شهدت الأعوام الثلاثة الماضية تصاعدًا في حجم العمليات الاستخباراتية التي شنّتها “إسرائيل” في الداخل الإيراني، والتي كانت أبرزها عملية اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، إلى جانب عملية اغتيال العميد حسن صياد خدائي القيادي في فيلق القدس في مايو/ أيار 2022.
وأثار هذا الأمر العديد من التساؤلات حول الأسباب التي تقف وراء مسلسل الخروقات الاستخباراتية التي تعاني منها إيران، ولماذا تنجح “إسرائيل” بتنفيذها، رغم أن وزير الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني الأسبق، علي يونسي، قد أشار في وقت سابق أن “إسرائيل” تمكّنت من تجنيد آلاف العملاء في الداخل الإيراني، إلا أن هذا التصريح لم يقف على أسباب نجاح “إسرائيل” في ذلك.
ممّا لا شك فيه أن إيران أصبحت تعاني من وضع أمني هشّ للغاية، وذلك بسبب العديد من التحولات الداخلية والخارجية التي مرّت بها الجمهورية الإسلامية في الفترة الماضية، يأتي في مقدمتها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، حيث أصبح الكثير منها يُترجَم على شكل حركات احتجاجية تنشط بين الحين والآخر، مترافقة مع سعي إيراني مستمر لترسيخ النفوذ الإقليمي، ما جعل موارد الدولة الإيرانية في خدمة المشروع الإقليمي، دون أن يكون هناك اهتمام بالداخل الإيراني وضروراته.
هذه التحولات الداخلية والخارجية التي تمَّ الحديث عنها، وفّرت من جهة أخرى حالة من السخط الشعبي على النظام السياسي وسلوكياته، الأمر الذي استغلته “إسرائيل” جيدًا في بناء جيش من الجواسيس في الداخل الإيراني.
كما وفّر الأمر على “إسرائيل” إرسال المزيد من العملاء للداخل الإيراني من أجل تنفيذ المهام المطلوبة، سواء تلك التي تتعلق باستهداف المواقع النووية أو الشخصيات الإيرانية المهمة، خصوصًا العلماء النوويين أو جنرالات الحرس الثوري، إذ تشير مجمل العمليات الاستخباراتية التي نفّذتها “إسرائيل” في الداخل الإيراني، أنها جاءت عبر عملاء محليين مرتبطين بالموساد الإسرائيلي، ولم يكن أي منهم إسرائيلي الجنسية.
جهود إيرانية لمواجهة هذه الاختراقات
لمواجهة هذه الخروقات الاستخباراتية، والتي يعود بعضها إلى عام 2000، أنشأت إيران جهازًا استخباراتيًّا جديدًا تحت مسمّى “عقاب” عام 2005، والذي عمل في إطار مكافحة التجسُّس الخارجي أو المضاد، ضمن هيكلية وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني.
وكانت المهمة الأساسية للجهاز الكشف عن عمليات استخباراتية تستهدف العلماء الإيرانيين العاملين في البرنامج النووي الإيراني، بعد أن تمَّ اغتيال الكثير منهم خلال فترة 2010-2015، ومن الأسباب الأخرى التي أُنشئ على أساسها جهاز “عقاب”، هو استمرار تعرض المنشآت النووية الإيرانية لعمليات القرصنة الاستخباراتية.
هناك أسباب فنية أخرى تتعلق بطبيعة العمل الاستخباراتي في إيران، وتحديدًا على مستوى المؤسسات الاستخباراتية الإيرانية
وبعد اكتشاف العديد من الشبكات الاستخباراتية الأجنبية العاملة في إيران منذ منتصف عام 2007، حلَّ أحمد وحيدي (وزير الداخلية الحالي) على رأس جهاز “عقاب”، محل الجنرال غلام رضا مغربي، علمًا أن جهاز “عقاب” الاستخباراتي تمَّ توسيعه فيما بعد، وأصبح هناك “عقاب 2″، وتمَّ تجنيد ما يقارب الـ 10 آلاف عنصر استخباراتي إيراني في صفوفه.
إلا أنه مع ذلك لا يزال الجهاز غير قادر على منع عمليات التخريب أو التجسُّس أو الاغتيالات التي تطال الشخصيات والعلماء الإيرانيين المهمين، ومن الأمثلة المهمة على هذا الفشل في أداء مهامّه الاستخباراتية، هو عدم قدرته على منع العديد من العمليات الاستخباراتية التي نفّذها جهاز الموساد الإسرائيلي في إيران منذ عام 2020.
ويُضاف إلى ما تقدّم، أنه إلى جانب الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تقفُ خلف حالة الخرق الاستخباراتي الذي تعاني منه إيران اليوم، إلا أن هناك أسبابًا فنية أخرى تتعلّق بطبيعة العمل الاستخباراتي في إيران، وتحديدًا على مستوى المؤسسات الاستخباراتية الإيرانية.
فإلى جانب وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني، توجد هناك مؤسسات استخباراتية أخرى، أبرزها جهاز استخبارات قوة القدس، وجهاز الاستخبارات العسكرية (J2) التابع لوزارة الدفاع الإيرانية، وجهاز استخبارات الباسيج، ووزارة الداخلية، والأمن السيبراني وغيرها.
ولم يتوقف الأمر على تعدُّد الأجهزة والمؤسسات الاستخباراتية الإيرانية فحسب، بل دخلت هذه المؤسسات في حالة صراع وعدم تنسيق في كثير من القضايا والملفات، وتحديدًا بين وزارة الاستخبارات والأمن الوطني واستخبارات الحرس الثوري، خلال فترة المفاوضات النووية، من خلال تنازع كلا المؤسستَين على تعيين أعضاء الفريق التفاوضي، أو تقييم مستوى الأخطار القادمة من الخارج، فضلًا عن اتهام كل منهما الآخر بالارتباط بالخارج.
هل سنكون أمام ردّ انتقامي؟
بعد ساعات على عملية اغتيال خدائي، بدأت وسائل الإعلام الإيرانية، وتحديدًا تلك المقرَّبة من الحرس الثوري، نقل العديد من التصريحات التي تدعو إلى الردّ الانتقامي على مقتله، إذ أشار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي “أن الثأر لدم صياد خدائي سيكون في المتناول بالتأكيد”، أما القائد العام للحرس الثوري الإيراني، اللواء حسين سلامي، فقد قال إن “الجميع يعلم أن إيران ستنتقم لدم اغتيال الضابط في الحرس الثوري، العميد حسن خدائي”.
رغم أن إيران اعتادت خلال الفترة الماضية على اختيار أهداف هشّة للردّ على الهجمات التي تعرضت لها، وتحديدًا في العراق، فإن نجاح “إسرائيل” في تنفيذ عملية اغتيال خدائي بأدوات محلية إيرانية، قد يعقِّد من المهمة الإيرانية للردّ في الخارج
ورغم أن إيران تلوّح دائمًا بالردّ الانتقامي على مقتل جنرالاتها وعلمائها، إلا أن معظم هذه الردود لم تكن على مستوى الحدث نفسه، وهي ردود موجَّهة عادةً للداخل الإيراني وليس الخارج، ليأتي دور الدعاية الإيرانية في تضخيمها وتعظيمها أمام المتلقّي الإيراني.
وإذا كانت الفترة الماضية توفِّر هامشًا أمام إيران للردّ على الاختراقات التي تتعرض لها، إلا أن الوضع السياسي وتحديدًا الخارجي الذي تمرُّ به إيران اليوم، قد يضعها أمام المزيد من العقبات.
تتمثل أولى هذه العقبات بجهود إيران لرفع الحرس الثوري عن لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، إذ إن إقدام الحرس الثوري الردّ على عملية اغتيال خدائي، سوف يزيد من إصرار الإدارة الأمريكية على التمسُّك بشرط إبقاء الحرس الثوري ضمن هذه اللائحة.
كما أن الرئيس بايدن لن يجازف في ذلك، ما قد ينعكس سلبًا على جهود التوصُّل لصفقة نووية مع القوى الكبرى، بل قد تزيد عملية الرد من صدقية وجهة النظر الإسرائيلية لدى الإدارة الأمريكية بالتداعيات السلبية لإخراج الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية.
أما التحدي الآخر فيتمثّل بخارطة الردّ الإيراني، فرغم أن إيران اعتادت خلال الفترة الماضية على اختيار أهداف هشّة للردّ على الهجمات التي تعرضت لها، وتحديدًا في العراق، فإن نجاح “إسرائيل” في تنفيذ عملية اغتيال خدائي بأدوات محلية إيرانية، قد يُعقِّد من المهمة الإيرانية للردّ في الخارج.
وقد يكون الإعلان الإيراني تفكيك شبكة تجسُّس إسرائيلية في الداخل الإيراني، نموذجًا لمفهوم جديد في عمليات الردّ، كما تطرح الهجمات السيبرانية في الداخل الإسرائيلي أو اختطاف رعايا إسرائيليين أو استهداف مصالح إسرائيلية، بدائل أخرى أمام إيران، دون الحاجة للردّ الصاروخي العنيف، لما لذلك من تداعيات سلبية قد تواجهها إيران في البيئتَين الإقليمية والدولية.