البري بعد أن عانوا من وَحل العراق؛ لذلك أصبحت مهمة حماية الدول المستهدفة من قبل داعش تقع بالأساس على عاتفها فقط وهو ما يجب أن يُشَكّل بالنسبة لتلك الدول قضية أمن قومى طارئة تستدعي وضعها على أولوياتها سريعًا.
في مصر هناك درجة عالية من الاستهتار والخفّة في التعامل مع هذا الملف، سواء من النظام الحالي الحاكم رغم كونه نظامًا أمنيًا بالأساس أو من المجتمع المدني الممزّق الذي يغرق في استقطاب حاد يعيق انتباهه والالتفات الجاد والمسئول لتلك الأزمة، وليس أدلّ على ذلك من ردود الأفعال الغير مسئولة من جميع الأطراف حيث أصبحت جرائم داعش في مصر عبر جماعة أنصار بيت المقدس التابعة لها مجرّد أداة يستخدمها كل من طرفي الصراع لصالحه في صراعه السياسي كيف يشاء، دون أي إدارك حقيقي لمدى خطورة الأمر؛ فيعطون للتنظيم بذلك الفرصة لترسيخ أقدامه أكثر في سيناء وباقي أنحاء مصر، إلّا أن الجميع في النهاية سيدفع الثمن، وغاليًا جدا لو لم ينتبهوا حقًا ويدركوا أنهم تأخّروا جدًا بالفعل على مواجهة هذا الخطر واتخاذ اللازم تجاه تحجيمه واستئصال جذوره من سيناء ومن مصر كلها.
قد هالنا جميعًا ما شاهدناه على شبكات التواصل الاجتماعى مؤخّرًا من عمليات إجرامية فى فيلم “صولة الأنصار” لجماعة “أنصار بيت المقدس” تعرض فيه بعض عملياتها ضد الجيش المصري، ومنها العملية الأخيرة بحاجز كرم القواديس الذي راح ضحيتها 31 جنديًا، والآن وبعد أن بات انضمام هذه الجماعة إلى “داعش” مؤكّدًا، حيث أعلنت بيعتها للبغدادى قائد التنظيم ثم أعلنت سيناء إحدى ولايات “دولة الخلافة”؛ أصبح الأمر يستدعي وقفة جادة من الجميع في مصر، فرغم كل ذلك، إلّا أنه لايزال الجيش المصري قادرًا على التصدي الحاسم لها ووقف تمدده، فقد آن الآوان أن يتم التعامل مع هذه الإشكالية من منظور الأمن القومي الإستراتيجي لمصر وهو ما لم تفعله أي من الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر في الأربع سنوات الأخيرة وهي عمر تنظيم أنصار بيت المقدس منذ أن بدأ عملياته في سيناء في فترة حكم مبارك، تلك العمليات التي لم تتوقّف لا في حكم المجلس العسكري ولا في حكم الإخوان ولا في حكم الرئيس المؤقت “عدلي منصور” ولم تتوقف حتى الآن، بل ازدادت وتيرتها منذ مطلع عام 2014 لتحصد المئات من جنود الجيش المصري والشرطة المصرية في سيناء، إلّأ أن الأمر يستدعي وقفة ومراجعة مسئولة من النظام الحالي ومن قيادات القوات المسلّحة ومن المجتمع المدني وكافة التيارات السياسية، فعلى الجميع أن يعي جيدًا أبعاد ما يحدث وعيًا شاملاً لا يغفل جذور المشكلة ولا يتغافل عن الحقائق.
أمّا عن حالة تعاطف بعض تيارات المعارضة في مصر خاصة من التيار الإسلامي مع ما تفعله جماعة أنصار بيت المقدس نكايةً في النظام الحالي فبها قدر كبير من الاستهتار والسطحية في التعامل مع الأزمة، فأنصار بيت المقدس ومن خلفها داعش لا تحارب الجيش المصري انتصارًا لفصيل معيّن أو دفعًا لمظالم ولا نصرة لمظلوم، ولا رفضًا للانقلاب، هذه كلّها بالنسبة لهم مجرد هوامش على متن غاياتهم العظمى، قتال أنصار بيت المقدس للجيش المصري ليس سوى مرحلة فقط، فهي لها أجندة محدّدة واضحة ترتبط بتطبيق نمط حكم محدد من خلالهم – هم فقط -، أمّا تشدّقهم بالحالة الجهادية لا يعدو كونه خداعًا تستهدف به كسب تعاطف مؤيدين لهم خاصة من التيارات الإسلامية في المعارضة والتي نالها النصيب الأكبر من المظالم، إلّا أنها في حقيقتها تنظيم دمويّ قذر يسعى إلى حكم فاشيّ كله تسلّط وإكراه وتضييق لا حدود له يصبح حينها العيش هو العناء والموت هو عين الهناء، ومن يتابع الأوضاع بدقّة في العراق وسوريا لا يخطئه ذلك.
الشعب السوري رأى أهوالاً على يد جيش بشار شهورًا طويلة حتى اضطرّ إلى رفع السلاح دفاعًا عن نفسه ثم سلّم لدخول القاعدة وانتشار الفصائل الجهادية دفعًا لما تعرّض له على أيادي النظام السوري، وبعد أن تمكّنت جبهة النصرة وليس داعش حتى، بدأ يدرك الجحيم الذي أشعله بيده، وبدأ يدرك نيران التطرّف التي جاءت على ما تبقّى له من مساحات للحياة، وسقط في فخ لا فكاك له حتى الآن، الشعب السوري ذاق الويلات أضعاف ما ذقناه نحن في مصر بل لا يكاد يقارن حال مصر بما حدث بسوريا، ولم يكن تمدُّد السلفية الجهادية ليحدث في سوريا لولا “الشعب” الذي فتح الباب لهم، ثم خاب ظنه فسالت دماءه أنهارًا بعيدًا عن الجيش السوري نفسه، والآن لم يعد هناك “دولة” في سوريا وربما لأعوامٍ طويلة قادمة، ولا يدري أحد متى ستعود سوريا كما العراق، وما يصلنا إعلاميًا عن سوريا والعراق هو لا شيء مقارنة ببشاعة وقذارة الواقع.
لم نصل نحن في مصر إلى مثل هذه الحالة من السوء، ورغم كل ما حدث فإنّ الجيش المصري لا يقارن أبدًا بجيش بشّار الأسد، وعلينا ألّا نصنع بؤسنا بأيدينا ونجلب على أنفسنا واقعًا لا نتمنّاه لمجرد أنّنا اعتدنا اتباع مخاوفنا والمبالغة في يأسنا من الواقع فنعيش بذلك انتشاءً وهميًا بما تدّعيه داعش من نصرة الحق والمظلومين كل ذلك بسبب ما نعيشه من ظلم ليس هو بأظلم من حقيقة هذه التيارات الجهادية التي باسم الدين والحق تبرّر كل باطل، كما علينا ألّا نغفل المسارات السلمية الفعّالة مهما بطُأَت وطالت، علينا أن نتمسك بها بدلاً من صناعة “الموت”، فمن لا يريد لمصر مصير سوريا والعراق عليه أن يلتزم بتلك المسارات السياسية السِّلميّة ويرفض أية مسارات للعنف تمامًا ودون استثناء.
على تلك التيارات ألّا تنخدع بظاهر الخطاب الحماسي الذي يلعب على عاطفة الدين ويستغل آلام المظلومين وعليها أن تعي جيدًا أن داعش لا تريد من مصر سوى توسيع رقعة نفوذها في المنطقة عبر استهداف تنظيمات جهادية صغيرة يسهل جذبها – مثل أنصار بيت المقدس وأنصار الشريعة في ليبيا وتونس وغيرها – لتمثّل امتدادًا لها، تمهيدًا لمراحل أخرى لاحقة، وللأسف من يرددوا شعارات تشفّي في الجيش المصري على غرار “دعْهم يذوقوا بما كسبت أيديهم وينالوا عقابًا جرّاء ظلمهم” – وهي كلمات لا تعبّر إلا عن العطش للثأر وشفاء الغليل – غير قادرين على أن يروا أبعد من ظلهم، فكلنا سنذوق منه وسينالنا منه وحينها سنلف الأرض بحثًا عن الأمان خارج بلادنا لو أننا تعاملنا بهذه السذاجة وقصر النظر واستسلمنا للغضب الأعمى من جرائم العسكر.
في مثل تلك الأوقات، الانحياز واضح دون تردد وهو الانحياز إلى الأمن القومي المصري، أمن المصريين جميعًا وأمن بلدهم ومهما بلغت جرائم الأجهزة الأمنية لا يسقط عنا واجب التصدى لهذا الخطر الحقيقي الذى إن تمكن لن يبقى فيها أحد وسندفع جميعًا الثمن غاليًا جدًا، وسنخسر كثيرًا، سنخسر ما لا يُعوّض أبدًا، سنخسر مصرنا.
وتذكّروا قول المتنبى: “وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازًا لِصَيدِه … تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا”، وقد حدث من قبل ولم يَزل في العراق وسوريا..