ضمن مسار التأسيس لـ”الجمهورية الثانية”، أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد، الجمعة الماضية، مرسومًا رئاسيًا يقضي بتشكيل “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”، ولجنتين استشاريتين وأخرى للحوار الوطني، مستبعدًا الأحزاب السياسية.
عند الإعلان عن مرسومه الرئاسي كان سعيد يعول على “تفهم” اتحاد الشغل ومشاركته الحوار إلا أن الاتحاد رفض المشاركة في حوار شكلي، الأمر نفسه بالنسبة إلى عمداء كليات الحقوق الذين اختارهم سعيد للعمل صلب اللجان المحدثة.
اتحاد الشغل يهدد بالإضراب
يبدو أن المركزية النقابية عادت إلى لعب دورها المعهود، فقد أعلن الاتحاد أنه سيقاطع “حوارًا شكليًا ومعروف النتائج” بشأن الإصلاحات السياسية والاقتصادية دعا إليه قيس سعيد الذي يستعد لإعادة صياغة دستور جديد.
يأتي هذا القرار بعد نحو شهر ونصف على إعلان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي أن منظمته اتفقت مع الرئيس قيس سعيد على “شراكة في رسم مستقبل تونس”، وقد أكد الطبوبي حينها أنه اجتمع مع الرئيس ووجد تطابقًا في وجهات النظر بشأن العديد من الملفات الحساسة.
وعُرف عن الاتحاد مساندته شبه الكلية لمسار 25 يوليو/تموز 2021 والإجراءات التي اتخذها سعيد منذ ذلك الوقت، وتضمنت حل البرلمان والهيئات الدستورية بما فيها هيئة الانتخابات ومجلس القضاء الأعلى وإقالة الحكومة واستحواذ الرئيس على كل السلطات.
لكن قرار سعيد الأخير باستحداث لجان لكتابة الدستور مثل سبب مقنع للاتحاد حتى يعدل بوصلته ويسمي الأشياء بمسمياتها، فهذا الحوار شكلي تُحدد فيه الأدوار من جانب واحد وتُقصى فيه القوى المدنية، وفق الهيئة الإدارية للمركزية النقابية.
وأوضح الأمين العام للمنظمة الشغلية الأولى في تونس نور الدين الطبوبي في تصريح للصحفيين على هامش اجتماع للهيئة الإدارية للاتحاد أن الحوار لا يرتقي إلى حل المعضلة في البلاد ولا يرسم مستقبلًا أفضل لها، وفيه تجاهل للمكونات السياسية الفاعلة في البلاد.
لم يكتف الاتحاد برفض الحوار، وإنما أقر تنظيم إضراب عام وطني احتجاجًا على تجميد الأجور والوضع الاقتصادي السيئ، على أن يتم إعلان موعده في موعد لاحق، وهو ما يمثل تهديدًا كبيرًا لسعيد.
عمداء الكليات يرفضون
رفض الحوار الذي اقترحه سعيد لم يكن من جانب الاتحاد فقط، إنما من عمداء وعميدات كليات الحقوق والعلوم القانونية التونسية أيضًا، فأعلنوا أمس الثلاثاء، اعتذارهم عن المشاركة في اللجان التي أحدثها قيس سعيد من أجل “جمهورية جديدة”.
وأعلن العمداء، في بيان لهم، رفضهم التكليف بعضوية اللجنة الاستشارية القانونية ولجنة الحوار الوطني المنصوص عليهما بالمرسوم الرئاسي الخاص بإحداث “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” التي يرأسها العميد السابق الصادق بلعيد.
بحسب المرسوم الصادر بالجريدة الرسمية يوم أمس الجمعة، فسيترأس الهيئة الوطنية الاستشارية أستاذ القانون الصادق بلعيد، وسيوكل إليه التنسيق بين لجنتين استشاريتين الأولى اقتصادية واجتماعية، والثانية قانونية، على أن ترفع لجنة الحوار الوطني المقترحات النهائية للرئيس سعيد بهدف تأسيس “جمهورية جديدة”.
تضم لجنة الحوار الوطني وفق المرسوم الرئاسي، أعضاءً من اللجنتين الاستشاريتين، دورها التأليف بين المقترحات التي تتقدم بها كل لجنة بهدف تأسيس جمهورية جديدة، على أن يتم تقديم التقرير النهائي لرئيس الجمهورية في أجل أقصاه 20 يونيو/حزيران المقبل، أي قبل موعد الاستفتاء المعلن سابقًا في 25 يوليو/تموز المقبل.
وعبّر العمداء “عن تمسكهم بحياد المؤسسات الجامعية، وضرورة النأي بها عن الشأن السياسي”، وذلك طبقًا لأحكام الفصل 15 من دستور 27 جانفي (يناير/كانون الثاني) 2014، وبالقيم والحريات الأكاديمية المعمول بها والمتفق عليها، حتى “لا ينجروا إلى اتخاذ مواقف من برامج سياسية لا تتصل بمسؤولياتهم الأكاديمية والعلمية والبحثية والتأطيرية”.
وكان سعيد قد أصدر مرسومًا يقضي بإنشاء لجنة استشارية قانونية، أعضاؤها هم عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية بتونس، على أن يتولى رئاسة اللجنة أكبر الأعضاء سنًا، وستتولى هذه اللجنة الاستشارية القانونية إعداد مشروع دستور جديد.
وقبل صدور موقف العمداء، اعترض أكثر من 70 أستاذًا جامعيًا من المنتمين لكليات الحقوق والعلوم القانونية في تونس، على المرسوم الرئاسي، مستنكرين “هذا الأسلوب المسقط في اختيار أعضاء اللجنة من عمداء الكليات بعيدًا عن كل تشاور وتحاور وطني واسع وحقيقي”.
المحامون على الخط
في نفس الصدد أعلن عدد كبير من المحامين رفضهم القطعي لتوريطهم من نقيب المحامين إبراهيم بودربالة في مشروع الحوار الوطني الذي دعا له قيس سعيد، وذلك على خلفية تعيين سعيد لبودربالة رئيسًا لإحدى “لجان الجمهورية الجديدة”.
وقال المحامون في عريضة وطنية وقع عليها أكثر من 60 محاميًا: “تعيين بودربالة مكافأة مقابل انخراطه في التبرير لكل خيارات وانتهاكات رئيس الدولة طيلة الأشهر الماضية”، واتهم المحامون نقيبهم بأنه “بصدد توظيف المحاماة لحساب السلطة الحاليّة وهي بصدد إعداد مشهد إخراجي مبتذل لحوار شكلي ضمن تنفيذ مخططها لاستهداف المكتسبات الديمقراطية”.
من شأن هذا التحرك أن يضغط أكثر على عميد المحامين الذي امتهن في الفترة الأخيرة تبرير قرارات الرئيس سعيد وتحركاته، بهدف الاستفادة من بعض الامتيازات في الجمهورية الجديدة التي يؤسس لها قيس سعيد.
بعثرة أوراق سعيد
رفض الاتحاد وعمداء الكليات التورط في مشروع الرئيس من شأنه أن يبعثر أوراق قيس سعيد لبعض الوقت، خاصة أن موعد الاستفتاء على الدستور المقرر في 25 يوليو/تموز المقبل اقترب ويجب على سعيد دعوة الناخبين للاستفتاء منتصف الشهر القادم.
هذه المواقف ومظاهرات المعارضة من شأنها أن تضغط على سعيد حتى يعيد النظر في التمشي الذي اختاره لإقرار “الإصلاحات” التي قال إنها كفيلة بحل أزمات تونس المتعددة، لكن من المعروف أن سعيد لا يستجيب لأحد ولا يسمع إلا صوته.
السؤال المطروح الآن: كيف سيتعامل سعيد مع رفض عمداء الكليات العمل في اللجنة الاستشارية القانونية التي أمر بإنشائها في مرسومه الأخير؟ لكن من المرتقب أن يلغي سعيد هذه اللجنة خاصة أن عملها استشاري.
تؤكد هذه التطورات المتواترة أن قيس سعيد ماض في عزل نفسه بنفسه، فكلما مر يوم فقد أحد أنصاره الذين كان يعتمد عليهم إلى وقت قريب في شرعنة برنامجه وتأكيد صحة تمشيه وصواب قرارته، ما يعني أن سعيد وضع نفسه في ورطة.
رغم ذلك، ليس من المتوقع أن يتراجع سعيد – الذي أغلق البرلمان بالدبابات وعلق الدستور وحل مجلس القضاء الأعلى وهيئة الانتخابات وأقصى الأحزاب والأجسام الوسيطة من المشهد العام – قيد أنملة في برنامجه القاضي بهدم كل المؤسسات.