في الفترة الأخيرة، قليلة هي الأفلام التجارية التي تأخذ منحى إبداعيًا حقيقيًا، وتحاول استكشاف مناطق جديدة من خلال الأدوات المتاحة داخل أنماط حكائية وتقنيات سردية أكثر إبداعًا من سابقتها، تمنح تلك الأدوات فرادة لتتعاطى مع فكرة مكررة لكن بشكل مختلف، ينجم عن تلك العملية نتيجة مختلفة لمقدمات شائعة ومعهودة، لأن منهجية التلاعب بالأدوات تختلف عن التقليدي.
لذا فالتجربة الفيلمية هنا تعتمد على التطويع الجيد للأدوات والدمج الجيد لطبقات سردية مختلفة، بجانب محاولة التحرر من مساحة الخيال العلمي المألوفة، وهذا ما يساهم في صنع بنية تجارية، أي أنه فيلم لجميع أنواع المشاهدين تقريبًا، لكنه في الوقت ذاته يقدم معالجة مختلفة لواحدة من الثيمات الحداثية المهمة داخل نوعية الخيال العلمي، التي ساهمت في نقل الخيال العلمي لمنطقة أخرى تمامًا خلال العقدين الأخيرين، تيمة الأكوان المتعددة.
لمخرجي فيلم “كل شيء في كل مكان جميعها في مكان واحد” دان كوان ودانيال شينرت عدة تجارب مختلفة تسبق هذا الفيلم، تجارب متنوعة تنتمي لعدة ألوان إبداعية مختلفة مثل الفيديوهات الموسيقية والاستعراضية والحلقات التليفزيونية، إلى جانب التجربة الأكثر ثراءً Swiss Army Man عام 2016، وإذا عدنا قليلًا إلى الخلف سنجد فيلم Everything Everywhere All at Once لم يكن التجربة الأولى التي يتناول خلالها المخرجان فكرة الأكوان المتعددة، فقد تناولا الفكرة ذاتها في فيلمهما القصير Possibilia عام 2014.
لذا فالفكرة ذاتها أخذت عدة سنوات لتختمر وتظهر بشكلها الحاليّ، رغم أن اللعبة كلها تكمن في الأدوات التقنية أكثر من القيمة الأدبية والتأسيس الجيد للشخصيات داخل السيناريو، وكما نعرف جميعًا أن الخصائص الجمالية والتقنية منفردة لا تمنح الفيلم قيمته، لكن التوظيف الجيد لهذه التقنيات في نوعية مثل الخيال العلمي على وجه الخصوص يمكن أن يصنع من قصة متواضعة، فيلمًا يحمل الكثير من الدهشة والمتعة للمشاهد، بل تجربة فريدة من نوعها إذا قُرِنَت بإنتاجات ضخمة مثل إنتاجات مارفل مثلًا.
سردية عشوائية
يدور الفيلم حول عائلة من المهاجرين الصينين داخل الولايات المتحدة، بالتحديد الأم والزوجة أيفيلين (الممثلة المميزة ميشيل يوه) التي تجد نفسها مقحمة في مغامرة كونية، بحيث تنتقل بين نسخها الشخصية داخل الأكوان الموازية وتستحضر قوتهم لتنفيذ مهمة خطيرة لإنقاذ العالم.
تبدأ المغامرة حين يتعرض زوجها (الممثل الرائع جوناثان كي كوان) لنوبات مفاجئة تجعله يتصرف بشكل غريب على غير عادته، ليتضح بعد ذلك أن هذه النوبات هي نسخته في كونٍ آخر، يتلبس زوجها ليعرفها على طبيعة المهمة ويعلمها تقنية القفزات الكونية التي توفر لها إمكانية القفز الكوني بين نسخها في الأكوان المختلفة.
يحمل جسد الفيلم الكثير من اسمه “كل شيء في كل مكان جميعها في مكانٍ واحد”، متأثرًا بسردية الخلل الذي يُحدِث عددًا لا نهائيًا من الاضطرابات المتلاحقة، ضرورة وجود ترتيب عشوائي للطبقات الكونية والسردية أدى إلى جموح الفيلم بانتقالات متلاحقة تخفق بسرعة شديدة، كأن صناع الفيلم يمسكون بمطرقة ويضربون على رأس المشاهد، إنها قطعة من كل شيء، مزيج مجمع من بنى ترفيهية مختلفة، مضاف له إشارات سينمائية لأفلام عظيمة وتحية لمخرجين بعينهم مثل ونغ كار واي، وأفلام مثل أوديسا الفضاء لكوبريك والماتريكس للأخوات واتشوسكي وراتاتولي فيلم ديزني الشهير، لكن هل هذا يكفي لصنع حبكة جيدة؟
في الحقيقة أن تيمة إنقاذ العالم مناسبة تمامًا ومتوافقة مع تيمة الأكوان الموازية، بيد أن التحرك الخاطف يولد إيقاعًا متسارعًا، ينجم عنه سردية مفككة، أي أنها لا تحافظ على توازنها، فتقحم عددًا كبيرًا من الأشياء في فترة قصيرة جدًا، ما يصنع اضطرابًا ملحوظًا في الفيلم، يؤثر على فهم المشاهد للسردية، لأنه ببساطة ينجرف مع الإيقاع، ويغفل عن بعض اللقطات وبعض المسارات السردية، ويسقط عنه الشخصية الرئيسية ذاتها فيتعاطى معها كأداة وليست كإرادة.
لكنه يبقى متيقظًا للإيقاع، يستمتع بالتسارع والتحرك الهائل داخل الصورة، الذي يصنعه المونتير بمهارة عالية، ليضع المشاهد داخل الحدث، ويرفع من النسق أكثر بالقتالات وحركات الووشيا البهلوانية التي لم تنفذ بشكل مثالي.
لكن بالنظر إلى القصة، سنلاحظ أنها بسيطة جدًا في كتابتها، ولا تحتمل – دراميًا – الطبقات الغزيرة التي ولدها الفيلم في مرويته البصرية، لهذا فالحكم على الفيلم يكون ملتبسًا، لأن ما فعله المخرجان بالتحرك داخل الصورة وتطويع المونتاج – حرفيًا – لصناعة منتج بصري مميز، هو الصورة المثلى لاستغلال هذه القصة البسيطة.
إنما إذا حاولنا التعمق في التفاصيل فسنلاقي الخواء، لأن القصة كلها تأسست كمروية بصرية مطلقة، تتحرك داخل الصورة وتغفل عامل السيناريو والتأسيس لدراما صريحة، ولا تستند على أرضية قوية يمكن الرجوع إليها لفهم هذه المروية البصرية، لهذا لا يمكن مقارنة هذا الفيلم بأفلام مثل Mr. Nobody وPredestination وطبعًا فيلم The One، فهي أفلام تتناول تيمة القرارات المصيرية واختلاف المصائر باختلاف القرارات ذاتها لكن بأسلوب أعمق، وهذا طبيعي لأن فيلمنا اليوم هو فيلم بوب كورن لا يخاطب وعي المشاهد ولا يحاول إثارة فكرة فلسفية بقدر ما يصنع المتعة البصرية والترفيهية.
الإيقاع الجارف
البعض يرجع هذا النزوع للحركة داخل الكادر إلى الشخصية الرئيسية، كنوع من المقاربة بين ما يحدث في الواقع الآن، وما حدث في رأسها، أي أن المخرج يستخدم الرتم للتعبير عن مكنون الشخصية ومدى فوضوية نسخها في الأكوان الأخرى، فالتغير السريع بين نسخ الشخصيات يحتاج إلى نسق متسارع، لكن كما قلنا سابقًا، سيسقط المشاهد وسط حشد الشخصيات ويشعر بالتشتت، لذلك سينقلب الإيقاع المرتفع للضد، وسيشوش على الخط الأصلي.
لكن في الحقيقة لم يكن هناك خط أصلي أصلًا، لم يكن هناك إلا بعض الحوارات الكوميدية والحبكة بسيطة وساذجة، إلا أن الإيقاع سحر، لن يستطيع المشاهد إغلاق الفيلم، لأن التحولات بين النسخ داخل الأكوان المختلفة تشتبك مع مناطق جديدة ومختلفة داخل القصة، حتى لو بشكل عرضي، أي أن كل نقطة لا تأخذ كفايتها في الحكي، بل يتم إيصالها بنقطة أخرى، وهكذا حتى نهاية الفيلم.
صحيح أن فكرة الفيلم ذاتها ذكية، تؤسس لعقدة معروفة ومفهومة للمشاهد، وهي عقدة الخطر الكوني الذي يهدد العالم، ومن هذا المنطلق تتحرك الحكاية نحو الأمام، ومن المؤكد أن هناك جهدًا مبذولًا في تناول التيمة بشكل مختلف وممتع، مع إقحام هائل لكم كبير من الأفكار، إنما هناك حد لكل شيء، في بعض الأحيان يصل الأمر لمرحلة الإرهاق الذهني والبصري، غزارة اللقطات والقطعات، التغير المستمر للديكور والأزياء في مجهود عظيم لمصمم الإنتاج والمونتير، الحركة الشديدة والإيقاع السريع، يحملون المشاهد نحو الفرجة، لكنهم لا يصنعون فيلمًا مميزًا، أي أنه بلا شك فيلم يمكن مشاهدته والاستمتاع به، لكنه ليس جيدًا كفاية ولا عميقًا كفاية، إنه مجموعة هائلة من كل شيء تم حشدها سريعًا وصنع فيلم من خلالها.
وهذا هو الفارق بين الفيلم المميز والفيلم الحركي التجاري، الاثنين يمكن مشاهدتهما، لكن التجاري – هذا الفيلم على وجه الخصوص – يفتقد للجذور الحقيقية للدراما أو التفاعل القصصي داخل الفيلم، كل شيء يبدو هامشيًا، فالفيلم هو منتج إبداعي كامل، لا يقتصر على الفكرة الجيدة، فإذا عالج المخرج الفكرة بطريقة سطحية سيضيع بريقها، حتى لو تم صنعها بطريقة زكية، صحيح أن الفيلم ليس سيئًا، لكنه ليس جيدًا أيضًا، فإيقاعه أشبه بالتيار، سيجرف معه كل هذه الأفكار الذكية والملهمة، لأنها لن تتحرك بحرية داخل النص، بل مضطرة للانجراف داخل التيار بلا وعي بهيكلة الأفكار ذاتها، لذا لا يمكن لأفكار داخل الفيلم أن تخلق عوالم منفصلة ومستقلة بذاتها إذا تم تأسيسها وتنميتها بشكل جيد.