يعيش النازحون والمهجرون السوريون في شمال البلاد على مضضٍ، وسط ترقب حَذِر، بعدما أعلنت تركيا عن مشروعها الذي يتضمن نقل مليون لاجئ سوري مقيم على أراضيها إلى المناطق الآمنة في ريفي حلب الشمالي والشرقي، ما يعني أن استقرار النازحين والمهجرين إلى الشمال السوري قد يكون لفترة زمنية تطيل رحلة التَّهجير عن دِّيارهم الواقعة تحت سيطرة النظام.
بدأت تصريحات المسؤولين الأتراك تأخذ صدىً محليًا واسعًا بين السوريين شمال البلاد، خاصةً بعدما عملت منظمات تركية وسورية على بناء تجمعات سكنية لقاطني المخيمات في ريف إدلب وريف حلب، ما دفع الأهالي المهجرين إلى طرح العديد من التساؤلات عن إمكانية العودة إلى منازلهم الخاضعة لسيطرة النظام و”قسد”، في مختلف المحافظات السورية التي لا يمكنهم العودة إليها لدواعي أمنية.
محمود سرجاوي، واحد من هؤلاء المهجرين الذين وصلوا إلى طرق مسدودة في رحلة تهجير طويلة لم تكن سهلةً عليه حتى اللحظة، يعيش الشاب مع أسرته في مدينة مارع بريف حلب الشمالي، بعدما هجر من مدينة معرة النعمان بريف إدلب الجنوبي، محاولًا التغلب على قسوة الحياة، التي جعلت منه مشردًا من منزل لآخر بعدما كان يملك منزلًا وأرضًا زراعية تعيل أسرته.
يقول خلال حديثه لـ”نون بوست”: “عندما خرجنا من منازلنا كنا نأمل في العودة إليها خلال مدة قصيرة، لكن على ما يبدو استقرارنا في ريف حلب سيصبح طويلًا ويمنعنا من العودة إلى منازلنا طالما أن المنطقة لن تشهد تغييرًا في السيطرة جغرافيًا”.
وأضاف “من المؤسف أن تتحول حياتنا إلى البحث عن مكان آمن ومنزل وعمل وطعام لأسرنا، نحن الأحق في العيش بمنازلنا التي يسيطر عليها نظام الأسد، نريد العودة إليها بأقرب فرصة، فالتهجير متعب وقاسٍ ولا يمكن تحمل ظروفه أكثر من ذلك”.
لا يجد السوريون المهجرون والنازحون، مبررًا حقيقيًا لبقائهم واستقرارهم في الشمال السوري، لمدة زمنية أطول، وهم يعيشون في ظروف سيئة
كان سرجاوي قد هجر مع عائلته خلال الربع الأول من عام 2020 من معرة النعمان بعد سيطرة نظام الأسد وروسيا على المنطقة، وبدأ رحلة التهجير من منطقة إلى أخرى، حتى وصل إلى ريف حلب الشمالي، حيث فقد أمل العودة القريبة التي كان ينتظرها إلى مدينة معرة النعمان.
ويدرك السوريون دور الجهود التركية المبذولة لخلق بيئة آمنة لهم في الشمال السوري، سواء لسكانه الأصليين أم المهجرين إليه، من خلال تأهيل البنية التحتية وعملها الدؤوب في مختلف المجالات لتكون مستقرة، لكن المنطقة لا تزال تعاني من العديد من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية.
لذلك، لا يجد السوريون المهجرون والنازحون، مبررًا حقيقيًا لبقائهم واستقرارهم في الشمال السوري، لمدة زمنية أطول، وهم يعيشون في ظروف سيئة، دون العودة إلى منازلهم التي هجرهم منها نظام الأسد برعاية دولية غير مباشرة، ضمن رحلة تهجير قسري سببت تغييرًا ديموغرافيًا في المجتمعات السورية.
احتجاجات.. ما مطالب المهجرين؟
دفعت التطورات الأخيرة بخصوص إنشاء منطقة آمنة، عددًا من المهجرين والنازحين في مدينة عفرين بريف حلب الشمالي، إلى إقامة وقفة احتجاجية في 14 مايو/أيار الحاليّ، عبروا من خلالها عن رفضهم لسياسة التوطين في الشمال السوري وفتح الجبهات ضد نظام الأسد لإعادتهم إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها.
قال المصور الصحفي رامي السيد، من دمشق ويقيم في منطقة عفرين بريف حلب الشمالي، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “لم نخرج من بلادنا طوعيًا، وإنما هجرنا قسريًا نحو الشمال السوري، بسبب ثباتنا على مواقفنا الثورية، لذلك لا ننسى بلادنا وأرضنا التي ولدنا وعشنا فيها طيلة سنوات عمرنا، ونتمنى العودة إليها في أقرب فرصة، لأن خيمة على بقايا بيوتنا المدمرة خير من كل ما نعيشه اليوم”.
وأضاف “الكتل السكنية الصغيرة التي يتم إنشاؤها في الشمال السوري، عبارة عن علب كبريت تكاد تشبه الخيمة، وأحيانًا كثيرة تكون الخيمة أكثر سعة منها، إضافة إلى سوء البناء، لذلك الكثير من النازحين يرفضون الإقامة فيها”.
وأوضح قائلًا: “نطمح بالعودة إلى منازلنا وأسرنا وعائلاتنا وذكرياتنا، وليس حلمنا أن تنتهي حياتنا في غرف مساحتها 30 مترًا بمخيم على أطراف مدينة أو بأحد الجبال بعيدًا عن الحياة، فمن الصعب جدًا أن تعيش نازحًا وابنك يولد نازحًا وتفاصيل الحياة كلها نزوح وتشرد، لذلك نرفض التوطين وكل ما يساهم في بقائنا في الشمال بعيدًا عن أرضنا، لأننا لم نثر على الظلم لنحصل على منزل مثل علبة كبريت، نحن نريد وطنًا دون نظام الأسد، نحصل فيه على حقنا كالبشر”.
ولا يختلف حال حسان محمد الذي يقيم في أعزاز بريف حلب الشمالي، هجر من مدينة تل رفعت الواقعة تحت سيطرة ميليشيا “قسد” قبل ست سنوات عندما استطاعت السيطرة عليها بغطاء جوي روسي، عن حال السوريين المهجرين شمالي البلاد، إذ يرغب الشاب في العودة إلى منزله ومدينته التي تشعره بالأمان، فالمنطقة الآمنة التي يتم الحديث عنها لا تحقق له العيش بسلام كونه لا يزال مهجرًا ومشردًا من منزله الذي ولد وترعرع فيه، حسب تعبيره لـ”نون بوست”.
قائلًا: “أرفض التوطين بكل أشكاله، لأننا نحن المهجرين والنازحين في الشمال السوري، لدينا أملاك وأرزاق باتت تحت سيطرة النظام وقسد، لا نستطيع العودة إليها دون تحريرها منهم، وبدلًا من إقامة منطقة آمنة في الشمال افتحوا الجبهات وأسقطوا نظام الأسد الذي تسبب بكل ما نعيشه اليوم، فبداية الحل تبدأ من إسقاط النظام”.
وأضاف “لا يمكنني العيش خارج أرضي مثل المشردين، هذه السنوات كانت قاسية علينا، ومهما قدم لنا من خدمات لاحقًا وكتل إسمنتية للسكن، فإنها لا تغني ولا تثمن من جوع، نحن نراهن على العودة كلما اشتد بنا الحال ولكن هيهات هيهات”.
يخشى محمد مثله مثل باقي السوريين المهجرين والنازحين من عدم العودة إلى منازلهم، بعدما بدأ الحديث عن إنشاء منطقة آمنة والعمل على تهيئة المنطقة في مختلف القطاعات، لأنها لن تكون بمثابة العيش في منزله الأساسي الذي يبعد عدة كيلومترات عن المدينة التي يقيم فيها في الوقت الحاليّ.
هل يرفض المهجرون إقامة منطقة آمنة؟
لا يرفض السوريون المهجرون والنازحون والسكان الأصليون في الشمال السوري فكرة إقامة مناطق آمنة لهم، وإنما يرغبون أن تكون آمنة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، لكنهم يرفضون سياسة التوطين التي ستسهم في تغيير ديموغرافي للتركيبة السكانية السورية، لأنهم يطمحون بعودة قريبة إلى منازلهم.
وتعد فكرة إنشاء منطقة آمنة بمناطق ريف حلب، التي طرحتها تركيا، خطرًا جديدًا يلاحقهم ويدفن أمل العودة إلى منازلهم التي باتت تحت سيطرة نظام الأسد، إذ يعتقد معظمهم أن إنشاء مناطق آمنة سيكون وفقًا لاتفاقيات دولية تمنع وجود أي عمليات عسكرية مستقبلية تجاه نظام الأسد.
لذلك أصبح معظم المهجرين يعيشون ضمن دوامة من المخاوف المتعاقبة بأن لا عودة قريبة إلى منازلهم، كونه سيصبح هناك منطقة آمنة، ما سيتطلب منهم تأسيس حياة جديدة وبيئة اجتماعية مختلفة تمامًا عن سابقاتها، دون العودة إلى منازلهم وأرزاقهم وأملاكهم وعقاراتهم التي تنهش بها ميليشيا النظام، لكن أكثر ما يخيفهم، فقدان أمل العودة.
وتعتبر المنطقة الآمنة التي يتم الحديث عنها هي مناطق: “درع الفرات” وعملية “غصن الزيتون” بريف حلب الشمالي والشرقي، وهما عمليتان عسكريتان خاضتهما تركيا الأولى ضد تنظيم “داعش” والثانية ضد ميليشيا “قسد”، إلى جانب قوات المعارضة السورية.
وبدأت تركيا بعد عملية السيطرة على المنطقتين تفعيل دور المؤسسات الحكومية الإدارية والخدمية، من خلال المجالس المحلية، وتأسيس بنية اقتصادية من خلال بناء المناطق الصناعية والتسهيلات التجارية، وعملت ضمن المجالات التعليمية عبر تأهيل المدارس، والأمنية عبر تفعيل دور جهاز الشرطة والأمن العام، والطبية من خلال بناء المستشفيات والنقاط الطبية.
لا تعد مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، آمنة، لأنها تشهد تفجيرات وقصف متقطع واختراقات أمنية من الطيران الروسي
باتت هذه الخطوات جدية خلال السنوات الماضية واستطاعت توفير بيئة معيشية آمنة نسبيًا للسوريين المقيمين في المنطقة، حتى أصبحت المنطقة ملاذًا للآلاف السوريين المهجرين من مختلف المناطق السورية، منهم يقيمون في المخيمات والتجمعات السكنية ومنهم يقيمون في المدن، لكنها لم تصل إلى المستوى المطلوب من الأمان الاقتصادي والاجتماعي.
لذلك لا تعد مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، آمنة، لأنها تشهد تفجيرات وقصف متقطع واختراقات أمنية من الطيران الروسي، فلا يأمن الأهالي عودتهم إلى منازلهم حال خرجوا منها، ما يدل على انعدام الأمن في المنطقة بحسب ما أوضح المصور الصحفي، رامي السيد.
وتابع خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تعتبر منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي، منطقة غير مستقرة وآمنة للإقامة فيها كونها تعاني من انعدام مقومات الحياة، فلا قانون واضح يحكم بين الناس، ولا سياسية واضحة تمثل السوريين، أما من الناحية الاقتصادية، فإن مستوى البطالة وصل إلى أكثر 80%، لأن المنطقة محاصرة ومعظم سكانها يرزحون تحت خط الفقر”.
نهايةً، رغم الجهود التركية المبذولة لإنشاء منطقة آمنة للسوريين في الشمال، فإن السوريون لا يريدون الاستقرار فيها، لأن هدفهم الأساسي ليس الحصول على منزل أو مكان للإقامة به، وإنما هو سقوط نظام الأسد والتخلص من الظلم والاستبداد الذي عايشوه خلال السنوات الماضية في مختلف الجغرافيا السورية.