عند قيام الثورات العربية كان الرأي العام مؤيدًا لها، مشيدًا بشجاعتها ومتفائلاً بنتيجتها، وهذا رد فعل طبيعي، فبعد أن عاش الشعب العربي في ظل الأنظمة الدكتاتورية أكثر من 30 سنة لا عجب أن لحظة كسر الصمت التي أدت إلى الربيع العربي حظيت باهتمام بالغ من العالم أجمع، بعد مرور ما يقارب الأربع سنوات على الربيع العربي حان وقت مراجعة الأحداث التي حصلت والنظر في نتائجها التي نشهدها اليوم.
تونس:
كانت تونس أول دولة عربية تطالب بإسقاط النظام في سلسلة الربيع العربي، والتي أشعلت شرارة الثورة لتنتقل إلى دول العالم العربي، المظاهرات التي طالبت بإسقاط النظام قوبلت بقمع من الجيش، ومع أن الرئيس بن علي قدم تصحيحات طفيفة، إلا أن الشعب كان مصرًا في كلمته لإسقاط النظام، ومع تنحي “زين العابدين بن علي” عن الرئاسة، تم إجراء انتخابات برلمانية فازت فيها حركة النهضة الإسلامية، ورغم المحاولات لتصحيح الوضع السياسي والتي بدت ناجحة، إلا أن هذه المحاولات تعرضت إلى تحديات حالت دون نجاحها، من هذه التحديات المظاهرات التي عارضت حركة النهضة، والاغتيالات السياسية التي سببت زعزعة في الوسط السياسي، هذا بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي مع ارتفاع الأسعار ونسبة البطالة.
تونس بعد الثورة تواجه تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، مع ذلك، تعد تونس أكثر استقرارًا من مناطق أخرى في العالم العربي، استطاعت تونس أن تحقق توافق سياسي، بعكس الدول الأخرى التي انتهت بالدخول في حرب أهلية أو عودة إلى النظام القديم، ومع قرب الانتخابات الرئيسية، تونس لديها الفرصة لتثبت أنها في الطريق لتصحيح الأوضاع، إلا أن وجود مرشح رئاسي ينتمي للنظام القديم قد يكون مؤشرًا أن النظام لم ينته ويحاول العودة من جديد.
مصر:
بعد نجاح الثورة المصرية في تنحية “حسني مبارك” وتولي الجيش للسلطة، تم إجراء انتخابات رئاسية بعد مضي سنة تحت حكم الجيش الذي رفض القيام بالانتخابات بعد سقوط مبارك مباشرة، اُنتخب “محمد مرسي” من جماعة الإخوان المسلمين للرئاسة وبعد أقل من سنة خرج الشعب المصري في ثورة أخرى للمطالبة بتنحي الرئيس مرسي، تدخل الجيش لعزل الرئيس مرسي من الرئاسة في انقلاب عسكري وكان من نتائج هذا الانقلاب أن فرض القائد العام للقوات المسلحة “عبد الفتاح السيسي” حكومة مؤقتة تحت رئاسة “عدلي منصور”، كما ألغى الدستور الذي كان موصوفًا بأنه “إسلامي”، كان الانقلاب ما أشعل شرارة الانقسام بين المؤيدين والمعارضين للرئيس مرسي، وما حصل بعد ذلك من أحداث دليل على أنه وبالرغم من سقوط مبارك إلا أن النظام ما زال موجودًا وعاد ليثبت وجوده بهذا الانقلاب وما تبعه من قمع للمتظاهرين المعارضين للانقلاب، وبعد اعتصام عدد كبير من مؤيدي الرئيس المعزول مرسي تحركت قوات الجيش والشرطة لفض الاعتصامات وخلف ذلك ما لا يقل عن 817 قتيل حسب منظمة هيومان رايتس واتش في ما يعرف الآن بمجزرة رابعة العدوية، كما نشأت اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين لحكم الجيش في الذكرى الثالثة للثورة؛ ما أدى إلى مقتل 45 شخصًا على الأقل في ظل هذه الاشتباكات.
وبعد مضي سنتين فقط على الثورة المصرية، عاد حكم الجيش مرة أخرى إلى الساحة مع انتخاب “عبد الفتاح السيسي” للرئاسة.
وتشهد مصر منذ الانقلاب العسكري تضييق الخناق على الإعلام ومنع أي وسيلة إعلامية تنتقد أو تشوه صورة النظام والاعتقال العشوائي لأي شخص معارض، وخصوصًا في الجامعات، فمنذ الانقلاب العسكري تم اعتقال 2,190 طالبًا بينما قتل 211 طالبًا، والواضح أن النظام يريد ضمان عدم ظهور أي شكل من أشكال المعارضة التي قد تهدد وجوده.
ليبيا:
بداية مشابهة لما حصل في تونس ومصر، اندلعت المظاهرات في أنحاء ليبيا التي أدت إلى اشتباكات بين الثوار وقوات الأمن، مع رفض معمر القذافي التنحي عن الرئاسة، تدخل حلف الناتو بغارات جوية، فيما ادعي أنه مساعدة للثوار على إسقاط النظام؛ مما زاد من حدة الأزمة ونتج عنه ضحايا مدنيين.
ومع أنه تم القبض على القذافي وقتله، إلا أن ذلك لم يخفف من الأزمة بل تبعه تفاقم للمشاكل منها ظهور ميليشيات عدة مازالت جزء من الأزمة حتى اليوم، وخلافات بين المؤيدين للرئيس السابق القذافي فيما يعرف بالمقاومة الخضراء والمعارضين وبين القبائل المتعددة، هذا بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية التي لا يبدو أنها على وشك أن تنتهي، وحتى مع تشكيل حكومة جديدة إلا أن حركة الثوار لم تهدأ، وكون ليبيا دولة نفطية يزيد من حدة الموقف بوجود أطراف عدة في الساحة يسعون إلى السلطة.
فقد السيطرة في ليبيا والنزاعات بين الحكومة الحالية والمقاومة الخضراء والميليشيات بالإضافة إلى الثوار؛ أشعلت حرب أهلية متصاعدة، هذه الحرب تدور بشكل أساسي بين الحكومة الحالية وجماعة فجر ليبيا الإسلامية التي تسعى إلى السلطة والتي تمكنت من إدخال طرابلس تحت سلطتها، ومع تدخل قطر ومصر والإمارات العربية المتحدة في النزاع، ما يخشى الآن هو تحول الحرب الأهلية إلى حرب دولية بين أطراف النزاع.
سوريا:
منذ أن بدأت المظاهرات في سوريا قُمعت وبشدة على يد النظام، في البداية بإطلاق النار على المتظاهرين ثم بتدخل قوات الجيش لردع المظاهرات، ومع انتشار المظاهرات، لم يكن للنظام ردة فعل سوى إرسال قوات الجيش للقضاء على المتظاهرين؛ ما أدى إلى تشكيل قوات معارضة وانشقاقات داخل الجيش لمحاربة النظام فيما عرف بالجيش الحر، وفي محاولات خارجية لحل الأزمة فُرضت عقوبات على النظام السوري ولكن مع الدعم القوي من روسيا والصين لنظام بشار الأسد لم تفلح هذه المحاولات في تخفيف الأزمة، وتطور النزاع ليشمل أطراف خارجية أخرى منها تركيا بعد قصف قوات النظام طائرة تركية داخل الحدود السورية، وإسرائيل التي قامت بقصف عدة أهداف تابعة للنظام.
وفي أخر التطورات، انضم ما يعرف بالدولة الإسلامية إلى أطراف الأزمة السورية، حيث قام هذا التنظيم بالاستيلاء على عدة مدن سورية أبرزها مدينة حلب، ونتج عن ذلك تدخل الولايات المتحدة الأمريكية للقضاء على الدولة الإسلامية بمساعدة الأردن والبحرين وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
ما بدأ بمظاهرات سلمية انتهى بحرب أهلية تولدت منها حروب طائفية ونزاعات سياسية، فمنذ بداية الثورة قُتل أكثر من 100,000 وشرد ما يقارب المليونين والنصف، ومع انضمام أطراف أخرى للنزاع تحول الوضع إلى شبكة معقدة من نظام قاتل ومؤيدين سياسيين وجماعات طائفية وشعب لم يعرف سوى الحرب لأكثر من 3 سنوات.
وهكذا حال الدول العربية بعد الربيع العربي، ما بين دول عاد فيها النظام القديم إلى الحكم ودول قمعت ثورتها على يد طغاتها، ولا يقصد في هذا المقال التقليل من الشعوب التي ضحت من أجل حريتها، أو انتقاد ثورات العالم العربي وتسخيفها، بل النظر إلى الواقع الذي نعيشه واقتراح حل يحقن الدماء ولا يجر إلى مصائب أكبر تضاعف الفساد فتصبح عملية الإصلاح أكثر صعوبة.
ما نتج عن الربيع العربي من أنظمة أسوأ من تلك التي تم إساقطها وبروز انشقاقات ونزاعات بين أبناء الشعب الواحد لم تكن موجودة قبل الثورة يدفعنا إلى التفكير، هل حقا كانت الثورات الحل الوحيد لإنهاء الأنظمة العربية الدكتاتورية؟ هل كان هناك حل بديل لا يؤدي إلى الوقوع في الفتن والنزاعات التي أدت بدورها إلى القتل؟
في البداية يجب علينا أن ندرك أن النظام الدكتاتوري ينتج عن فساد، ليس فقط في السياسة، بل في المجتمع أيضًا، ومن المهم أيضًا أن ندرك أن الظلم والقمع الذي تعيشه بعض الشعوب لم يكن مسببه شخص واحد فقط، والذي هو الرئيس، بل كان سببه النظام السياسي بأكمله، فإسقاط الرئيس وانتخاب رئيس آخر ليس كفيلاً بإنهاء الأزمة، وذلك لأن النظام الدكتاتوري الذي ثار ضده الشعب لم يولد في يوم وليلة بل استغرق سنوات عديدة ليتشكل وينتشر ليتم ترسيخه في المجتمع بأكمله، ومع أن الشعب نادى بإسقاط النظام إلا أنه لم يسقط من هذا النظام سوى الرئيس؛ ولذلك نرى أن النظام الذي ظن الشعب أنه شهد نهايته عاد حاملاً معه المزيد من الفساد.
لذلك، الحل البديل للثورة هو عملية لا تستغرق عدة أيام أو أسابيع أو حتى السنة، بل هي عملية مستمرة لا تقل عن عدد السنوات التي تولد فيها النظام الفاسد، هذه العملية يجب أن تقضي على الأيديولوجية التي أدت إلى الفساد بسلمية وبعدم مقابلة الفساد بالفوضى، الحل الذي نتحدث عنه هنا هو مرحلة تحولية تعمل على إزالة الفساد من الداخل إلى الخارج وليس العكس، بالبدء أولاً بالمؤسسات الغير سياسية مثل التعليم والقضاء والمجال الصحي، والسبب في ذلك هو أن وجود نظام فاسد يعني أن الفساد قد وصل إلى هذه المؤسسات الغير سياسية وتوغل في المجتمع ككل فأصبح المجتمع جزءًا منه.
ولا شك أن هذه العملية ستستغرق سنوات وربما أجيال حتى يظهر حصادها، ولكن ما تم إفساده على مدى أجيال عديدة لا يمكن إصلاحه بثورة تستغرق أسابيع أو شهور وتنتهي بإسقاط شخص واحد من منصة الفساد، مفعول الثورة ينتهي بانتهائها، أما الإصلاح المستمر على يد شعب واع لا يرضى العيش في الفساد والظلم فيبقى أثره، وكما قال الله تعالى في كتابه {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.