بعيدا عن منطق النمذجة التامة لمفهوم الثورة وحصرها في نمط محدد أو نموذج نهائي ينبغي أن نقيس عليه أي حراك شعبي فإنه من المنطقي أن نقر بوجود نمط معين للحراك الشعبي ليتحول إلى ثورة فعلية بوصفها تغييرا لواقع قائم نحو أسلوب جديد للحكم وصعود أطراف مهمشة إلى مواقع السلطة المختلفة وخلق واقع جديد ” ولن يكون موقفنا الحديث عن ثورة إلا إذا كانت الجدة مرتبطة بفكرة الحرية ، و أن هذا يعني بالطبع أن الثورات هي أكثر من تمردات ناجحة وليس لدينا ما يبرر تسمية كل انقلاب يجري بأنه ثورة ولا أن نتلمس ثورة في كل حرب أهلية تجري ” ( حنة آرنت ) وهو ما يعني أن السياقات الثورية ليست ثابتة ولا دائمة التدفق بل يمكن أن تعاني من حالات انحراف و/ أو حرف عن مساراتها الأولى وهو ما يسميه علم الاجتماع السياسي بالثورة المضادة وهو تعبير صاغه كوندورسيه أثناء الثورة الفرنسية بوصفها ظاهرة ظلت دائما مرتبطة بالثورة كرد الفعل المرتبط بالفعل .
فبعد نجاح ثورة معينة في أطوارها الأولى في الإطاحة بنظام حكم أو تغيير رأس الهرم في الدولة القائمة وبداية الانتقال نحو التأسيس لكيان سياسي سلطوي جديد تنشأ أخطاء وتباين في التقييمات بين الثوريين أنفسهم وهي فترة يكثر فيها اضطراب التصورات والخلط بين الأوراق وعدم وضوح الرؤية ليس فقط في مجال الممارسات والأفعال والتصريحات ولكن أيضا حول تعريف من هم أصحاب هذه الثورة المضادة فقد يري فيهم البعض أنهم أصحاب المصالح الذين كان يعبر عن مصالحهم ويحميها النظام السابق والذين كانوا يجدون فيه أنفسهم دون مراعاة لما يلحقونه من الأضرار بفئات وشرائح أخري في المجتمع وهي في العادة غالبا ما تكون تلك الشرائح والمجموعات التي قامت بالثورة.. ولكن الأمر لايقتصر عند ذلك الحد بل إن القائمين بالثورة المضادة قد يكونون ممن قاموا بهذه الثورة فهم قد يختلفون علي بعض المواقف وليس كلها أي بعض الممارسات والتصرفات وفي هذه الحالة قد يتحولون إلى البحث عن تحالفات من داخل القوى والمجموعات التي أسقطتها الثورة ، غير أن ما يمكن التأكيد عليه هو أن الثورة المضادة هي إحدى المراحل في الثورة وأنها لابد و أن تأتي أو تحدث مع أي ثورة ويعرف الدكتور رفيق حبيب هذه الثورة المضادة بأنها ” الحركة على الأرض، سواء بالتظاهر أو بإثارة الفوضى أو بإثارة الشغب، من أجل اختراق الثورة، وإعادة النظام السابق جزئيا أو كليا، أو إعادته بصورة جديدة محسنة، ولكن بنفس شبكات المصالح، وبنفس السياسات. وكل عمل يعطي غطاءً سياسيا أو إعلاميا، لشبكة مصالح النظام السابق، حتى يغير مسار الثورة، ليعيد الطبقة الحاكمة زمن النظام السابق،.. ” .
وتأسيسا على هذه التصورات النظرية يمكن توصيف واقع الثورات المضادة في المنطقة العربية ( وتحديدا في مصر وتونس ) على النحو التالي سواء من حيث القائمين بها أو الداعمين لها أو الذين سمحوا بتغولها نتيجة لسوء إدارتهم للمرحلة الانتقالية.
الثورة المضادة: قوى الداخل
بعد سقوط أنظمة الحكم دخل أنصار الحكم السابق في حالة تقوقع والبحث عن سبل المحافظة على مجرد البقاء وفي ظل أن الثورات في مصر وتونس لم تأخذ منحى دموي تمكن بقايا النظام ( من سياسيين ومتنفذين ) من إعادة التموقع في المشهد بل والمساهمة في إدارة جزء من المرحلة الانتقالية ( السبسي في تونس والمجلس العسكري في مصر ) وفي مرحلة لاحقة من خلال إعادة بناء تنظيمات سياسية بمسميات جديدة مختلفة عن الحزب الحاكم سابقا مع الحفاظ على ذات الأهداف والأساليب والوسائل ( ظهور أحزاب متعددة خرجت من رحم الأحزاب الحاكمة السابقة ( التجمع الدستوري بتونس والحزب الوطني بمصر) أو بقاء الجيش بوصفه بيضة القبان في المشهد السياسي المصري رغم أن قيادته شكلت وطيلة الستين سنة الماضية العمود الفقري لنظام الاستبداد المنهار .
تمكنت الثورة المضادة من ناحية ثانية من اجتذاب قوى كانت محسوبة على الحراك الثوري ( خاصة بعض قوى اليسار ممثلة في الجبهة الشعبية في تونس وقوى جبهة الإنقاذ في مصر ) وكان دافع هؤلاء هو المصلحة الحزبية الضيقة بالإضافة إلى منطق الخصومة الإيديولوجية مع التيار الإسلامي الفائز في الاستحقاق الانتخابي ما بعد الثورة وهو ما يفسر اندفاع بعض القوى الثورية سابقا إلى احتضان قوى كانت تعتبرها مناوئة للثورة ولم تكن الغاية سوى الإطاحة بالخصم الإسلامي وبأي أسلوب كان بما فيه استبعاد الحلول الديمقراطية التي كانت تؤمن بها في لحظة ما من تاريخ المسار الثوري لتصل إلى حد تبرير الانقلابات والعنف الدموي القاتل ضد أطراف سياسية وصلت للحكم حديثا المهم هو الإطاحة بها ومن ثم إقصاؤها من المشهد السياسي تماما إن لزم الأمر .
الثورة المضادة: القوى الخارجية
شكل سقوط بن علي في تونس ومن بعده حسني مبارك في مصر صدمة إستراتيجية فعلية للقوى الدولية المتحكمة بمصائر المنطقة منذ عقود وهو أمر بدا واضحا في المواقف المرتبكة التي أبدتها هذه القوى المتنفذة حيث لم تخف وزيرة خارجية فرنسا آنذاك ( ميشال آليو ماري ) رغبتها في دعم نظام المخلوع بتونس وأعلنت بوضوح يوم 12 جانفي 2014 عن استعدادها لإرسال قوات أمنية لدعم نظامه في مواجهة المتظاهرين وهو قرار لم يحل دونه إلا فرار بن علي بعد يومين فحسب من التصريح أما في مصر فقد كان مبارك ” كنزا استراتيجيا ” للكيان الصهيوني واعتبر سقوطه لحظة مؤثرة ستشكل خطرا على أمنه الاستراتيجي بل وحتى أفق بقائه المستقبلي ومن هنا عمدت هذه الدول الكبرى إلى الدفع ببعض القوى المحلية من اجل وقف أي محاولة لتغيير بنية التحالفات في المنطقة وكلنا نذكر الموقف الفرنسي الحاد من تصريح وزير الخارجية التونسي السابق رفيق عبد السلام من التدخل الفرنسي بمالي وهو موقف جعل القوى الموالية لفرنسا تصر على ضرورة مغادرته لمنصبه ، أما في مصر فقد كان لموقف الرئيس محمد مرسي من العدوان الصهيوني دورا أساسيا في تقرير مصيره اللاحق حيث ما كان لأمريكا أن تقبل بوجود قيادة مصرية تحتضن حكومة حماس في غزة وتدعمها في مواجهة خرج منها الكيان الصهيوني خاسرا ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني.
ومن هنا بدأ تحريك أدوات إقليمية لضرب النسق الثوري في المنطقة العربية حيث كان من الطبيعي أن ينزعج عسكر الجزائر من ديمقراطية ناشئة في تونس أوصلت الإسلاميين للسلطة وهو الذي انقلب عليهم في بلاده سنة 1992 فاتحا المجال أمام سنوات دامية غاية في الشناعة ، وهو الأمر ذاته الذي انطلقت منه دول مثل السعودية والإمارات التي رأت في الثورات العربية المتتالية تهديدا فعليا لوجودها وكان أن سخرت كل إمكاناتها المادية ونفوذها لضرب هذه الثورات ومنعها من تحقيق أي نجاح يذكر .. فقد كان مخلوع تونس مثلا مقربا من الأمير نايف بن عبد العزيز وزير داخلية السعودية الهالك والذي اتخذ من العاصمة التونسية مقرا لمجلس وزراء الداخلية العرب أما بالنسبة لمصر فقد كانت مصالح اللوبي العسكري المتنفذ متداخلة مع شبكة المصالح السعودية والتي بدورها تشكل جزء من منظومة أشمل هي شبكة المصالح الأمريكية ـ الصهيونية .ومن هنا ندرك حجم الترحيب الذي لاقاه قادة الانقلاب العسكري في مصر خاصة من طرف المملكة السعودية والكيان الصهيوني فقد حقق لهما خطوة مهمة نحو عودة مصر لدورها الإقليمي المعتاد في خدمة الأجندة الأمريكية ويورد الكاتب الماركسي المصري سامح نجيب في مقال له بعنوان “الثورة المضادة وأساطير المؤامرات الخارجية ” ( نشره على الموقع الالكتروني للاشتراكيين الثوريين ) جملة المواقف السعودية والصهيونية في دعم انقلاب عبد الفتاح السيسي معلقا بالقول ” .. فأهم مؤيدي السيسي وحملته الدموية هم المملكة السعودية والإمارات من جانب وإسرائيل من الجانب الآخر. أي الركائز الأساسية للثورة المضادة في العالم العربي عبر العقود الست الماضية وأكبر مؤيدي نظام حكم مبارك ” مبديا استغرابه ليس من هذا الدعم الصهيوني ـ السعودي / الإماراتي للثورة المضادة وإنما من المواقف المضللة لبعض القوى المحسوبة على اليسار أو القوميين ممن هللوا للانقلاب وتسويقهم له على انه ضربة للامبريالية وعملائها بالمنطقة وليضيف ساخرا ” .. ملك السعودية، مركز الرجعية والاستبداد وواحة الوهابية والتطرف الإسلامي كان أول المهنئين بالانقلاب وخصص خطاباً لمدح السيسي ودعمه في حربه على الإرهاب ووعده بمليارات لا تحصى. والغريب ليس موقف الملك ولا إشادة السيسي بموقفه، الغريب هو رد فعل القوى السياسية التي كانت تحسب على المعارضة بل على الثورة. أشادت حركة تمرّد على سبيل المثال، بالخطاب الذي “احترم شرعية مصر وإرادة شعبها”، مشيرة إلى أنها تكنّ التحية العميقة للملك عبد الله. وأشاد حمدين صباحي السياسي الناصري وزعيم التيار الشعبي بموقف العاهل السعودي الذي أكد فيه دعمه لإجراءات السلطة المصرية ضد المتظاهرين. وقال صباحي في تغريدة على حسابه الخاص في تويتر “تحية لموقف العاهل السعودي والموقف الإماراتي الداعم لمصر ” ..
وهي ذات المواقف التي تكررت في تونس وبصورة أشبه بالنقل الكربوني للمشهد المصري حيث لم يكن خافيا الدعم السعودي والإماراتي وحتى الصهيوني للمعارضة ودفعها للانقلاب على الترويكا الحاكمة وإذا كانت محاولة الانقلاب العسكري لم تجد سبيلا للتحقق في تونس لأسباب تتعلق ببنية المؤسسة العسكرية ذاتها فإن التحرك من اجل القيام بانقلاب سياسي ودفع البلاد إلى حافة الفوضى والعنف تجري بصورة حثيثة ومتواصلة .
الثورة المضادة: دور الإعلام
مثلما شكل الإعلام البديل ( انترنت ، فيسبوك ‘ تويتر .. فضائيات حرة ) منبرا مهما وعاملا أساسيا في إنجاح الحراك الشعبي في بداياته وتعرية أنظمة الاستبداد وضرب مصداقية الإعلام الرسمي فقد كان للإعلام المضاد دوره المركزي في التحريض على الثورة المضادة وهو أمر تجلى في التسويق للغة الإحباط حيث سرعان ما تتراكم المشاكل على الثورات الناشئة وتتراجع الآمال الطوباوية التي بناها قطاع واسع من الناس في أذهانهم عن حالة الرخاء القادمة وبما أن وقائع الثورات تكشف انه ” مثلما يجلب الفقر الثورة فإن الثورة تجلب الفقر ” كما يقول روسو فإن الثورة المضادة تستفيد من الوضع الناشئ للتحريض وخلق حالة من ” النوستالجيا ” المبالغ فيها للنظام المنهار وهو دور لعبته قنوات فضائية وصحف ومجلات استغلت جو الحرية السائد وغياب محاسبة حقيقية سواء في تونس أو في مصر لتدعو علانية لإسقاط الحكام الجدد في لحظة أولى والإعداد لعودة بنية النظام القديم بوجوه جديدة ـ قديمة .. وبالفعل تمكن إعلام الثورة المضادة من تزييف الوعي العام بصورة قوية وكاد ينجح في إلغاء أي شعور بضرورة بناء تجربة سياسية جديدة لولا وجود الإعلام البديل الذي شكل فرصة لنشطاء ومواطنين لتبادل الآراء وصناعة رأي عام مضاد سمح بتواصل جذوة الحرية في النفوس سواء عبر تنظيم حراك شعبي واسع في الشارع المصري ضدا للانقلاب أو في توعية قطاع عريض من الناس بتونس من خطورة التمشي الذي تقود إليه البلاد قوى الثورة المضادة بمختلف تشكيلاتها.
ويبقى أخيرا أن نشير أن مجمل هذه القراءة هي محاولة لتلمس أهم ملامح التحرك المضاد لثورات لم تجد توازنها إلى اليوم ولم تحقق نجاحا كبيرا ولكنها لازالت رغم كل شيء متواصلة وما يؤسف له أن قوى سياسية ترفع شعارات ثورية تخندقت في مواقع الثورة المضادة من حيث الممارسة والواقع وإن ظلت تجتر شعارات قديمة تناقض حتى المنطق الداخلي للإيديولوجيات التي تتبناها شكلا ومضمونا وليس لنا أن نختم هنا إلا بما قاله ماركس يوما في مطلع كتابه “الثامن عشر من برومير إلى لويس بونابرت” (1851)، من أن “تقاليد جميع الأجيال الغابرة تثقل كالكابوس على أدمغة الأحياء، وحتى عندما يكونون مشغولين بتحويل أنفسهم والأشياء من حولهم، وخلق شيء ما جديد كلياً، فإنهم تحديداً في هذه الحقبات من الأزمة الثورية يستعيدون بخشية أرواح الماضي، وأسماءها وشعاراتها ولباسها، للظهور على المسرح الجديد للتاريخ تحت هذا التنكر المحترم وهذه اللغة المستعارة” ..
فليس كل من رفع شعار الثورية هو ثوري وليس من اجتر ماضيا ثوريا هو بالضرورة من يدفع بالحراك الثوري إلى مداه الأقصى فكثير من الشعارات والأسماء ليست إلا صيغة من صيغ الخداع والتمويه قد تخدع بعض جماهير الشعب لبعض الوقت ولكنها سرعان ما تنهار ككل الأوهام والأكاذيب .