بالرغم من أنها ظاهرة تكاد تكون غير مرئية في شوارع إسطنبول مثلًا، فإنّ السمنة تمثل واحدة من أكثر المشاكل التي تواجه المجتمع والحكومة في تركيا، إذ تتحدث الأرقام عن نسب تزيد عن نصف الرجال والنساء ممن يعانون من زيادة الوزن، بل حتى عن نسب عالية لدى الأطفال، وتؤكد تقارير صحية – محلية ودولية – أن معدلات السمنة في تركيا هي الأعلى على مستوى أوروبا.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن 66.8% من السكان البالغين في تركيا يعانون من زيادة الوزن، 69.3% للنساء و64% للرجال، أما نسبة من يُعرّفون بـ”السمنة” فتبلغ 32.1%، 39.2% للنساء و24.4% للرجال، وأن واحدًا من كل 3 أشخاص في تركيا يعاني السمنة المفرطة، وفق المنظمة ذاتها.
وأثارت تلك المعدلات المرتفعة للسمنة حفيظة العديد من الكيانات الصحية والتشريعية التركية، وكان التحرك الأبرز من قبل لجنة الأبحاث داخل مجلس الأمة (البرلمان)، والتي دقّت ناقوس الخطر إزاء هذا المرض، عبر العديد من الحملات التي قامت بها حول طرق مكافحة السمنة والتدابير الواجب اتخاذها، معتبرة أن هذه المسألة من أخطر المشاكل التي تواجه البلاد في الآونة الأخيرة.
وتحولت السمنة من مرض عادي يمكن السيطرة عليه إلى ظاهرة تتجاوز تداعياتها صحّة المصابين بها إلى التأثير على موارد الدولة الاقتصادية وإعادة هيكلة موازنتها لمواجهة هذا الداء، الذي تحول إلى وحش كبير يلتهم أمامه الميزانيات المخصَّصة للصحة في وقت تعاني فيه أنقرة من أزمات اقتصادية طاحنة، وهو ما يستدعي اليوم قبل الغد وضع هذا الملف تحت مجهر العناية والدراسة لبحث سبل تطويقه قبل الخروج عن السيطرة.
عدد المصابين بالسمنة المفرطة في العالم يتجاوز 650 مليون شخص، مقابل 1.5 مليار بالغ يعانون من زيادة الوزن وفق إحصاءات 2016
وتُعرّف السمنة بحسب منظمة الصحة العالمية بأنها “تراكم مفرط للدهون في الجسم إلى الحد الذي يضرّ بالصحة”، مع الوضع في الاعتبار أن الدهون تشكِّل في مستوياتها الطبيعية 15-20% لدى الرجال البالغين و25-30% لدى النساء البالغات، أما إن تجاوزت ذلك المعدل فإنها تُعرَّف حينها بالسمنة، 25% عند الرجال و30% لدى النساء.
ويشير رئيس الجمعية التركية لطب الأعصاب، محمد عاكف توبشوغلو، إلى أن عدد المصابين بالسمنة المفرطة في العالم يتجاوز 650 مليون شخص، مقابل 1.5 مليار بالغ يعانون من زيادة الوزن وفق إحصاءات 2016، لافتًا إلى أن تركيا تعدّ الأكثر احتضانًا للمصابين بهذا المرض في المنطقة الأوروبية، مؤكدًا أن الوضع في بلاده على وجه الخصوص وصل إلى مستوى ينذر بالخطر.
الأولى أوروبيًّا.. أرقام مقلقة
كشف تقرير السمنة الأوروبي لعام 2022، الصادر عن المكتب الإقليمي لأوروبا التابع لمنظمة الصحة العالمية في كوبنهاغن، أن أكثر من نصف البالغين في أوروبا يعانون من زيادة في الوزن، لافتًا أن تركيا تأتي على رأس القائمة، تليها مالطا و”إسرائيل” وإنجلترا على التوالي، ومن المرجّح أن تواجه الأسر ذات المستوى التعليمي المنخفض مشكلة زيادة الوزن والسمنة مقارنة بالأسر ذات المستوى التعليمي العالي.
اللافت للنظر ارتفاع معدلات الإصابة بالسمنة لدى صغار السن، إذ أن 29% من المصابين تتراوح أعمارهم بين 7 و9 سنوات، ذكور وفتيات على حد سواء، وأن 8% ممّن يعانون من هذا المرض دون سن الخامسة، فيما حذّرَ مدير منظمة الصحة العالمية في أوروبا، هانز كلوج، من أن “زيادة الوزن والسمنة وصلتا إلى أبعاد وبائية” في المنطقة الأوروبية عمومًا وتركيا على وجه الخصوص.
وتشير التقارير الرسمية والخاصة، الداخلية والخارجية، إلى زيادة نسبة السمنة في أوروبا عامّة خلال الـ 50 عامًا الماضية بصورة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، حيث قفزت بنسبة 138%، وهو المؤشر المتوقع استمرار زيادته على تلك المتوالية إذا استمرت الأوضاع دون تحرك عاجل.
القراءة الجغرافية لتفشّي السمنة في المجتمع التركي تشير إلى زيادة المعدلات من الشرق إلى الغرب، إذ تأتي منطقة غرب البحر الأسود على رأس المناطق ذات أعلى معدل سمنة في البلاد بنسبة 37.5%، تليها وسط الأناضول بنسبة 36.9%، فيما تتراجع النسبة في جنوب شرق الأناضول بنسبة 24.2%، أما في إسطنبول فتبلغ 30.7%، 39.9% للرجال و27.6% للنساء.
وعن أسباب انتشار هذا الوحش المفترس، فقد توصّلت ورشة العمل التي نفّذتها جمعية أبحاث السمنة التركية (TOAD) العام الماضي، لأعضاء الإعلام كجزء من مشروع التوعية بالسمنة، إلى حزمة من الأسباب الرئيسية وراء تفشي هذا المرض، استنادًا إلى آراء عيّنة بحثية مجتمعية وآراء الأطباء المعالجين والتقارير الرسمية الصادرة في هذا الشأن.
تستشعر وزارة الصحة التركية الخطر إزاء تفشي السمنة، لا سيما بعد التقارير الأخيرة التي تشير إلى أنها سبب رئيسي لما لا يقلّ عن 13 نوعًا مختلفًا من السرطان
وتمحورت الأسباب في 4 رئيسية، جاء ترتيبها كالتالي: عادات الأكل المفرطة والخاطئة (20.4%)، النشاط البدني غير الكافي (17.6%)، التكنولوجيا وظروف المعيشة الحديثة (7.2%)، العوامل الهرمونية والتمثيل الغذائي (4.3%)، هذا بخلاف بعض الأسباب الفرعية الأخرى التي تعاملت مع السمنة كمرض نفسي في المقام الأول، يتطلب التعامل معه برؤية ومنهجية مختلفتَين بعيدًا عن الظواهر المباشرة له.
تهديد المجتمع التركي
تستشعر وزارة الصحة التركية الخطر إزاء تفشي السمنة، لا سيما بعد التقارير الأخيرة التي تشير إلى أنها سبب رئيسي لما لا يقلّ عن 13 نوعًا مختلفًا من السرطان، فيما أشارت التقديرات إلى أن أكثر من 200 ألف تشخيص بالسرطان سنويًّا ترجع إلى السمنة، مع توقُّع زيادة تلك المعدلات في السنوات القادمة.
كشفت منظمة الصحة العالمية في أحدث تقاريرها عن وفاة أكثر من مليون حالة سنويًّا في أوروبا بسبب زيادة الوزن، وأن قرابة 13% من الوفيات سنويًّا بسبب السمنة، كما أشارت إلى أن هذا المرض وراء انتشار العديد من الأوبئة والجوائح على رأسها جائحة الفيروس التاجي.
وقد وجّهت المنظمة دعوة مباشرة للمسؤولين في تركيا وبقية دول أوروبا بضرورة اتخاذ إجراءات وقائية لمكافحة زيادة الوزن عمومًا، منها فرض المزيد من الضرائب على المشروبات الغازية، وفرض قيود على الترويج للمنتجات الضارة بصحة الأطفال، هذا بخلاف اللجوء إلى الأطعمة المفيدة الطبيعية بعيدًا عن المهدرجة والمسرطنة والتي تحتوي على نسب سكريات عالية.
ويحذِّر خبراء التغذية وأمراض السمنة في تركيا من أن تنامي المعدلات وفق المتوالية الأخيرة خلال العقود الخمس الماضية، ينذر بكوارث على المجتمع التركي الذي ربما يجدُ نفسه مكبّلًا بهذا المرض، الذي من المرجَّح أن يعيق مسارات التنمية ويقلِّل من إنتاجية الأفراد.
إهدار موارد الدولة
وتعدّ السمنة وأمراض زيادة الوزن عمومًا وما ينجم عنهما من أمراض في الأساس كالضغط والقلب والسكر، من المصادر التي تلتهم جزءًا كبيرًا من الموازنة المخصصة للصحة، وهو ما يكون له انعكاساته على صحة المواطن التركي غير المصاب بها بصفة عامة، إذ إن استحواذ تلك الأمراض على الجزء الأكبر من الميزانية سيقلِّل بالتبعية من حصص الخدمات الصحية الأخرى.
وتعدّ تركيا من أقل الدول في أوروبا عامة وضمن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خاصة من حيث الإنفاق على قطاع الصحة، إذ تخصِّص 4.3% من دخلها القومي لهذا القطاع، وهو ما اعترفَ به رسميًّا وزير الصحة التركي فخر الدين كوجا، الذي أشار إلى أنه على علم بأن الميزانية المخصَّصة لقطاع الصحة محدودة مقارنة بالبلدان الأخرى.
وقد أدّى هذا الضعف في الميزانية، المخصص جزء كبير منها لصالح علاج أمراض السمنة والوزن الزائد وتفريعاتها المرضية الأخرى، إلى تراجع معدلات إنفاق الدولة على صحة المواطن الذي بات مسؤولًا في المقام الأول عن متابعة حالته الصحية على نفقته الخاصة، فبحسب هيئة الإحصاء التركية ارتفعت الأموال التي ينفقها المواطن التركي من جيبه على صحّته 33.6 مليار ليرة.
الارتفاع الكبير في معدلات السمنة بجانب أنه يلتهم مئات المليارات على خدمات العلاج، يؤثر على الإنتاجية الإجمالية للفرد
يُذكر أن إجمالي النفقات على خدمات الصحة في تركيا بلغت عام 2019 أكثر من 201 مليار و31 مليون ليرة، بزيادة قدرها 21.7% عن عام 2018، الذي بلغ 165 مليارًا و234 مليون ليرة، وفقًا لبيان صادر عن معهد الإحصاء التركي المتعلق بإحصاءات الإنفاق الصحي عام 2019.
كشف البيان عن ارتفاع معدلات إجمالي الإنفاق الصحي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 4.4% في عام 2018 إلى 4.7% في عام 2019، فيما زاد الإنفاق الصحي الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي من 4.1% في عام 2018 إلى 16.7% من إجمالي الإنفاق الصحي في عام 2019.
وفي مسار موازٍ، فإن الارتفاع الكبير في معدلات السمنة، بجانب أنه يلتهم مئات المليارات على خدمات العلاج، يؤثر في الوقت ذاته على الإنتاجية الإجمالية للفرد، بما يؤثر على الاقتصاد الوطني على المدى البعيد، الأمر الذي يمثّل تهديدًا كبيرًا لبلد يطرق كافة الأبواب للخروج من عنق الزجاجة القابع فيها منذ سنوات.
تحركات عاجلة
في السنوات الأخيرة بدأت السلطات التركية في دقّ ناقوس الخطر إزاء السمنة، بعدما تحولت إلى تحدٍّ اقتصادي ومجتمعي وصحّي ربما يعرقل خطط البلاد التنموية، وعلى الفور تبنّت وزارة الصحة خطة طويلة المدى تستهدفُ زيادة عدد مراكز علاج السمنة البالغ عددها 120 مركزًا إلى 140 خلال الأشهر القادمة.
وتعتمدُ تلك المراكز خططًا علاجية متطورة، تتضافر فيها كافة الجهود لتطويق هذا المرض، حيث تتكاتف قطاعات التغذية والطب العلاجي والطب النفسي والجراحة من أجل الوصول إلى أفضل النتائج في علاج المرضى وفي أقصر وقت ممكن، تجنُّبًا لأي مضاعفات من شأنها أن تأزِّم الوضع.
ومن داخل مركز السمنة بمستشفى مدينة أنقرة، تسردُ عائشة أوشال (29 عامًا)، التي تعاني من زيادة الوزن والسكّر منذ طفولتها، في حديثها لـ”الأناضول” قصتها مع العلاج من السمنة، حيث فقدت 41 كيلوغرامًا خلال 3 سنوات من العلاج داخل المركز، قائلة: “لطالما سمعت عبارة “وجهك جميل لكن وزنك الزائد مشكلة بالنسبة لك””، مضيفة: “لم يكن لدي أي علم بالطعام الصحي”، وعلى الفور كان قرار التوجُّه لمركز علاج السمنة بالمستشفى.
تبذل أنقرة جهودًا ملموسة لتطويق السمنة قدر الإمكان، بعد سنوات من التجاهل والإهمال كان نتيجتها تصدُّر تركيا قائمة الدول الأوروبية الأكثر انتشارًا لهذه المشكلة
وتابعت: “في الواقع، عندما تقدمت بطلب كان هدفي هو إجراء عملية جراحية، لكن المتخصصين في المركز كان لهم رأي آخر، إذ ربما أفقدُ وزني دون تدخُّل جراحي، وبفضل اختصاصيي التغذية وعلماء النفس وأخصائيي العلاج الطبيعي في المركز، تعلّمتُ أهمية الأكل الصحي وممارسة الرياضة، ورأيت أنه لا يمكن إنقاص الوزن بسبب عوامل نفسية، وفي ظل الدعم الذي لاقيته فقدت وزني بطريقة صحية دون مضاعفات”.
التجربة ذاتها روتها هلال أوزجن (43 عامًا)، وهي أمّ لطفلَين، تشير إلى أنها تقدمت إلى مركز السمنة في يونيو/ حزيران 2020 بسبب ضيق التنفس وصعوبة الحركة وازدياد المشكلات الصحية، وأنها خضعت لعملية جراحية كان نتيجتها فقدانها 32 كليوغرامًا من وزنها البالغ 100 كيلوغرام، مضيفة: “أنا مرتاحة للغاية الآن، يمكنني التنفس، ويمكنني الصعود والنزول على السلالم، أشعر بأنني أخف وزنًا”.
في ضوء ما سبق، تبذل أنقرة جهودًا ملموسة لتطويق السمنة قدر الإمكان، بعد سنوات من التجاهل والإهمال كان نتيجتها تصدُّر تركيا قائمة الدول الأوروبية الأكثر انتشارًا لهذه المشكلة، وفي ضوء التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد والخطط التنموية التي تستهدفُ الارتقاء بمستوى تركيا، فإن ظاهرة كتلك تمثل تحديًا كبيرًا قد يضرب الأجندة التنموية في مقتل إن لم يتمَّ تداركه اليوم قبل الغد.