ترجمة وتحرير نون بوست
الكُتاب: ميركو كَيلبِرث، جوليان فون ميتّلشتيت، كريستوف رويتر
وأصبح لتلك الخلافة المزعومة شاطئ ممتد بطول 300 كيلومترًا على البحر المتوسط جنوبي كريت، في مدينة درنة بشرق ليبيا، تلك المدينة القديمة الجميلة البالغ تعدادها 80 ألفًا، والتي يرفرف فوق مسجدها علم داعش الأسود، المدينة الآن مجهزة بمحاكم “شرعية” و”شرطة إسلامية” تجوب شوارعها بسيارات رباعية، وبُني في جامعتها مؤخرًا حائطٌ لفصل الطلاب عن الطالبات، وهي الجامعة التي أُلغيت منها أقسام القانون والعلوم الطبيعية واللغات.
درنة هي أول جيب لداعش في شمال أفريقيا، حيث تتهيأ الظروف تمامًا في ليبيا للمتطرفين من مثلها للتوسع: دولة مفككة، وموقع استراتيجي، ومعقل احتياطي النفط في أفريقيا، وإذا ما نجحت في السيطرة على مساحة واسعة من ليبيا، فإنها ستشعل نيران تفكك العالم العربي كله.
في الأسابيع الماضية، أعلنت مجموعات عنيفة متفرقة في المنطقة ولاءها لداعش، ففي سبتمبر أعلن تنظيم “جند الخلافة” في الجزائر ولاءه، وقام بإعدام متسلّق جبال فرنسي ونشر فيديو لذلك على الإنترنت، وفي الأسابيع الماضية أعلنت جماعة “أنصار بيت المقدس” في سيناء ولاءها هي الأخرى، كما أعلن تنظيم “بوكو حرام” في شمال نيجيريا عن دعمه أيضًا.
معظم تلك المجموعات مالت لصالح القاعدة في أوقات مختلفة، إلا أنها اليوم تتجه لداعش بعد تراجع القاعدة أمام نجاحاتها في الشام والعراق، بالنظر للاقتتال الداخلي في ليبيا، والقمع الذي يقوم به النظام العسكري في مصر، لن يكون غريبًا أن يزداد هذا النمط في الفترة المقبلة، لاسيما والكثير من الجهاديين الذين فروا أثناء حكم مبارك والقذافي وزين العابدين إلى ساحات مثل أفغانستان والشيشان، شرعوا في العودة إلى المنطقة بعد الربيع العربي، خاصة إبان الصراع في سوريا.
ليبيا: نهاية الدولة
لطالما كانت درنة معقلاً للراديكالية، حيث خرج منها جهاديون فارين من حكم القذافي، وقاموا بهجمات انتحارية في العراق أكثر ممن خرجوا من أي مدينة أخرى في المنطقة، بعد سقوط القذافي عام 2011، اتجه الكثير من هؤلاء إلى سوريا لمواجهة نظام بشار الأسد، في نفس الوقت الذي بدأت فيه كافة أنواع الميليشيات، الإسلامية بشكل عام والمتطرفة بشكل خاص، بالازدياد والتوسع في ليبيا، بمرور الوقت، أصبحت العودة إلى ليبيا أمرًا ممكنًا، بالتحديد شرق البلاد، حيث بقي المتطرفون بمأمن في حين وقعت أجهزة الجيش والشرطة تحت نيران ميليشيات الثورة والإسلاميين وغيرهم.
تحكم درنة اليوم بضعة ميليشيات، أهمها مجلس شورى شباب الإسلام، والذي تأسس بعد الثورة وانفصل عن أنصار الشريعة التي بايعت داعش في درنة – درنة فقط، لا بنغازي -، كانت بداية الاتصال بداعش وصول مجموعة ممن قاتلوا في سوريا، والمعروفين باسم كتيبة البتّار، إلى درنة، وقيامهم بالسيطرة عليها عبر قتل مجموعة مختلفة من السياسيين والقضاة والمحامين وقادة الميليشيات المنافسة، في سبتمبر، أرسلت داعش أميرًا إلى المدينة، وهو يمني اسمه “محمد عبد الله”، وفي أكتوبر تم عقد اجتماع بين مقاتلين من داعش وقيادات مجلس شورى شباب الإسلام، والتي أعلن فيها الأخير عن تحالف الطرفين، وتأسيس “ولاية برقة”.
“لقد بدأ كل شيء بقتال نظام القذافي في بنغازي في السابع عشر من فبراير 2011، ولكن درنة هي ما سيحدد ما إذا كان ما يجري الآن سيتحول إلى صراع واسع يطال شمال أفريقيا كلها”، هكذا يقول ناشط رفض ذكر اسمه، والذي يرسل الأخبار من درنة منذ فترة، ونجا بالكاد من عدة حوادث لإطلاق النار، ويحاول الخروج من المدينة التي وضعت فيها الحواجز في كل مكان، “شرق ليبيا لا يختلف كثيرًا عن سوريا والعراق”.
تطارد الميليشيات أي طرف يقوم بانتقادها، حتى ولو ببضع كلمات على الفيسبوك، فقد تم إعدام ثلاثة نشطاء مُعادين لداعش أمام عدسات الكاميرا بلا رحمة، وإعدام مُتهم بالقتل في ملعب لكرة القدم، بينما يتم باستمرار جلد أي مشتبه في أمره، ولا تختلف كثيرًا معاملة داعش للإسلاميين، فقائد أنصار الشريعة في بنغازي، والذي رفض مبايعة داعش، مفقود منذ ذلك الحين، وعلى الأرجح تم قتله، في حين نجح قائد ميليشيا آخر في الفرار واللجوء إلى تركيا.
تدير الميليشيات أربعة معسكرات على مشارف درنة تقوم فيها بتدريب الأجانب للقتال في سوريا، حيث تكثّفت جهود الجهاديين هنا أكثر من بنغازي منذ نجاح قوات الجنرال خليفة حفتر في السيطرة على بعض أجزاء بنغازي، هذا وعاد بعض المقاتلين من سوريا لدعم إخوانهم هنا، ويُعتقد أنهم أسسوا مخازن للسلاح في الجبال المُطِلة على درنة، ويمتلكون قذائف قصيرة المدى في مخزن تابع لمصنع ملابس.
الصورة: جماعة مسلحة في درنة تعلن ولاءها لداعش بشكل علني
تعرّضت درنة للقصف الجوي لأول مرة من قِبَل طائرات تحت سيطرة حفتر الأسبوع الماضي، والتي تدعمها كل من مصر والإمارات، بيد أن هذه الضربات لن تزحزح الإسلاميين، بل ستزيد خطر اتحاد كافة الميليشيات المتنازعة لمواجهة حفتر، بل وربما مبايعتها لداعش، ليس أدل على ذلك من ضلوع الإسلاميين في زرع قنابل بمرافق الدولة في طرابلس، وسفارتي مصر والإمارات، منذ أيام.
منذ الصيف الماضي، توقفت الكثير من الرحلات الجوية من وإلى طرابلس نظرًا للاقتتال بين تحالف فجر ليبيا الإسلامي والمحسوب على الثورة، وقوات حفتر، بيد أن هناك رحلات أسبوعية مستمرة بين طرابلس وكازابلانكا وإسطنبول، “ليبيا هي معقل الإسلاميين القادمين من أوروبا وشتى أنحاء شمال أفريقيا”، هكذا قال ناشط هرب إلى تونس، فطريق “الجهاد” الذي سلكه الآلاف يمر من تونس عبر طرابلس وإلى تركيا، ثم إلى سوريا.
تونس: بلد الجهاديين
في مسجد المنار بتونس العاصمة، وعلى مقربة من جامعة تونس المنار، التقى “محمد توفيق سوسي”، الجندي السابق بالجيش التونسي، إمامًا حدّثه عن أهمية الانضمام إلى داعش، ودفع له أجرة السيارة التي نقلته إلى الحدود الليبية، طبقًا لما قاله والده توفيق، كان في انتظاره مقاتلون من ميليشيا في صبراتة، وهي أحد حلفاء أنصار الشريعة، ليقوموا بتدريبه قبل إرساله إلى سوريا، من هناك، تم اقتياده إلى مطار طرابلس (معيتيقة).
محمد سوسي ليس التونسي الوحيد، إذ سافر إلى سوريا حوالي 2400 تونسيًا طبقًا للإحصاءات الحكومية، في حين تشير إحصاءات أخرى إلى وجود ما لا يقل عن 3000 مقاتلاً تونسيًا في صفوف جبهة النصرة وداعش، تقول وزارة الداخلية التونسية أنه تم منع حوالي 8000 من السفر إلى سوريا، حيث يتم التعرّف على الجهاديين المحتملين عن طريق تأشيرة سفرهم، والتي غالبًا ما تكون متجهة إلى إسطنبول بلا عودة، في حين يتم القبض على البعض الآخر على الحدود مع ليبيا، عاد من سوريا حوالي 400 مقاتلاً، وهم في السجون، كما تقول المصادر الحكومية.
تونس، مهد الربيع العربي، والذي آل إلى عودة الديكتاتوريات أو الانزلاق إلى الفوضى في مصر وسوريا وليبيا، شهدت انتخابات برلمانية مرتين في الأعوام الثلاثة الماضية، ويبدو أن انتقال السلطة يتم فيها حتى الآن بشكل سلمي من حزب النهضة إلى حزب نداء تونس، وهي بلد يتمتع مواطنوها بمستويات تعليم أعلى من نظرائهم في العالم العربي.
لماذا يسافر الناس إذن من تونس تلبية لدعوات الجهاديين؟
ينجذب البعض لخطاب داعش إيمانًا بأن ما يجري في سوريا امتدادًا لما جرى منذ ثلاث سنوات في تونس من إسقاط لنظام مستبد، في حين يتجه البعض الآخر إلى ذلك الخطاب نظرًا للشعور بالإحباط من الوضع في تونس، والذي لم تحدث فيه التغييرات الجذرية كما وعدت الثورة – من وجهة نظرهم – لاسيما فيما يخص الحريات وعُنف الشرطة، علاوة على ذلك، تطال البطالة اليوم ثُلث المتخرجين من الجامعات، والذين يبحثون عن مفر إما عبر مراكب الهجرة إلى أوربا، أو إلى الجهاد في سوريا.
اليوم، توجد تجمعات من التونسيين المهاجرين إلى “أرض الخلافة”، والذين يُطمئنون أسرهم وأصدقائهم عبر الفيسبوك وتويتر بأنهم على ما يرام ويعيشون حياة عادية في بيوت مع زوجاتهم وبدخل شهري، هذا بالتحديد ما يدفع الكثير من التونسيين إلى الهجرة إلى هناك وإن لم ينووا القتال، وهو أمر رائج بشدة حتى إن داعش تقوم بوضع إعلانات على الفيسبوك طلبًا لمهندسي النفط والمترجمين وغيرهم.
على سبيل المثال، “حمزة بن أكبل”، وهو خبير كمبيوتر تونسي يعاني الشلل ويستخدم مقعدًا متحركًا، تم تجنيده ليقوم بتنظيم ورشات في سوريا للجهاديين القادمين من أوروبا، ورغم أنهم لا يتحدثون العربية، إلا أن الفيديوهات التي يتم تصويرها للورش تستخدم كوسيلة دعايا ناجحة لتجنيد المزيد، كان حمزة يبحث عن تحقيق ذاته، كما يقول أخوه محمد، وقد وجد ذلك في سوريا، بيد أن حماسه لم يدم طويلًا، حيث واجه صعوبات في عمله الذي تطلب الكثير من المساعدين في خلافة لا تستقبل عادة المُقعَدين، حتى اقترح أميره السوداني بأن يعود إلى بلده مرة أخرى، بعد بضعة أسابيع، عاد حمزة بالفعل، ووافق على إجراء مقابلة معه في تونس لكيلا يتم القبض عليه، يقول حمزة دفاعًا عن داعش: “المجتمع الناشيء في الخلافة هناك ليس مجرد رأسمالية وديمقراطية، ففي الرقة مثلاً هناك هيئة لحماية المستهلكين تراقب نظافة وصحة الجزارات، كما يتم جمع القمامة بانتظام وتوفير الحافلات في أوقات محددة”.
على عكس حمزة، والذي حالفه الحظ في العودة، لقى مواطنه “محمد سوسي” مقتله في سوريا، حيث استقبل أبوه مكالمة هاتفية غير سعيدة في يونيو المنصرم، “لقد أصبح ابنك شهيدًا الآن .. عليك أن تكون فخورًا به”، قُتل محمد في هجوم صاروخي لجبهة النصرة، وتم إسعافه في مستشفي بتركيا قبل أن يموت هناك ويُدفَن في سوريا.
مؤخرًا، أسس توفيق، والد محمد سوسي، ومحمد، أخو حمزة بن أكبل، جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج، والتي تتابع 150 أسرة حاليًا، لا تملك الجمعية ما يكفي من مال ليكون لها مقر، ولكن مؤسسيَّها يلتقيان في المقاهي لمتابعة أحدث فيديوهات داعش، والتي قال محمد بن أكبل إنه تعرّف فيها على واحد ممن يتصل بأسرهم، يقاتل لصالح داعش في كوباني، غير أنه لا يملك ما يمكّنه من إعادته إلى تونس، رغم ذلك، تحاول الجمعية على الأقل إعادة من يسوئهم الوضع هناك ويطمحون للعودة، إذا يدرك الكثيرون عند وصولهم أن داعش في الواقع تبذل معظم جهودها في مواجهة فصائل الثورة الأخرى لا في مواجهة الأسد.
يلوم محمد وتوفيق حكومة النهضة لتقاعسها عن وقف تدفق الجهاديين، إذ يعتقدون أن الحكومة تعزز التيار المتطرف في تونس، لاسيما وأئمتها قد أصبحوا على رأس أكثر من ألف مسجد كان يديرها في السابق النظام العلماني، على الرغم مما يقولونه، يبدو أن الحكومة قد اتخذت بالفعل بعض الخطوات، إذ منعت في مارس 2012 أي رجل تحت سن 35 من السفر إلى تركيا وسوريا؛ وهو ما أدى بالفعل إلى هبوط الأعداد المتجهة إلى هناك، وتركيز الجهود على العائدين من المتطرفين، حيث يتم حبس من يُشتبه بمشاركته في القتال بسوريا، ولكن هل يمكن لتونس أن تسيطر على كل هؤلاء عند عودتهم؟
مصر: في مواجهة القمع
منذ شهر تقريبًا، أصبحت سيناء، ذات الموقع الإستراتيجي والهام والمتاخم لإسرائيل، على قائمة “الخلافة””، إذ أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس بيعتها لداعش، والتي نشأت إبان سقوط نظام مبارك عام 2011، وقامت بهجمات عديدة ضد الشرطة والجيش منذ انقلاب يوليو 2013.
“محمد حيدر زمّار”، أحد قيادات داعش، هو المسئول عن التفاوض مع الجماعة منذ أشهر لإعلان ولائها، كما تقول بعض الروايات، وهو مواطن ألماني سوري ينتمي إلى خلية هامبورج المعروفة، بعد هجمات 11 سبتمبر اقتيد زمّار إلى سوريا عبر الاستخبارات الأمريكية، والتي حققت معه بمشاركة نظيرتها الألمانية، إذ ادّعى أنه جنّد بعضًا ممن شاركوا في الهجوم، ظل زمّار في سجون الأسد حتى تم الإفراج عنه في مطلع 2014 في إطار صفقة تبادل بين أحرار الشام ونظام الأسد، لينطلق من بعدها بأيام إلى الرقة، كما قالت إحدى القيادات المسئولة عن التفاوض بشأن الصفقة، وينضم إلى صفوف داعش.
يُعتَقَد أن زمّار ساهم في نقل الأموال إلى سيناء، حيث تواتي الظروف تمامًا لتمدد داعش إثر الفقر الشديد، وغياب سيطرة الدولة، وتفشي تجارة المخدرات والسلاح والبشر، وهيمنة البدو اجتماعيًا والذين يعارضون النظام، بالإضافة إلى ذلك، تبدو بعض شرائح الحركة الإسلامية وناقدي النظام كأهداف جذابة لداعش، إذ يتم قمعهم بشكل وحشي من قبل النظام العسكري والجيش المصري، ويقبع الكثير منهم خلف قضبان السجون.
البعض أيضًا يعاني خيبة أمل شديدة قد تدفعه إلى داعش في النهاية، مثله مثل “أحمد الدروي”، ضابط الشرطة المصري السابق البالغ من العُمر 36 عامًا، والذي ساند الثورة عام 2011، ورشح نفسه في الانتخابات البرلمانية بعد الثورة، وفرّ إلى تركيا إبان الانقلاب العسكري العام الماضي، قبل أن ينضم إلى مجموعة من المقاتلين في سوريا أعلنت ولاءها لداعش في نهاية المطاف، بعد فترة وجيزة، قام الدروي بتفجير نفسه في هجوم انتحاري في العراق.
لعل الدروي هو أول انتحاري تمخّض عنه الربيع العربي، ولكن هل سيكون الأخير؟
المصدر: دير شبيغل