لم يجد القيصر الروسي الشهير، إيفان الرابع (1530-1584) المعروف باسم إيفان الرهيب، أمير موسكو العظيم وقيصر عموم روسيا الأول، أمامه سوى الفرار بحياته، تاركًا عشرات الآلاف من جنوده يواجهون مصيرهم المجهول، بعدما شبّت النيران في كافة أنحاء موسكو، فأحرقت المنازل والأسواق والضواحي والقصر، وسقطت العاصمة الأقوى حينها على أيدي العثمانيين في 6 ساعات.
لم يكن يتخيّل أحد أن المدينة المحصَّنة المحمية تحت لواء الجنرال الأعظم، صاحب الفتوحات الكبيرة التي وسّعت رقعة الإمبراطورية الروسية شرقًا وغربًا، لن تصمد سوى سويعات قليلة أمام فرسان خانية تتار القرم والجيش العثماني، لتسقط في 24 مايو/ أيار 1571.
وقد مثّلت تلك المعركة، التي يسمّيها البعض “غزو موسكو الكبرى” فيما يميل آخرون إلى “حريق موسكو”، مرحلة مفصلية في مسيرة الحروب الروسية العثمانية، وهي سلسلة معارك (حوالي 13 حربًا) نشبت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية ما بين القرنين السادس عشر والعشرين، وشكّلت ملامح الخارطة العالمية لعدة قرون.
وتعود رمزية تلك الموقعة المذلّة للروس إلى كونها الأولى في حجم الدمار التي تعرضت له موسكو منذ معركة 1382، حين اجتاحها تتار القبيلة الذهبية انتقامًا لموقعة كوليكوفو عام 1380، والتي انتصر فيها الروس على التتار، لتشهد ساحة الصراع بينهما واحدة من أشرس المواجهات التي خلّفت وراءها ما بين 10 و80 ألف قتيل ماتوا حرقًا في موسكو.. فماذا نعرف عن تلك المعركة؟
خانية القرم.. سياق تاريخي مهم
قبل الولوج داخل أجواء حريق موسكو، لا بدَّ من الإشارة إلى تاريخ نشأة خانية القرم، تلك الدويلة التي خرجت للنور عام 1443، وكانت النواة الأبرز لتتار القرم لاحقًا، واحتضنتها الإمبراطورية العثمانية فيما بعد وكانت حائط الصدّ أمام الغزاة الإقليميين وعلى رأسهم الروس.
يعود ظهور التتار القرم من الأصول التركية إلى القرن الثالث عشر الميلادي، إذ وحّدهم جدّهم الأكبر جنكيز خان، الذي قامَ بعشرات الحروب والمعارك غزا بها معظم أجزاء آسيا الوسطى والغربية، ومن أبرز العواصم التي أخضعها لحكمه موسكو وكييف، والكثير من المدن شرق أوروبا.
غير أنه سرعان ما تفتّتَت الدولة الجنكيزية (واحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ) بعد وفاة جنكيز خان عام 1227، ليقع الجزء الخاص بالقرم (الشطر الغربي) تحت حكم حفيده باطو خان، الذي شكّل فيما بعد دولته المستقلة “القبيلة الذهبية” التي كان لها صولات وجولات أُحيَت بها نسبيًّا إمبراطورية الجد الأكبر.
واصلت الدولة الذهبية فتوحاتها لتصل إلى ذروة مجدها بعد اعتناق قائدها الأبرز، شقيق باطو خان ويُدعى “بركة”، الإسلام، ليعلن بعد ذلك تحالفه مع دولة المماليك وسلطانها الظاهر بيبرس، معاديًا بهذا التحرك بقية دويلات التتار المنتشرة في منطقة القرم.
ووفق المنحنى التاريخي الطبيعي، بدأت القبيلة الذهبية في السقوط بعد ضعف حكّامها، يقابلها تنامي قوى أخرى إقليمية على رأسها دوقية موسكو الكبرى، التي كانت نواة بناء روسيا القيصرية فيما بعد، ومع مرور الوقت وفي نهاية القرن الرابع عشر تقريبًا تفتّتَت الدولة الذهبية إلى دويلات صغيرة أُطلق عليها “الخانيات”، أبرزها في منطقة القوقاز خانية قازان وخانية أستراخان، وقد سقطتا في قبضة قيصر روسيا إيفان الرابع منتصف القرن السادس عشر بين عامَي 1552 و1556.
الخانية في كنف الدولة العثمانية
وفي الجهة الأخرى كانت هناك خانية القرم، تلك الدويلة التي نجحت في التصدي للجيوش الروسية من عام 1552 وحتى عام 1783، ويُرجِع المؤرِّخون هذا الصمود التاريخي الطويل إلى تحالفها مع الدولة العثمانية، تلك القوة الصاعدة في ذلك الوقت، والتي كانت تحيا أوج قوتها في عهد السلطان محمد الفاتح (1451-1481).
لم تكن خانية القرم دولة ذات نفوذ وقوة عسكرية لتكون مؤهّلة لمناهضة الأطماع الروسية في ذلك الوقت، ما دفعها لطلب الحماية من العثمانيين في مواجهة الأخطار الخارجية، لا سيما بعد احتلال دولة جنوة الإيطالية على مينائي أزوف وكافا أبرز موانئ القرن لعدة عقود طويلة.
لم يتردد السلطان الفاتح في دعم القرم، فأرسل أسطولًا ضخمًا قوامه 470 سفينة مدجَّجة بالسلاح، ونجح في تحرير الموانئ المحتلة من جنوة عام 1475، وهنا تمَّ الاتفاق مع خان القرم، منكلي كيراي خان الأول، على فرض الحماية العثمانية على الخانية لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخها.
في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية“، عقدَ المؤرِّخ التركي يلماز أوزتونا مقارنة شاملة بين الخانية قبل الانضمام إلى العثمانيين وبعده، لافتًا إلى ازدهارها سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا تحت النفوذ العثماني، إذ وصلَ حجم جيشها 200 ألف مقاتل، مطعّمين بفوارس العثمانيين، وكانوا النواة الأقوى لتحجيم أطماع الروس بعد ذلك.
وعلى الجانب الآخر، كانت الإمبراطورية الروسية تحت سيطرة القيصر إيفان الرهيب تحيا أوج ازدهارها، حيث التوسُّعات الجغرافية بالأساليب الوحشية الدموية التي اعتاد عليها القيصر والتي كانت السمة الأبرز لفترة حكمه، وكان من بين التوسعات التي أحرزها سيطرته على خانيتَي أستراخان وقازان الملاصقتيَن لخانية القرم.
توتُّر العلاقة مع الروس
كانت العلاقات بين الدولة العثمانية وخانية القرم من جانب ودوقية موسكو الكبرى من جانب آخر تتمتع بالاحترام المتبادَل، لكن سرعان ما شهدت توترات متتالية في القرن السادس عشر الميلادي، بعدما وصلت التوسعات الروسية إلى حدود الخانية، ما شكّل تهديدًا مباشرًا لأمنها واستقرارها.
الاستفزازت الروسية تجاوزت ذلك إلى مضايقة الحجّاج والتجّار المسلمين المارّين عبر خانية أستراخان، والاستيلاء على قوافلهم التجارية بعد مهاجمتها، وقد استغلَّ الروس ضعف الدولة العثمانية وقتها بعد وفاة السلطان سليمان القانوني (1494-1566) وتعيين سليم الثاني (1524-1574) سلطانًا جديدًا على الإمبراطورية.
ورغم ما كانت تعانيه الإمبراطورية العثمانية حينها، إلا أن حكّام خوارزم والقرم طلبوا مساعدة عسكرية من السلطان العثماني الجديد لتحرير أستراخان من قبضة الروس، وبالفعل لم يتأخّر سليم الثاني الذي قرر شنّ حملة عسكرية مكبَّرة ضد دوقية موسكو عام 1569، قوامها 58 ألف مقاتل (28 ألف مقاتل عثماني و30 ألفًا من تتار القرم) بجانب 30 ألف عامل شرعوا في حفر قناة تربط بين نهر الدون، الذي يصبّ في البحر الأسود، بنهر الفولغا، الذي ينتهي في بحر قزوين، بما يسمح بالإبحار بين البحرَين لتعزيز النفوذ العثماني عسكريًّا واقتصاديًّا داخل خانية القرم.
أقلقَ النفوذ العثماني المتمدد بعض المقاتلين من تتار القرم، ممّن لم يقدّموا كل ما لديهم في المعارك التي خاضوها ضد الروس، فلم يُكتب لهم النصر سريعًا، وهو ما منح القوات الروسية فرصة الهجوم وتحقيق العديد من الانتصارات التي ساعدت الروس في توسيع نفوذهم في منطقة القوقاز.
حريق موسكو
أثارت الهزائم المتتالية التي مُني بها التتار والعثمانيين على أيدي الروس حفيظة الدولة العثمانية، التي قررت الانتقام والثأر ممّا تعرضت له، وبالفعل وفي أعقاب انتهاء شتاء 1571 قرر السلطان العثماني وخان القرم شنّ حملة عسكرية تستهدف موسكو وقيصرها، وهنا كانت الصدمة التي لم يستوعبها إيفان الرابع وجيشه.
ومن خلال جيش قوامه أكثر من 120 ألف مقاتل مدجّج بالمدفعية الثقيلة، توغّل العثمانيون والتتاريون داخل أراضي السهل الأوراسي الكبير حتى وصلوا إلى قلب موسكو، التي أحرقوها عن آخرها في مشاهد وثّقتها كتب التاريخ على أنها الأصعب في التاريخ الروسي القديم والحديث.
وفي شهادته بشأن تفاصيل تلك المعركة الانتقامية، وصف المقاتل الألماني، هاينريش فون شتادين، الذي خدمَ في صفوف البوليس السرّي لقيصر روسيا، المشهدَ بقوله إنه بعد دقائق قليلة من توغُّل الجيش العثماني احترقت موسكو بالكامل، القصر والضواحي والبنايات الكبيرة والأسواق، حتى بات من الصعب الخروج من تلك المحرقة، فسقطَ الناس في براثن الحريق واحدًا تلو الآخر.
كان من أبرز نتائج تلك الموقعة أن طلب قيصر موسكو، إيفان الرهيب، الصلح مع الدولة العثمانية وخانية القرم
وأضاف أنه من هول المشهد لم يستطع أحد الهروب، فاضطرَّ سكان المدينة إلى القفز في نهر موسكو، وتراكمت الجثث في الطرقات حتى بلغت 3 مستويات من الجثث فوق بعضها، وكان التنقُّل بينها غاية في الصعوبة، وهنا لجأ الناس إلى الكنائس الحجرية هربًا من النيران الحارقة، لكن سرعان ما انهارت عليهم إما من شدة النار وإما من التزاحم والتدافع بين المختبئين بها.
وتشير الروايات إلى أن نهر موسكو امتلأ عن آخره بالجثث، بعدما أمرَ القيصر بإلقاء الأشلاء من الطرقات إلى النهر من أجل تمهيد الطريق أمام المارّة، فيما ذكر بعض المؤرِّخين، ومن بينهم جيروم هورسيي، أن مسألة إزالة جميع الجثث من النهر والشوارع استغرقت عامًا كاملًا من كثرتها وتزاحمها.
وتقدَّر خسائر تلك المعركة بضحايا يتراوح عددهم بين 10 و80 ألف نسمة، بجانب أكثر من 150 ألف أسير، فيما سيطرَ المسلمون على خزانة موسكو والعديد من الموارد بها، واضطر بقية سكان المدينة إلى الفرار إلى المدن المجاورة بعدما تحولت بيوتهم إلى أكوام من الرماد.
وكان من أبرز نتائج تلك الموقعة أن طلب قيصر موسكو، إيفان الرهيب، الصلح مع الدولة العثمانية وخانية القرم، فكان الاتفاق على أداء الجزية التي قُدِّرت بنحو 60 ألف ليرة ذهبية سنويًّا، نظير الحماية وعدم الاعتداء، والتي ظلت روسيا تدفعها سنوية للعثمانيين حتى جاء عهد القيصر الروسي التوسُّعي الشهير بطرس الأكبر (1682-1725).
روسيا وتركيا.. قرنان من الحروب
لم يكن حريق موسكو هو المعركة الوحيدة بين العثمانيين والروس، إذ تأتي في إطار حرب ممتدة إلى أكثر من قرنَين، من عام 1568 وحتى عام 1918، شهدت أكثر من 13 حربًا، كانت الغلبة في معظمها للدولة الروسية التي أجبرت نظيرتها العثمانية على الرضوخ للمعاهدات القاسية التي كانت سببًا رئيسيًّا في انهيار إمبراطوريتها.
وتبدأ هذه السلسلة الطويلة من المواجهات بـ”حملة أستراخان” خلال عامَي 1568-1570، وفيها انتصرت روسيا على الدولة العثمانية، تلاها “غزوة موسكو الكبرى” عام 1571 التي تمَّ الإشارة إليها تفصيلًا، ثم “معركة مولدي” جنوبي موسكو عام 1572 وخسرَ فيها العثمانيون أيضًا.
وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر شهدت الحرب الروسية العثمانية معركة جديدة فترة 1676-1681، بهدف الهيمنة على أوكرانيا من خلال النزاع على الموقع الاستراتيجي شيهيرين على الضفة اليمني لنهر الدنيبر (غرب أوكرانيا حاليًّا).
وبعد ذلك بـ 5 أعوام فقط، وبعد انضمام روسيا إلى التحالف الأوروبي لمحاربة العثمانيين (هابسبورغ في النمسا وبولندا-ليتوانيا والبندقية) عام 1686، شنَّ الروس حملتَين على شبه جزيرة القرم انتهتا بهزيمة الجيش العثماني.
وخلال عامَي 1710-1711 حقّق العثمانيون نصرًا كبيرًا خلال معركة “بروت” التي وقعت بين الجيش العثماني، بقيادة الصدر الأعظم بلطجي محمد باشا، والجيش الروسي، بقيادة بطرس الأكبر قيصر روسيا، وأسفرت عن توقيع معاهدة بروت الشهيرة.
حريق الكرملين وسقوط القصر وتهاوي الكنيسة وهروب القيصر، كلها دلالات رمزية تشير إلى حجم الانهيار الذي شهدته الإمبراطورية الروسية أمام نظيرتها العثمانية
واستمرّت المواجهات بين العثمانيين والروس حتى الحرب العالمية الأولى، فيما عُرفت بالحملة القوقازية (1914-1918)، حيث نشبت العديد من المعارك في منطقة القوقاز ثم امتدت لتشمل المناطق العثمانية شرق الأناضول، وأسفرت في النهاية عن تفكُّك الجيش الروسي في أعقاب الثورة الروسية عام 1917، لتنتهي سلسلة المعارك بين البلدَين بموجب معاهدة بريست ليتوفسك في مارس/ آذار 1918.
ولا تزال تداعيات تلك الحرب حاضرة حتى اليوم، فمع كل أزمة تندلع في منطقة القوقاز والقرم، تتّجه الأنظار سريعًا إلى تلك الفترة الساخنة من المواجهات بين الروس والعثمانيين واستدعاء التجارب وبعض دلالات التاريخ والجغرافيا، كونها المرجعية الأبرز وراء التغيُّر الواضح في خارطة المنطقة حاليًّا.
وهكذا يظل 24 مايو/ أيار من كل عام يومًا أسود في الذاكرة الروسية، فحريق الكرملين وسقوط القصر وتهاوي الكنيسة وهروب القيصر، كلها دلالات رمزية تشير إلى حجم الانهيار الذي شهدته الإمبراطورية الروسية أمام نظيرتها العثمانية، التي فشلت فيما بعد في الحفاظ على تفوقها حينها، لتجدَ نفسها في ظل عوامل الفتور والضعف تتخلى طواعية عن واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.