“المستريح”.. مفهوم أطلقه المصريون على “المحتالين والنصابين” ممن يجمعون الأموال من الناس بهدف تشغيلها بمعدلات فوائد كبيرة مقارنة بالبنوك الرسمية، ثم يهربون بها بعد جمع أكبر قدر ممكن من ثروات الطامعين في الثراء السريع، وقد أطلق هذا المصطلح أول مرة في مصر عام 2015 حين تم الإيقاع بمحتال الصعيد الشهير وقتها الذي كانت شهرته “أحمد المستريح”، ليتحول هذا المسمى إلى لقب لكل من يقدم على هذا النوع من الجرائم.
الأيام القليلة الماضية شهدت سقوط العديد من “المستريحين” في بعض المحافظات، شمالًا وجنوبًا، ومعهم مئات الضحايا ممن وقعوا في شباك النصب، ليفقدوا “تحويشة عمرهم” بعدما ألقوها طواعية في حجر النصابين، فيما وصل الأمر إلى وفاة بعضهم جراء تلك الصدمة.
أخبار تناولتها الصحافة المصرية يومًا تلو الآخر، عن سقوط مستريح هنا وهناك، تحمل معها العديد من التساؤلات عن دوافع تلك الممارسات التي تحولت مع الوقت إلى ظاهرة مقلقة، لها الكثير من الدلالات عن العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة المالية من جانب، والسياسات الاقتصادية من جانب آخر، وهو ما يمكن الوقوف عليه عند قراءة خريطة أرقام الاقتصاد الموازي الذي بات يتفوق على الاقتصاد الرسمي، وهو المؤشر الذي يعكس فجوة كبيرة تنذر بمخاطر مستقبلية حادة.
ورغم أن حالات النصب هذه ليست بالجديدة، وهناك سوابق جمة وتحذيرات متتالية، فإن ذلك لم يردع الضحايا من السقوط في ذات الفخاخ مرة أخرى، وهو ما يشير إلى إصرار وإرادة مطلقة نحو المضي قدمًا في هذا الطريق محفوف المخاطر والتهديدات.. فما الدوافع إذًا للسير في هذا الاتجاه؟
ظاهرة مجتمعية
خلال الأسبوعين الماضيين تعددت الأخبار التي تناولت سقوط المستريحين بعد شكاوى عدة تقدم بها مواطنون بالنصب عليهم من البعض، كانت البداية من أسوان (جنوب) حيث سقوط 3 نصابين جمعوا أكثر من 455 مليون جنيه من أبناء الجنوب بدعوى استثمارها في الثروة الحيوانية والعقارات والسيارات.
وقبل أيام قليلة ألقت السلطات المصرية، القبض على آخرين، أبرزهم خالد السمان الشهير بـ”مستريح كرداسة” (محافظة الجيزة) المتهم بالنصب على 2320 شخصًا من أهالي كرداسة (بينهم 900 سيدة) في مبلغ 288 مليون جنيه، مقابل أرباح شهرية 2% على الـ100 ألف جنيه، الأمر الذي أدى إلى وفاة 13 شخصًا جراء الصدمة بحسب صحف محلية.
العام الماضي سقط خمسة أباطرة من المستريحين الكبار، نصبوا على المواطنين بجمع مبلغ 5 مليارات جنيه (322.5 مليون دولار) من مواطنين بهدف استثمارهم في العديد من المجالات
ومن الجيزة إلى الشرقية حيث سقوط مستريح جديد تمكن من جمع أكثر من 35 مليون جنيه من المواطنين، بدعوى استثمارها في مجال تجارة الزيوت وإدارة المقاهي مقابل حصولهم على أرباح سنوية كبيرة، ومنها إلى الغربية التي شهدت نصابين جدد جمعوا عشرات الملايين من أبناء المحافظة.
وفي العام الماضي سقط خمسة أباطرة من المستريحين الكبار، نصبوا على المواطنين بجمع مبلغ 5 مليارات جنيه (322.5 مليون دولار) من مواطنين بهدف استثمارهم في العديد من المجالات نظير فوائد شهرية للمودعين تتجاوز الـ20% (مستريح المنيا، مدرس، جمع 1.5 مليار جنيه، مستريح الشرقية، شيخ، جمع مليار جنيه، مستريح الغربية، مهندس زراعي، جمع 500 مليون جنيه، مستريح القليوبية، جواهرجي، جمع 30 مليون جنيه، مستريح سوهاج، وشهرته الدكتور، جمع 14 مليون جنيه).
أزمة ثقة واضحة
يذهب الكثير من المحللين والمتخصصين في علوم الاقتصاد والاجتماع إلى أن المعضلة الأبرز تكمن في أزمة ثقة بين الدولة والمواطن، فرغم الإغراءات التي تقدمها الحكومة لتشجيع الأفراد على إيداع أموالهم في البنوك من خلال رفع معدلات الفائدة بين الحين والآخر، هناك عزوف لدى البعض والميل نحو الاستثمار الخاص ولو عبر مسارات غير موثوقة.
الصحفي المصري عمر سمير، يؤكد في مقال له أن هناك أزمة ثقة حادة في الاقتصاد المصري بكل قطاعاته، استعرض ملامحها في تفوق الاقتصاد الموازي غير الرسمي على نظيره الرسمي، في عدد المشروعات وقدراتها التشغيلية، فضلًا عن حجم ثرواتها الفعلية في السوق، هذا بجانب “انسداد قنوات التمويل وأدوات الاستثمار في وجهها في مقابل فتحها بشدة أمام الكبار في السوق”.
هذا بخلاف فقدان ثقة كبار المستثمرين والكيانات المالية العالمية ومؤسسات الائتمان والتصنيف الدولية في الاقتصاد المصري وسياساته المالية المتخبطة، منوهًا أنه في ضوء تلك المؤشرات “لا يمكن أن يُلام مواطنٌ يحاول تحقيق ربح من تربية مواشيه، بل على الدولة أن تحميه من مثل هؤلاء المستريحين أولًا، ثم تتفهم واقعه وتحاكي تفكيره، وتوجد له أوعية استثمارية وادخارية تناسبه، لا أن تنهره هي وإعلامها ومحللو “السوشيال ميديا” فيها”.
وفي السياق ذاته كشف الخبير الاقتصادي عادل صبري، عن زيادة واضحة في مستوى التخوفات بالأسواق المصرية من الغرق في ركود عميق بسبب سياسات البنك المركزي، تعليقًا منه على قرار رفع سعر الفائدة بنسبة 2%، لمواجهة معدلات التضخم المرتفعة وتراجع الجنيه، منوهًا أن لتلك السياسات تداعياتها الكارثية على الاقتصاد أبرزها هروب الاستثمارات الأجنبية من البلاد، التي قدرت رسميًا بنحو 20 مليار دولار خرجت في الربع الأول من العام الحاليّ.
وفي مسار مختلف، يميل البعض إلى وجود أزمة وعي حقيقية لدى المواطن، فكيف لمئات المصريين أن يلقوا بأموالهم في حجر نصابين بزعم الحصول على فوائد تتجاوز ضعفي نسبتها في البنوك، دون وجود ضمانات لهم، أو سجل سابق من النجاحات لهولاء المستريحين، وإن ربط آخرون بين هذه المسألة وفقدان الثقة في الاقتصاد المصري الذي يلجأ في بعض الأحيان إلى إجراءت تضييقية مقلقة ربما تعرض أموال الناس للخطر كما حدث بتجميد أرصدة بعض رجال الأعمال واعتقالهم مثلما حدث مع صفوات ثابت ونجله وآخرين، وهي الممارسات التي أساءت لسمعة مصر في الخارج وكانت سببًا رئيسيًا في قلق المستثمرين الأجانب وتحويل استثماراتهم خارج البلاد.
آخرون قرأوا ظاهرة تزايد المستريحين ببعد ديني بحت، حيث فتاوى تحريم الفوائد البنكية بصفتها “ربا غير جائز شرعًا”، ما دفع الراغبين في استثمار أموالهم إلى البحث عن منافذ شرعية، عبر تشغيلها في استثمارات ومشروعات، وهو الأمر الذي يفسر موجة الهجوم الحاليّة على التيار السلفي تحديدًا بوصفه أحد أسباب تفشي هذا الداء.
السياسات النقدية.. المتهم الأول
تصدرت السياسات النقدية قائمة الأسباب الرئيسية وراء انتشار ظاهرة المستريح في مصر، إذ كانت عامل طرد كبير للمواطنين من إيداع أموالهم في البنوك الرسمية إلى استثمارها في المشروعات غير المضمونة، حسبما ذهب المتخصصون في البنوك والاقتصاد بصفة عامة.
المتخصصة في شؤون الاقتصاد، بسنت فهمي، في تصريحات صحفية سابقة لها، حمّلت البنك المركزي المصري وسياساته النقدية لا سيما المتعلقة بالتأرجح في أسعار الفائدة، صعودًا وهبوطًا، مسؤولية هروب المودعين في البنوك بمدخراتهم إلى قنوات أخرى تدرّ أرباحًا أكبر.
وأوضحت الباحثة المصرية أن الشريحة الكبرى من المصريين من أصحاب المعاشات والمعيلات من النساء وبعض المواطنين من متوسطي الدخول يميلون أكثر لوضع أموالهم في البنوك للحصول على فوائد تعينهم على مستلزمات الحياة، غير أن التلاعب في نسب تلك الفوائد أثار قلقهم وأشعرهم بحالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، ما دفع بعضهم لسحب أمواله من البنوك واستثمارها في مجالات أكثر ربحية وفائدة.
لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة ظاهرة المستريح وغيرها من الظواهر المشابهة بعيدًا عن مظلة “الاقتصاد الموازي” الذي يتنامى بصورة تفوق الاقتصاد الرسمي، إذ تجاوز حجمه الـ137 مليار دولار، بما يمثل قرابة 30% من إجمالي الناتج القومي
يذكر أنه منذ قرار تعويم العملة المحلية (الجنيه) عام 2016 تحركت أسعار الفائدة في مصر أكثر من 13 مرة (ارتفعت أول مرة من 11.75% قبل التعويم إلى 15.75% بعده مباشرة، وفي مايو/أيار 2017 ارتفعت لـ16.75% ثم بعد شهرين فقط إلى 19.75% في يوليو/تموز، لكنها تراجعت بنسبة 1% فقط مع بداية عام 2018، لتواصل التراجع في 2019 كذلك، لتصل بنهايته إلى 12.25 و13.25% على الإيداع والخصم، ثم ارتفعت بقيمة 4% خلال 2020، لتعاود الارتفاع مجددًا قبل 3 أيام بنسبة 2%).
ونتيجة طبيعية لهذا التأرجح زادت معدلات التضخم والأسعار بصورة جنونية، ما أجبر الكثير من أصحاب رؤوس الأموال إلى البحث عن مصادر استثمارية بعوائد أكبر من البنوك الرسمية، وهنا ظهر المستريح كحل بديل وسحري لتلبية طموحات المواطنين، فنصب فخاخه التي سقط فيها المصريون بسهولة ويسر، ليجدوا “شقا عمرهم” في مهب الريح.
ما المخرج؟
يزداد المأزق الاقتصادي المصري تعقيدًا يومًا تلو الآخر، رغم المؤشرات الإيجابية أحيانًا الصادرة عن بعض المؤسسات الدولية التي في الغالب تكون بعيدة عن الواقع المعاش لمعظم المصريين، وتتسع الهوة بين الأزمة والحل عامًا بعد عام في ظل التمسك بالسياسات ذاتها التي ثبت فشلها على مدار سنوات طويلة مضت.
وهنا يرى الخبير الاقتصادي المصري إبراهيم نوار أنه لا أحد يملك وصفة سحرية للخروج من هذا الوضع الصعب، خاصة في ظل إطالة أمد الأزمة بسبب التزامات الدين التي تلتهم الجزء الأكبر من موازنة الدولة ذات الموارد المحدودة والإنفاق الكبير، لكن في الوقت ذاته إن أرادت الدولة ترميم بعض تلك الشروخات فعليها أولًا إعادة الثقة المفقودة بين الناس والحكومة، من خلال بعض الإستراتيجيات أبرزها: التوقف عن مزاحمة القطاع الخاص، كف الحكومة عن اعتبار نفسها بديلًا عن السوق، توقفها عن إدارة الاقتصاد بالأوامر المباشرة، إعلاء قيمة القانون على سلطة الأفراد ونفوذهم، ضرورة إشعار المواطن بكرامته في وطنه.
لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة ظاهرة المستريح وغيرها من الظواهر المشابهة بعيدًا عن مظلة “الاقتصاد الموازي” الذي يتنامى بصورة تفوق الاقتصاد الرسمي، إذ تجاوز حجمه الـ137 مليار دولار، بما يمثل قرابة 30% من إجمالي الناتج القومي، وتمثل منشآته 53% من إجمالي منشآت الدولة المقدرة بـ4 ملايين منشأة، وفقًا لموازنة 2019/2020 التي بلغ فيها إجمالي الناتج القومي نحو 433 مليار دولار.
وقد قدر خبراء حجم هذا الاقتصاد الموازي بـ395 مليار دولار أي ما يعادل 2.6 تريليون جنيه وبنسبة تصل إلى 50% من إجمالى الاقتصاد، فيما تشير الأرقام إلى أن حجم المبالغ المستثمرة فى هذا القطاع بصفة عامة تبلغ 69.3 مليار جنيه (4.4 مليار دولار) تمثل نحو 5.1% من إجمالي رأس المال الذي يضخ في النشاطات الاقتصادية بمصر.
وفي المجمل.. فإن السياسات الاقتصادية غير الجيدة تتحول مع مرور الوقت إلى بيئة ملائمة لانتشار مثل تلك الظواهر، وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه، فلن يتوقف الأمر عند حاجز “المستريح” فقط، فربما يزخر المجتمع بعشرات النماذج المشابهة في المضمون وإن اختلفت في الشكل، ليبقى المواطن الضحية الكبرى لمثل تلك الأوضاع الصعبة التي تستنزف منه حاضره ومستقبله.